انسحاب المغرب من الكركارات.. عن السياقات والدلالات

Spread the love

بقلم: عبد الفتاح نعوم* — كل المشاكل التي موضوعها الحدود أو الوجود، والتي تدور بين المغرب والجزائر، لا يمكن عزلها بأي حال من الأحوال عن قضية النزاع الدائر في الصحراء وحولها منذ سنة 1974. ذلك أن النزاع إياه من مخلفات الاستعمار الاسباني والصورة التي أراد التخلي وفقا لها عن الأراضي المحتلة، ومن ناحية ثانية هو نزاع يمكن اعتباره من مخلفات الحرب الباردة، باعتبار ما آلت إليه الاصطفافات التي حملت كلا من المغرب والجزائر إلى معسكر نقيض.
يمكن القول إن كلا البلدين يسعى لأن يكون القوة الإقليمية الأكثر تأثيراً، سيما من حيث سعي كل منهما إلى توفير إمكانية الربط القاري الأوروبي الإفريقي، من خلال تقديم جغرافيا جسرية آمنة تعبر عبرها السياسات العالمية، إلى إفريقيا، القارة التي ستطبع القرن الواحد والعشرين على حد تقدير عدد من الأدبيات الإستراتيجية. والمغرب بطبيعة الحال يملك الكثير من الخصائص التي تؤهله للقيام بهكذا دور، خصوصاً منها واجهتاه الأطلسية والمتوسطية، واستقراره السياسي في ظل ملكيته التنفيذية الحائلة أمام تأثير تقلبات النخب السياسية، علاوة على قربه من أوروبا عبر البوابة الاسبانية.
لهذه الأسباب ولغيرها، تحولت دفة السياسة الخارجية المغربية من الاهتمام الشرق أوسطي والعربي، والاهتمام الأورو متوسطي، والاهتمام المغاربي، نحو الاهتمام الإفريقي الصرف، الأمر الذي تتوج بعودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي الذي غادره منذ سنة 1984، احتجاجاً على ما يعرف بـ”الجمهورية العربية الصحراوية” غير الحائزة على الاعتراف الأممي. العودة غير المشروطة بإلغاء الاتحاد الإفريقي الاعتراف بدولة البوليساريو، تشير إلى تحول جوهري في السياسة الخارجية المغربية، سمته الميل صوب التواجد في جميع المواقع، وملء الفراغات، والمزج بين التعاون والتنافس، في إعلان عن انتهاء اللعبة الصفرية.
وفي هذا السياق جاء إعلان المغرب رسمياً عن انسحابه الأحادي الجانب من منطقة الكركارات الحدودية بينه وبين موريتانيا، وذلك استجابة لبيان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، القاضي بضرورة ضبط النفس والانسحاب من المنطقة، بعد الاتصال الذي جرى بين العاهل المغربي والأمين العام للأمم المتحدة، الذي طالب فيه المغرب بضرورة وضع حد لاستفزازات البوليساريو. وهي الاستفزازات التي كانت تستهدف ربما جر المغرب إلى حرب، تعصف باتفاق وقف إطلاق النار الموقع منذ 1991، وتحول نزاع الصحراء مجدداً إلى موضوع عالمي، بدل وضعيته الحالية (الهامشية) على أجندة الأمم المتحدة.
لقد جاء قرار الانسحاب وإعادة انتشار قوات الدرك الحربي بعدما حقق المغرب أهدافه من دخوله إلى المنطقة العازلة منتصف شهر أغسطس آب 2016، في إطار قيام المصالح الأمنية وعناصر الجمارك بعمليات تطهيرية في منطقة “الكركارات”، وذلك من أجل الحد من أنشطة التهريب والتبادل التجاري غير المشروع التي تعرفها المنطقة، بعدما غض الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي مون الطرف عن ما تقوم به البوليساريو منذئذ، إمعاناً في استفزاز الجيش المغربي واستدراجه إلى الوقع في فخ خرق اتفاق إطلاق النار. وهو ما يفسّر إبقاء البوليساريو على عناصرها في الكركارات، والاستمرار في عرقلة شاحنات البضائع المغربية بين المتجهة إلى موريتانيا أو القادمة منها.
لقد كان امتثال المغرب لبيان الأمين العام منسجماً مع اعتباره الأمم المتحدة هي الفاعل الوحيد المخول له القيام بدور الوساطة في هذا النزاع، مترجماً سعيه الدائم إلى الظهور كطرف مسؤول دولياً حيال السير الطبيعي للنزاع صوب الحل. وهو الأمر الذي تعضد بالمواقف الإيجابية للقوى الدولية كفرنسا والولايات المتحدة، حيال امتثال المغرب لنواظم القانون الدولي.
يؤسس المغرب تحركاته على قرارات الشرعية الدولية، وذلك منذ أن أصدرت محكمة العدل الدولية في 16 أكتوبر تشرين الأول 1975 رأيها الاستشاري حول “الساقية الحمراء ووادي الذهب”، وتضمن ذلك الرأي اعتبار ارتباط المنطقة المذكورة قبل الاستعمار الاسباني بملوك المغرب، عبر “روابط البيعة”، بناء على الوثائق التي توفرت للمحكمة حينئذ. غير أن 27 فبراير شباط 1976 سيشهد ميلاد ما يسمى “الجمهورية العربية الصحراوية” تحت قيادة البوليساريو، بدعم دبلوماسي وسياسي ولوجستي من الجزائر، لم يتأت مثله للكثير من المشاريع ذات العمق الشعبي الحقيقي عبر العالم.
وبالتالي فالمغرب يعيد ترتيب زوايا سياسته الخارجية، ليتناسب مع ما يطمح إليه من ريادة إفريقية، ذلك أنه عاد إلى البيت الإفريقي وهو ثاني أكبر مستثمر إفريقي في إفريقيا، حيث التنافس قائم مع الجزائر على مستقبل منطقة الساحل والصحراء، وحيث يعطي المغرب عن نفسه صورة الدولة المسؤولة أمام المنتظم الدولي، من حيث الالتزام والسلوك التفاوضي العقلاني، الذي تجسده التنازلات المدروسة، كاقتراحه الحكم الذاتي كحل نهائي للنزاع الدائر في الصحراء، والتي نجح إلى حد بعيد في جعلها قضية شعبية أكثر منها قضية مؤسسات الحكم، بصرف النظر عن التدبير السيء في مستويات معينة للملف، وبصرف النظر عن تشوش واختلال زوايا الرؤية والمعالجة والتعاطي معها، سواء أكان ذلك على صعيد تصورات الرأي العام، أو النخب أحياناً.

*كاتب وباحث مغربي

المقالة تعبّر حصراً عن رأي الكاتب ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع

Optimized by Optimole