الدولة الوطنيّة العربيّة والعقد الإجتماعيّ الرعويّ

Spread the love

شجون عربية_ بقلم: صلاح سالم _ كاتب وباحث من مصر

بدَّل مفهوم العلمانيّة نظرة المُحدثين إلى ظاهرة السلطة وقضيّة الشرعيّة السياسيّة من الحقّ الإلهيّ المقدَّس إلى الإرادة العامّة للجماعات البشريّة، ومن ثمّ انتهت العصور الوسطى جوهريّاً وبزغ أُفق الحداثة السياسيّة أعقاب مُعاهَدة وستفاليا التي وُلدت من رحمها الدولة القوميّة، ثمّ نظريّات العقْد الاجتماعيّ التي تصوَّرت عقداً مكتوباً بين مَحكومين أرادوا الخروج من حالة الطبيعة، حيث العنف العاري وقوانين الغاب، إلى أُفق التحضُّر، حيث الأُسس المدنيّة والشرائع القانونيّة للمُجتمعات، وإنْ اختلفت أشكال هذا العقْد بين مفكّر وآخر، انطلاقاً من فهْمه لحالة الطبيعة.

تصوَّر توماس هوبس مثلاً حالة الطبيعة تلك فوضويّة ووحشيّة، بما أنّ الناس أنانيّون وقُساة بالفطرة؛ لذا احتاجوا إلى سلطة تضبط سلوكهم، وكي تكون السلطة فاعلة يجب أن تكون مُطلَقة، يمنحها الناس إلى الحاكم ثمّ يتوقّفون عن مساءلته، لأنّهم لم يفوِّضوها إليه، بل تنازلوا عنها. ومن ثمّ دافعَ هوبس عن الدولة القويّة مثل تنّين قادر على هضْم مفرداته، وعن حاكِم مُطلَق، مُستبدّ يستطيع فرْض سلطته والسَّير بالشعب إلى حيث يريد، طالما استطاع تحقيق الأمن. والحقيقة أنّ هوبس أراد في تبريره للحُكم المُطلَق أن يُبرِّر السلطة المُطلَقة لعائلة آل ستيوارت في إنكلترا؛ حيث كان ربيباً لها بقدر ما كان أقرب إلى مثقّف العصور الوسطى التبريري. نعم تحدَّث عن دولة علمانيّة، ولكنّها لم تصبح بعد ديمقراطيّة أو ليبراليّة.

ومن جانبه، اعتقد جان جاك روسّو أنّ الإنسان خَيِّرٌ بطبعه، وأنّ حالة الطبيعة كانت مثاليّة شهدت تعاون الأفراد وتكافلهم لمصلحة الجماعة، ولكنّ نزعة التملُّك الأنانيّة أفسدتها منذ قام أوّل رجل ببناء سورٍ حول قطعة من الأرض وقال للآخرين: هذه لي، فنشأ التفاوُت بين البشر بفعل الملكيّة الخاصّة التي أَنتجت مُجتمعاً فوضويّاً عنيفاً، يحتاج إلى التنظيم كي يستعيد حالة الطبيعة الأولى (الفطرة)، ومن ثمّ يتبدّى العقد الاجتماعي لدى روسّو شرّاً لا بدّ منه. إنّه تنازلٌ من جميع أفراد الجماعة البشريّة، ولكنْ ليس لمَلِكٍ كما تصوَّر هوبس بل لمصلحة الإرادة العامّة التي احتلّت مَوقع السيادة العليا. وإذا مارسَ الحاكِم تلك السيادة نيابة عن الإرادة العامّة، فذلك مقابل التزامه بأمرَين: أوّلهما أن يتكفّل بوضْع الدستور وضمان استقراره، فلا يتمّ السعي إلى تبديله إلّا بمُوافقة مُمثّلي الإرادة العامّة، وكذلك القوانين الأساسيّة المُلزِمة للجميع ومن بينها القانون الذي يرتِّب طريقة اختيار الحُكّام من بعده. وثانيهما ألّا يُمارِس سلطته الموكولة له إلّا وفقاً لمقصد موكّليه، وأن يجعله يفضِّل في كلّ مناسبة المصلحة العامّة على المصلحة الشخصيّة.

أمّا جون لوك، فقد رأى أنّ العقد لم ينشأ عن تنازل أصلاً، بل تمّ بين طرفَين هما الهيئة الحاكِمة والشعب، وأنّ الأفراد تنازلوا بموجب هذا العقد عن بعض حقوقهم، وليس كلّها. وأنّ الحقوق التي تنازلوا عنها هي بالقدر اللّازم لإقامة السلطة العامّة في المجتمع. وأنّهم احتفظوا لأنفسهم بالجزء الباقي من حقوقهم، ولا يحقّ لأيّ سلطة المساس بهذا الجزء الذي احتفظوا به، وأنّ على السلطة أن تحترم الحقوق الأساسيّة العليا التي بقيت في أيدي الأفراد، حتّى بعد إبرامهم العقد الاجتماعي؛ فسلطة الحاكِم إذاً مفوَّضة ومقيَّدة، تستند إلى رضاهم وإرادتهم الحرّة. وإذا ما أخلّ بالتزاماته المقرَّرة في العقد، جاز لهم فسخه، فالشعب وحده هو مصدر السلطات؛ لذا فقد نادى بجعْل السلطة التشريعيّة في يد الشعب، وأصرَّ على أن تكون هي السلطة العليا في الدولة، وفصْلها عن باقي السلطات الأخرى، لأنّها إنْ لم تنفصل فستنقلب الحكومة إلى نَوعٍ من الطغيان.

عرضنا هنا لطبيعة العقْد الاجتماعي لدى روسّو قبل لوك، على الرّغم من أنّه يعقبه زمانيّاً، وأنّه عاش إلى ذروة عصر التنوير وحتّى مَشارف الثورة الفرنسيّة، ربّما لأنّ فكره يعكس خلْطاً وتشوّشاً. فمن ناحية، نجد حديثه عن الإرادة العامّة هائماً وغير محدَّد، يدور في فلك النزعة الرومانسيّة التي بدت ردّاً على عقلانيّة التنوير الصارمة، والتي كان هو أحد أقطابها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ومن ناحية أخرى، نجد تصوّراته عن أشكال الحكومة رجعيّةً إلى حدٍّ بعيد تكاد تشبه الفكر اليوناني، وخصوصاً لدى أفلاطون، فهو لا يثق في جموع الناس، ومن ثمّ يبدي شكوكاً عميقة إزاء الديمقراطيّة؛ بحيث يُمكن القول إنّ مفهوم العقد لدى روسّو يمثّل ردّة عنه لدى لوك، وأنّ الديمقراطيّة التمثيليّة، كما هي اليوم، إنّما تدين بالفضل أكثر إلى جون لوك، الذي انتقل بالعقْد الاجتماعي نقلة كبيرة إلى الأمام، كرَّست دنيويّته مثل هوبس من قبله وروسو من بعده، ولكنّه زاد أيضاً من ديمقراطيّته، بحيث يُمكن اعتباره الأبّ الأوّل للنظام التمثيلي، مثلما كان هو الأبّ لمفهوم التسامُح السياسي في معناه الحديث.

غير أنّ العقْد الاجتماعي الذي بدا تحرّريّاً لدى روسّو، مؤسَّساً على الفصل بين السلطات مع مونتسكيو، مع علوّ السلطة التشريعيّة كمصدر للسيادة لدى جون لوك، عاد ليتحوّل إلى عقْدٍ شموليّ لدى الفيلسوف الألماني هيغل الذي بلغ به تمجيد الدولة حدّ عبادتها، الأمر الذي سوف يفرز بعد قليل أزمة بنيويّة في مُواجَهة الديمقراطيّة.

من القوميّة إلى الشموليّة

لقد اعتبر هيغل أنّ هدف “نَيل الاعتراف والتقدير” هو محرِّك أساس للتطوُّر التاريخي، وأضاف، مُحقّاً، هدفاً معنويّاً يعطي للفكر الإنساني شموله، على عكس ماركس الذي سيختزله بعده بقليل في البُعد المادّي/ الجدلي على نحو يُفقّره. لكنّ مشكلة هيغل تكمن فى طبيعة نسقه الفلسفي الغائي والشامل، والمُفعم في الوقت ذاته بثغراتٍ تسمح بتقديم تأويلات مُتناقضة له. على سبيل المثال، لم يقصر هيغل هذا الهدف على الأفراد، بل انصرف به إلى الدولة، فغاية التاريخ هي الحريّة، ولكنّ الحريّة الأصليّة/ العقليّة لدى الفرد تعوقها الحواس والرغبات الأنانيّة، ولذا يتعيّن على الدولة ضبْط هذه الغرائز حتّى تنبلج الحريّة الإنسانيّة ناصعة. وعوَّل هيغل على مركزيّة الدولة ورأى في حريّتها ضمانة لتحرُّر مواطنيها، ومن ثمّ ولدت القوميّة العضويّة، وبعدها الشموليّة الخطرة، فالحريّة لديه ليست ليبراليّة تُعوِّل على الذات الفرديّة وتثق بها، بل شموليّة تُعلي الكيان الكلّي على الجزئي، والدولة على الفرد. هذا الفهم سرعان ما توسَّع فيه الفيلسوف فيخته مُعتبراً أنّ القوميّة الألمانيّة هي الرابطة الوحيدة التي يُمكن اعتبارها رابطة قوميّة حقيقيّة، فيما قام نيتشه بابتذال مفهوم القوميّة تماماً، باعتباره مجرّد انعكاس لعرق خاصّ هو العرق الآري المتميّز على كلّ الأعراق والشعوب الأخرى. وقد جسَّده بسمارك عمليّاً بتوحيد الأقاليم الجرمانيّة المُبعثرة حول بروسيا في ألمانيا عبر القوّة العسكريّة.

في السلطة الرعويّة

في السياق العربي، تأخّرت الحداثة الثقافيّة حتّى القرن التاسع عشر، فلم تولَد مسيرة واضحة للعلْمنة السياسيّة، ولم يتبلور أيّ مفهوم للعقْد الاجتماعي بالمعنى الحديث، فظلّت مُجتمعاتنا أسيرة عقْد بدائي يتمثّل في أنموذج “السلطة الرعويّة”، الذي يُجسِّد المُعادِل العربي للإقطاع الأوروبي. وجوهره أن تقوم فئةٌ ما أو جماعة وظيفيّة ليست من لحم المُجتمع بأداء الوظيفة العسكريّة فيه والذَّود عنه؛ وفي المقابل تتحكّم في سلطته السياسيّة وموارده الاقتصاديّة. بدأ هذا العقْد بهَيمنة الفُرس على الخلافة العبّاسيّة في عصرها الأوّل، قبل أن تبدأ هَيمنة الأتراك، بعنفوانهم العسكري وضعفهم الحضاري، على العصر العبّاسي الثاني. وقد تدعّم هذا العقْد الرعوي بالاجتياح التتري، فالتتار بدو رحَّل في الأساس، يتميّزون بالقوّة والهمجيّة ولا يملكون ثقافة تُذكر، كما يفتقدون إلى البناء الاقتصادي الذي يكفل إعاشتهم، ولذا كان هجومهم على العالَم العربي محض مُمارَسة لنشاطهم المُعتاد (اقتصاد الغزو) حيث تكون القوّة العسكريّة واستخداماتها في السلب والنهب هي الوسيلة المثلى لكسب العيش، ومن ثمّ مثَّلوا أنموذجاً معياريّاً للسلطة الرعويّة، استمرّ على نحو ما في العصر المملوكي ثمّ العثماني وحتّى القرن العشرين من دون مُمانعة عربيّة تذكر.

عندما سقطت الخلافة العثمانيّة في العام 1924، وزال الاحتلال الأوروبي حوالى منتصف القرن العشرين، بدا وكأنّ المُجتمعات العربيّة قد أدمنت السلطة الرعويّة فلم تعُد تقاومها، بل صار لديها قابليّة الخضوع لأيّ سلطة ترثها. وبدلاً من الخضوع للنخب العرقيّة غير العربيّة، خضعت للنخب العسكريّة العربيّة التي طالبت بالاستقلال أو حصلت عليه، ومن ثمّ تأسّست الدولة الوطنيّة الوليدة على قاعدة الشموليّة السياسيّة وتمدُّد الجيش في الحياة المدنيّة‏. وهكذا ارتبط الاستبداد العربي بحُكم الجنرالات الذين حاولوا صياغة مُجتمعاتهم على منوال التنظيم العسكري وما ينطوي عليه من تراتُب قيادة يعتبرونها أداة لتحقيق الانضباط وسرعة اتّخاذ القرارات والقدرة على الإنجاز. إنّه النمط الذي لم يعرفوا غيره، ولا يستطيعون التكيُّف مع نقيضه المدني، القائم على التعدُّد والاختلاف، فمفردات كالخيال والحريّة والفرديّة والتعدّديّة، تتبدّى للجنرال نزعات عبثيّة، حاملة لبذور تفسُّخٍ مُجتمعي وفوضى سياسيّة، يتوجّب الخلاص منها ليبقى المُجتمع مُتماسكاً غير مُنقسم بين فرقاء مُتصارعين، ويظلّ الوطن آمناً غير مُخترَقٍ من أجانب مُتآمرين.

وبينما كان الألمان يتخلّون عن قوميّتهم العضويّة ونزعتهم البروسيّة في منتصف القرن العشرين، ويعيدون نسج دولتهم على المنوال الفرنسي بحسب مبدأ المُواطَنة والعَيش المُشترك، والاندماج الطوعي، كان العرب يستعيرون من الألمان مفهومهم للقوميّة العضويّة كجسدٍ سياسي يمتصّ المُواطِن/ الفرد الحرّ ويذيبه في شموليّته. وفي الوقت الذي كانت ألمانيا تتطهَّر من النزعة التوسّعيّة وتنسج ثوب الاتّحاد الأوروبي من خيوط الوحدة الطوعيّة بين دوله، كان صدّام حسين يلتمس النموذج البسماركي في غزو دولة الكويت المستقلّة، باعتبارها مُحافظة عراقيّة شاردة. وفي لحظة هزيمته ويأسه في الخارج اقتحم مناطق الأكراد في الداخل ليقتل الحياة فيها بأسلحته الكيماويّة، فتزداد رغبتهم في الانفصال السياسي بعدما عزّ عليهم الاندماج الثقافي. وهكذا صار هؤلاء خصماً للدولة العراقيّة التي كانت رافعة أساسيّة للأمّة، فإذا بها اليوم عبئاً ثقيلاً عليها.

واليوم، تشتدّ النزعات الانفصاليّة لدى جلّ المكوّنات القوميّة والمذهبيّة في اليمن والعراق وليبيا وسوريا ولبنان، بعدما خذلت الدولة الوطنيّة العربيّة الاجتماع السياسي العربي، وعجزت عن أن تصير بوتقة صهرٍ حقيقيّة لكلّ مكوّناته، وخصوصاً غير العربيّة عرقاً أو غير المُسلمة ديناً، فإذا بها تشرب من الكأس المرير التي كانت سقت منها تلك المكوّنات، التي استحالت قنابل موقوتة داخلها يستغلّها الآخرون في تفجيرها، وخصوصاً القوى الإقليميّة الكبرى المُحيطة بها، والتي تسعى إلى شدّ أطرافها وتقويض استقلالها. وهكذا بات مصير تلك الدولة على المحكّ، حيث تخوض اليوم ما يشبه معركة وجوديّة، لن تتمكّن من الانتصار فيها إلّا بمُغادرة مربّع القوميّة العضويّة والدولة الشموليّة إلى القوميّة المُنفتحة والدولة الدستوريّة المدنيّة، التي تتّسع لكلّ مكوّناتها، ويُحترَم الإنسان فيها باعتباره المُواطِن المُتمدّن والفرد الحرّ.

Optimized by Optimole