الأوبئة في السرديّات التراثيّة العربيّة

Spread the love

د. نبيل سليمان _ روائي وناقد من سوريا/

بدأت الكتابة العربيّة عن الأوبئة في القرن الثالث هجري/ التاسع ميلاديّ، وذلك في سرديّاتٍ تاريخيّةٍ وإخباريّة، أحصى منها محمّد علي عطا 154 كِتاباً ورسالةً حول الطاعون بخاصّة والأوبئة بعامّة، ومنها ما هو مجهول المؤلِّف، ومنها ما لا يزال مخطوطاً. وإذا كانت السرديّات قد جعلت وكدها في ما عاصرتْ، فمنها أيضاً ما عُني بما مضى، حيث تواترت الأوبئة، كما يجلو أحمد العدوي في كِتابه “الطاعون في العصر الأمويّ: صفحات مجهولة من تاريخ الخلافة الأمويّة”، إذ يحصي عشرين طاعوناً في ما بين خلافتَي معاوية بن أبي سفيان ومروان بن محمّد، حتّى أخذ الخلفاء يعزفون عن الإقامة في دمشق، وكان -كما يرى بعضهم- أن عجّل الطاعون بالسقوط الأمويّ والظهور العبّاسيّ.

من السرديّات التراثيّة ما خصّ وباءً ما بشطرٍ منه، كما فعل الطبري (839- 923م.) في “تاريخ الأُمم والملوك” حين تحدّث عن طاعون عمواس في فلسطين، أو كما فعل ابن عساكر (1106-1176م.) في “تاريخ دمشق”، وابن بطّوطة (1304-1377م.) في “تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”، وجمال الدّين بن تغري بردي (1411-1470م.) في “النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة”، وكذلك من سيَلي ذكرهم: المقريزي وابن إيّاس والجبرتي. لكنّ الأهمّ هنا هو السرديّة التي أوقفها صاحبها على الوباء، مثل “تحصيل غرض القاصِد في تفصيل المَرَض الوافد” لابن خاتمة الأندلسي (1299-1369م.). وقد أعاد هذا الطبيب منشأ وباء الطاعون الذي يتحدّث عنه إلى الصين. وأشير أيضاً إلى “الإباء عن مَواقِع الوباء” لإدريس بن حسام الدّين علي البدليسي (1452-1524م.) وإلى “ذكر الوباء والطاعون” لأبي المظفر السُّرمري (1296-1375م.)… ومن أبرز الكُتب المفقودة رسالة الكندي “الأبخرة المصلحة للجوّ من الوباء”، وكِتاب “نعْت الأسباب المولِّدة للوباء في مصر” لابن الجزّار، وكِتاب “الطواعين” لابن أبي الدنيا. أمّا المخطوطات فمنها “حلّ الحُبا لارتفاع الوبا” لولي الدّين الملوي، و”الرسالة الوبائيّة” للرازي… ولعلّ الأنموذج التالي يُمثِّل هذه الفئة من السرديّات التراثيّة للأوبئة.

كُتبٌ في كِتاب

يُشكِّل كِتاب “بذْل الماعون في فضل الطاعون” لابن حجر العسقلاني (1372 – 1449م.). علامةً فارقة في السرديّات التراثيّة للأوبئة. وعنوان الكِتاب ليس بهذه الصيغة التي أَوردها المُحقِّق أحمد عصام عبدالقادر الكاتِب فقط –وكما ذكر- عن مخطوطة مكتبة الأوقاف الشرقيّة في حلب. وكنتُ قد شاهدتُ هذه النسخة في تلك المَكتبة بخطّ اليد وبالعناوين الحمراء أثناء إقامتي في حلب في سبعينيّات القرن الماضي، لكنّي لم أقرأ منها إلّا اليسير، ومنها قصّة تراجُع عمر بن الخطّاب عن دخول الشام/ دمشق حين عَلم أنّ الطاعونَ ضارِبٌ فيها، فعاد من مَوقع (سرغ) وهو اليوم (سرغايا). كما شاهدتُ في مَكتبة الأوقاف الشرقيّة الحلبيّة مخطوطة “حُسْن النبا في جواز التحفُّظ من الوبا” لابن بيرم الثاني (1749-1831م.).

أودى الطاعون ببنات ابن حجر الثلاث، وربّما كان ذلك ما دفعه إلى تأليف هذا الكِتاب، فتتبَّع سيرة الطاعون منذ فجر الإسلام حتّى زمنه، مُسرّداً الأخبار وجامِعاً الحكايات، كما نَقل من الكُتب ما جَعَلَ كِتابه كُتباً، وفي رأس ذلك ما وصف به ابن الوردي (1292-1349م.) في مقامة “النبا عن الوبا” انتشار الوباء من الصين والهند إلى: “ما صين عنه الصّين، ولا منع منه حصن حصين. سلّ هندياً في الهند، وأسند عن السند، وقبض بكفّه وشبّك على بلاد أزبك. وكم قضم من ظهر في ما وراء النهر، ثمّ ارتفع ونَجَمَ، وهجم على العجم، وأوسع الخطا إلى أرض الخطا، وقَرَمَ القرم، ورمى الروم بجمرٍ مُضطرم، وجرّ الجرائر إلى قبرص والجزائر، ثمّ قهرَ خلقاً بالقاهرة، وتنبّهت عَينه بمصر فإذا هُم بالساهرة”. ثمّ يتتبّع الكاتِب انتشار الوباء إلى فلسطين ولبنان وسورية فنقرأ: “ثمّ غزا غزّة، وهزّ عسقلان هزّة، وعكّ إلى عكا، واستشهد بالقدس وزكّى. ثمّ طوى المَراحِل ونزل الساحل، فصاد صيدا، وبَغَت بيروت كيدا. ثمّ سدَّد الرشق إلى دمشق، فتربَّع وتمدَّد، وفتكَ في كلّ يَوم بألفٍ أو أزيَد، وأقلّ الكثرة، وقتل خلقاً بثبرة”. وفي دمشق يُفصِّل الكاتِب في أحيائها قبل أن يُتابِع في سورية بتفصيلٍ أكبر لنرى الوباء وقد “أمزّ المزّة، وبرزَ إلى برزة، وأَزبد على الزبداني نعشه، ورمى إلى حمص بخَللٍ، ثمّ طلّق الكنّة في حماة، فبرد أطراف عاصيها من حِماه. ثمّ دخل معرّة النعمان فقال لها: أنتِ في أمان. حماة تكفي في تعذيبك، فلا حاجة لي بك. ثمّ سرى إلى سرمين والفوعة، وشغب على السنّة والشيعة، وسنّ للسنّة أسنّته مِشرعاً، وشيّع في بلاد الشيعة مصرعاً، ثمّ أنطى أنطاكيّة بعض النصيب، ثمّ قال لشيزر ولحارم: لا تخافا منّي، فأنتما من قبل ومن بعد في غنىً عنّي، فالأمكنة الرديّة تصحّ في الأزمنة الوبيّة”.

في هذا الوصف لانتشار الوباء في القارّات كثيرٌ من الشعر الذي تجاوزته، حتّى إذا حلّ الوباء في حلب، أقبل الوصف على أحوال المدينة، فالأعيان يُطالعون الغوامض من كُتب الطبّ، ويُكثرون في العلاج من أكل النواشف والحوامض “قد تُنغص عيشهم الهني بمُلاطَخة مُسلم الطينةِ الطينَ الأرمني. وقد لاطفَ كلٌّ منهم مزاجه وعدّل، وبخّروا بيوتهم بالعنبر والكافور والسُّعر والصندل، وتختّموا بالياقوت، وجعلوا البقل والخلّ والطحينة من جملة الأدم والقوت، وأقلّوا من الأمراق والفاكهة”. لكنّ حال حلب الأخرى التي ليست حلب الأعيان ليس كذلك، فلو “شاهدت كثرة النعوش وحملة الموتى، وسمعت بكلّ قطر من حلب نَعياً وصَوتاً، لولّيت منهم فراراً وأبيتَ فيهم قراراً. ولقد كثُرت أرزاق الجنائزيّة فلا رزقوا، وعاشوا بهذا المَوسم وعرفوا، فلا عاشوا ولا عرقوا، فهم يلهون ويلعبون، ويتقاعدون على الزبون”.

ونقلَ ابن حجر العسقلاني ممّا قرأ في كِتابٍ لابن أبي جحلة واصِفاً الوباء في دمشق: “وأمّا دمشق فإنّني كنتُ بها، فشاهدتُ حالها الحائل وحائطها المائل، وحصلَ للناس الخضوع والخشوع والتضرُّع والتوجُّع والتوبة والإنابة. وبلغ عدد مَن يموت داخل السور خاصّة، في كلّ يَوم ألف نَفس. وصلّى الخطيب بالجامع على خمسة (كذا) وستّين نَفساً دفعةً واحدة، فكان ذلك أمراً مهولاً، وحصلَ بسبب ذلك في الجامع ضجّة عظيمة”.

يوميّات مدينة مَوبوءة

بين السرديّات التراثيّة التي بدأت تظهر منذ القرن الرابع عشر ما كان سجلّاً للحياة اليوميّة لمدينةٍ أو بلاد، وفي الصدارة تأتي كُتب “إغاثة الأمّة بكشْف الغمّة” للمقريزي (1364-1442م.)، و”بدائع الزهور في وقائع الدهور” لابن إيّاس (1448-1523م.)، و”عجائب الآثار في التراجِم والأخبار” للجبرتي (1753-1725م.). وقد حضر فيها جميعاً وباء الطاعون. ولكنْ إذا كان كُتّاب السرديّات التاريخيّة من النُّخبة، فثمّة مَن كَتَبَ من الهامش مثل تلك “السجلّات”، ومن ذلك كِتاب “حوادث دمشق اليوميّة” للبديري الحلّاق (1701-1762م)، وكِتاب “حوادث حمص اليوميّة من سنة 1688 إلى سنة 1722م” لمحمّد مكّي الخانقاه (1688-1723م.)، وكِتاب “حوادث حلب اليوميّة 1771-1805م – المرتاد في تاريخ حلب وبغداد”. وتحت العنوان جاء: “دوّنها يوسف بن ديمتري بن جرجس الخوري عبود الحلبي”. ويرسم هذا الكِتاب الذي حقَّقه فوّاز محمود الفوّاز صُوراً تفصيليّة لما كانت عليه حلب تحت وطأة القحط والجوع والانكشاريّة عندما ضربها الطاعون، ففاقَم ما هي فيه حتّى بات الفقراء، كما نقرأ في هذا الكِتاب: “أجواقاً أجواقاً ينبحون مثل الكلاب من الجوع”. وقد بلغ الأمر أن أُبدِل الحُكم على السارِق بسبب الجوع بتعهّده بإعادة ما سرق. ويروي المؤلِّف أنّ وباء الطاعون كان قد تفاقَم في الساحل في شهر أيّار، ومنه قدم إلى حلب في العام 1787 مطعونون، كما فرّ الناس من الوباء، من إدلب وجسر الشغور إلى سوار حلب. وقَدِم مَقادِسة مطعونون (من القدس) ونزلوا في البساتين المُحاذية لحلب يَوماً، في ما يُشبه اليوم حَجْر القادمين من الخارج. لكنّهم دخلوا حلب في اليوم الثاني غير آبهين بتعليمات الحَجْر، واختلطوا بالناس، ففشا الوباء. ويرسم المؤلّف انتشار الوباء من مصر إلى عكا، فإلى صيدا، فإلى بيروت وما يليها، وذلك عام 1785، وبلغ الأمر في إحدى القرى قرب بيروت أن يُترك مَكانه من يُصيبه الطاعون حتّى يموت.

من حِكايات هذا الكِتاب أنّ رجلاً هربَ من قريته خَوفاً من الطَّعن. وبعد فترة عَلِم بطعْن زوجته ووفاتها، فاتّفق مع خمسة رجال على أن يذهبوا إلى منزله ويدفنوا زوجته مقابل حليّها، ففعلوا، لكنّهم، ماتوا، ولم يُدفنوا.

يرصد مؤلِّف الكِتاب من أحوال الوباء ارتفاع الأسعار، وقلّة وفاة المسيحيّين بالنسبة إلى المُسلمين، وعدم زيارة المرضى، وعزلهم أسابيع، وندرة المَوادّ، وعدم وفاة أحد من حفّاري القبور ومُتعهّدي المَقابِر (متولّي التربة). وفي الآن نفسه ظلّت الأسواق مفتوحة، فلم يحدث رعب ولا هجرة من المدينة، وإن يكن بعض المُسلمين قد انتقلوا إلى خارجها مؤقّتاً، بينما لازمَ آخرون منازلهم. أمّا اليهود والمسيحيّون الأقرب إلى مَقام الأوروبيّين، فقد تعلّموا منهم الاعتزال بشكلٍ مُحكَم ومُنظَّم.

تحت وطأة الكورونا تردَّدت الشكوى من قصور الكِتابة العربيّة عن أحوال الناس، ومنها الأوبئة. ولكن إذا صحّ ذلك في سرديّات النهضة، وفي الرواية بخاصّة، ففيما تقدَّم، وباختصارٍ بالِغ، ما ينفي القصور عن السرديّات التراثيّة للأوبئة، وهي التي يُمكن أن نجمل القول فيها بأنّها مثَّلت هشاشة الإنسان، وخلت من الخوف الأبوكاليبسي، وظلّ التخييل فيها محدوداً، إذ غلبت عليها التأْرِخة والخَبريّة.

Optimized by Optimole