وباء كورونا وسقوط الأوهام

Spread the love

د. أميرة غنيم _ كاتبة وروائيّة من تونس/

مَن كان يحسَب، والبشريّة تحتفل بدخول العام العشرين في الألفيّة الثالثة، أنّ هذا الإنسان العظيم الذي صوّرتْ له تمثّلاتُه الثقافيّة أنّه الأتمّ بنية والأكمل صورة والأحسن تقويماً بين الكائنات الحيّة، سيقفُ عاجزاً مذعوراً أمام جُسَيمٍ طُفيليّ بدائيّ التكوين، لا يُرى إلّا بالمجهر الضوئيّ؟

هل كان يخطر ببال البشر، وقد صوّر لهُم العَجَبُ بأنفسهم وبمَخابرهم البحثيّة واكتشافاتِهم الطبيّة وإنجازاتِهم التقنيّة في تسخير الطبيعة وترويض قواها، أنّ الخطرَ المتربّص ببني الإنسان يُمكن ألّا يكون رأسا نوويّاً مصنوعاً في مصانع التسليح السريّة يُدمِّر عن طريق الخطأ الأرضَ ومَن عليها من الأحياء، ولا نيزكاً لا مُتناهياً في الكبَر يستهدف الكوكب قادماً من السماء، وإنّما فيروساً لا مُتناهياً في الصغر يذكِّر الإنسان بأنّه، على علومه ومَعارفه وخبراته، وعلى الرّغم من الأسوار الأنطولوجيّة التي شيّدتها الفلسفات والأديان بينه وبين سائر الكائنات الحيّة، كائنٌ في منتهى الهشاشة منذور للفناء لا فرق في ذلك بينه وبين سائر الأحياء.

سقوط وهْم التحكُّم والسَّيطَرة

للهَلع العالَميّ من فيروس كورونا أكثر من مُبرّر. فللمرّة الأولى يقف إنسانُ عصرِ الرقْمَنة في مُواجَهة عجزه الكامل، في الوقت الذي كان يظنّ نفسه أنّها قد بلغت في مَسار الترقّي مرحلة منتهى القوّة. فقد توهّمت البشريّة أنّها تركت خلفها وإلى الأبد، ومنذ القرن الماضي، نزوات الطبيعة القادرة، بصُدفٍ بيولوجيّة لا دخل فيها ليَدِ الإنسان، على تخليق فيروسات جديدة تتسبّب في مَوجةٍ وبائيّة يموت منها ملايين البشر. وبسببٍ من هذا الوهْم، راجت مع بداية الانتشار الوبائيّ للفيروس خارج حدود مَنشئه الأوّل في يوهان الصّينيّة نظريّاتُ المؤامرة القائلة إنّه في الأصل صنيعة مخبريّة ابتدعها الإنسان بنفسه في إطار التجارب السريّة التي تجريها بعض الدول تحضيراً لحربٍ وبائيّة قادِمة. وتُعتبر هذه التكهّنات، على سوداويّتها الظاهرة، أقوالاً مُبالغة في التفاؤل لأنّ من مُقتضياتها إرجاع الإنسان إلى مَركز السيطرة، والتوهُّمَ بأنّه قادر على وقف المدّ الوبائيّ متى أراد، أو التحكُّم في مَساره، طالما أنّ بيده مفاتيح تخليق الفيروس. ولكنْ هيهات. فمَع تسارُع نسق العدوى، وانتشار الجائحة على الخارطة العالَميّة انتشاراً أعمى، وسقوط الضحايا بعشرات الآلاف في بلدانٍ تمثّل في التصوّر السائد مَراكِز عِلميّة وبحثيّة رائدة، ومع فقدان الأمل في التوصّل إلى لقاحٍ قبل مرور سنة كاملة على الأقلّ، استقرّ وعيٌ فاجعٌ بأنّ البشريّة في مُواجَهةِ عدوٍّ مجهول صنعتْه الطبيعة بحيادها الوحشيّ لتُذكِّر الإنسان بأنّه، إن يصدقْ أنّه الكائن الأرقى بين الأجناس، لا يزال تلميذاً مُبتدئاً في مُختبر الكَون الشاسع.

سقوط وهْم الاختلاف والأفضليّة

يُذكِّر الوباء أيضاً بالمُشترَك الإنسانيّ الذي غالباً ما يُتناسى تحت قشور الاختلاف الحضاريّ. فلا شيء مثل الفزع من الموت يُميط عن الإنسان رداء الثقافة ويكشف إهابه الطبيعيّ الغريزيّ. ولذلك كانت أزمنة الحروب والأوبئة على مرّ العصور مرآةً صادقة تتأمّل فيها الذات البشريّة طبيعتها الحيوانيّة وقد فكّتها من عُقال العقل والثقافة غريزةُ حبّ البقاء.

غير أنّ لفيروس كورونا مزيّة في إذكاء هذا الوضع المأسويّ لم يُعرف لها شبيهٌ في سائر الأوبئة التي اجتاحت البشريّة. فقد أتاح له عصر الانفتاح والعولمة انتشاراً جغرافيّاً غير مسبوق، فإذا هو كالعجلة العمياء تجوب القارّات الخمس بسرعة جنونيّة وتدهس في طريقها آلاف البشر بلا تمييز. فجأةً ما عاد لمؤشّر التنمية الاقتصاديّة الذي تُصنَّف بمُقتضاه الدول إلى غنيّة وفقيرة أثرٌ في محلّها الترتيبيّ من ضمن القائمات الإحصائيّة التي تُسجِّل بحيادٍ مخيفٍ عدد الإصابات والوفيّات. وعلى خلاف المألوف، ما عاد الانتماء إلى نظامٍ سياسيّ أو نمط ثقافيّ أو مذهب دينيّ سَدّاً يُرتجى صموده أمام الخطر الدّاهم بعدما وزّعت المَوجة الوبائيّة زبَدَها على الجميع بعدّلٍ لافت.

وفي مُفارَقةٍ عجيبة، لم يعُد العدوّ الذي يُتّقى هو ذاك الآخر المُختلف، الآخر الحضاريّ أو الآخر المذهبيّ أو حتّى الآخر العسكريّ أو السياسيّ، بل غدا العدوُّ هو الآخرَ المُشابِه، الأقرب المُجاوِر الذي قد يكون ابناً أو حبيباً، فلا يمنعه ذلك من تهديد حياتكَ من خلال العدوى. بسهولة غريبة، تنجح مساحة الوباء المُحتملُ انتشارُها في الأجساد الأقرب إليكَ في أن تَلتهم المسافات التي صنعتها المواضعات الثقافيّة بين الطبقات الاجتماعيّة وبين الأديان والأعراق والألوان. فإذا بالأجساد جميعها في فترة الوباء أهدافٌ للمَرض لا أفضليّة بينها، وإذا بها جميعاً لا تعدو أن تكون دوائر بيولوجيّة تنفث من حولها العدوى المُميتة أو تلتقطها.

ذوبان الفرديّ الخصوصيّ في بحر البلاء المُعمَّم

على أنّ عبثَ الاجتياحِ الوبائيّ بالمستقرّ الثقافيّ لا يكاد يقف عند حدّ، ومثله استخفافه المُطلَق بما اصطنعه الإنسان من منظوماتٍ قيميّة وما سطّره من إجراءاتٍ اجتماعيّة. ففضلاً عن السُّخف الذي تصطبغ به في أزمنة الوباء مُشكلاتُ الأفراد الخصوصيّة في حياتهم اليوميّة، يكسو الوباءُ حدثَ الموت الفرديّ ذاته بضرْبٍ من التفاهة يُفقده جلالته الرمزيّة. ذلك أنّ الميّت في الوباء لا وزن له من الناحية الاجتماعيّة، إذ يغدو مجرّد رقمٍ من بين عشرات آلاف الأرقام في القوائم الإحصائيّة. والأسوأ من ذلك أنّ الجثمان الذي كانت الأعراف الثقافيّة تُلزم الأحياءَ بتبجيله، تغسيلاً وتكفيناً وصلاةً وأدعيةً، أو غير ذلك من طقوس العبور المُختلفة باختلاف الثقافات وترتيباتها الجنائزيّة، يُمسي بداعي الوباء مجرّدَ جثّة ذات تركيبةٍ خلويّة تَنقل العدوى ويجب التخلّص منها في مَقابِر أو مَحارِق جماعيّة بلا جنازة أو وداع. غير أنّ المأساة الفرديّة المُتمثّلة بضياع تجربة الموت الشخصيّة في خضمّ الإبادة الجماعيّة ليست في الواقع أقسى ما في الظاهرة الوبائيّة. ذلك أنّنا إذا أخذنا في الاعتبار ما تمثّله الطقوس الجنائزيّة في المِخيال الجمعيّ من انتصارٍ رمزيّ على حدث الموتِ بتحويله من ظاهرة لا سلطان للوعي عليها إلى مُناسَبةٍ اجتماعيّة يتحكّم الإنسانُ بإجراءاتها بما سنّه لها من مَراسِم مضبوطةٍ وشعائر وآداب، أدركنا الفزع الذي تستثيره الأوبئة إذ تَرجع بالموت المدجّن جزئيّاً إلى وحشيّته البدئيّة الأولى السابقة لظهور الثقافيّ في المُجتمعات البشريّة، حتّى لكأنّها تُهدِّد الحياة والموت معاً.

مُساءَلة البديهيّات ومُراجَعة المُسلّمات الإيديولجيّة

لمّا كان الأكثر استعجالاً في فترة الوباء هو النجاة من المَوجة القاتلة، فإنّ سلّم الأولويّات الفرديّة والجماعيّة يشهد على الفور تراتبيّة جديدة. فجأة ومن دون مقدّمات، يغدو الأمن الصحيّ مقدَّماً على الحريّات، فإذا بالأشكال الرقابيّة التي تُسلّطها الأنظمة على تنقُّل الأفراد، والتضييقات التي تفرضها على أنماط التزوّد بالموادّ الأساسيّة، والإجراءات العِقابيّة التي تتّخذها ضدّ المُخالفين، كلّ ذلك وغيره من الإكراهات يتحوّل من دائرة الانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان إلى خطّ الاستراتيجيّات الأمنيّة الناجعة التي يذعن لها اليوم، وبما يشبه الارتياح، ما يربو على ثلاثة مليار نسمة، بوصفها خِططاً وقائيّة لازِمة لحُسن إدارة الأزمة.

على أنّ ما يبدو اليوم أمراً مؤقّتاً قد أملته الحاجة واستوجبه الظرف يُمكن أن يغدوَ بعد فترة ناموساً جديداً. فقد علّمنا التاريخ أنّ آثار الأوبئة الكبيرة لا تزول بزوالها، فهي تُخلِّف على صفحة الوعي الجماعيّ ندوباً عميقة لا تلبث أن تُفضي بعد زمنٍ إلى مُراجعاتٍ جذريّة. أفليسَ الطاعون الذي عرفته القارّةُ العجوز خلال القرن الرابع عشر قد مهَّد للإطاحة بسلطة الكنيسة السياسيّة بعدما شَهد الناجون من الوباء عجزها الكامل عن حماية الناس؟ فماذا إنْ تُثبت الأيّام العصيبة المُقبلة أنّ أقلّ الدول نجاعةً في التصدّي للوباء وأكثرها خسائر بشريّة هي أكثرها انفتاحاً وديمقراطيّة واحتراماً للحريّات الفرديّة؟ ألا يُحتمل أن تتغيّر النظرة التوجّسيّة المُدينة للأنظمة الرقابيّة الاستبداديّة إذا ما برهنت هذه الأنظمة على أنّها الأكثر نجاعة في إنقاذ الأرواح؟ لعلّه ليس من السهل أن نتكهّن بالتحوّلات التي ستطرأ ما بعد كورونا على بنى العَولَمة التقليديّة وعلى نماذج السلط القائمة وثوابت المُجتمعات الاستهلاكيّة. ولكنّ الثابتَ أنّ للأزمات الخطيرة في تاريخ البشريّة ذاكرة طويلة المدى. وسيكون من العسير أن ينسى ضمير العالَم، بعدَ أن تزول الكارثة الصحيّة، كيف سقطت بعض المنظومات القيَميّة المُهيمِنة إلى ما دون الحضيض الأخلاقيّ حين تنكّرت بكلّ صفاقة لمبادئ التكافُل الإنسانيّ. والمؤكّد أنّ الشعوب المنكوبة ستتذكّر جيّداً المؤسّسات التي أمكن لها التعويل عليها حين ادلهمّت الآفاق، والأنظمةَ التي تجاوزت حدودها القطريّة لتمدّ يداً للإنسانيّة.

سِحر اللّحظة الرّاهنة

مهما يكُن غداً من أمرِ الجائحة وتداعياتها، فإنّ ملايين البشر القابعين في بيوتهم الآن بداعي الحجر الصحيّ يعيشون لحظاتٍ عظيمة في تاريخ الإنسان الحديث، وإنْ كان مُنتهى سُؤالهم هو زوالها. إنّها لحظاتُ سكونٍ جبريّ للتأمّل والاعتبار، تُتيح لمَن حَسب نفسه سيّد الطبيعة المُطلَق أن يستوعبَ حجمَه الحقيقيّ في النظام الكونيّ. تُريه الربيعَ ينشر بساطَه على الأرض غير حافلٍ بغيابه، والشمسَ تحضن بدِفئها الكائنات غير عابئة بأنّه حبيسٌ خلف الشرفة. تُفهمه أنّ وجوده على الكَوكب غير ضروريّ لاستمرار الحياة. فلا شيء في الطبيعة من حوله يتأثّر باحتجابه.. إلّا مقدارُ الاحتباس الحراريّ ودرجة انخرام طبقة الأوزون. ولا شيء في الكَون ينقصُ إذ يغيب.. إلّا مظاهر التلوّث والضجيج. جملةٌ من الدروس الضمنيّة تُستوعب على مهل إذ تُقدّمها باقتدارٍ بيداغوجيّةُ الوباء. دروس في فنّ العَيش، تُعلّمُ المرءَ كيفَ يستعيد دهشته كالطفل أمام الأشياء البسيطة التي ضاعت منه بهجتُها في زحمة اليوميّ وضغوطه، وكيفَ يبتسمُ سعيداً لمجرّد أنّه ما يزال على قَيد الحياة.

Optimized by Optimole