“مركز دايان”: هل ستشكل انتخابات الكنيست الـ24 منعطفا في اندماج العرب في السياسة الوطنية؟

Spread the love

شجون عربية _ بقلم: إيلي ريخس _ أستاذ زائر في جامعة نورث وسترن في إيلينوي ومسؤول عن تطوير العلاقات العلمية والتكنولوجية بين الجامعة وبين الجامعات في إسرائيل

خلال سنوات طويلة، عندما كانت مسألة دمج العرب في السياسة الإسرائيلية تُطرح في الخطاب العام ، كان يُذكر في الوقت عينه مصطلح “الإقصاء”. والمقصود عدم إدخال العرب إلى الساحة السياسية وتركهم خارج مجال التعاون الائتلافي. هذه الظاهرة كانت بارزة للعيان في انتخابات 1999: حظي إيهود باراك بتأييد جارف من الناخبين العرب، لكنه لم يرَ في الأحزاب العربية شريكاً محتملاً في تأليفه الحكومة. كما لم يعتبر هذه الأحزاب شريكة في تأييد الحكومة من الخارج ككتلة مانعة كما حدث قبل ذلك بسنوات قليلة في فترة حكومة رابين-بيرس التي اعتبر باراك نفسه استمراراً لها. العبارة التي شاعت وسط السياسيين العرب في تلك الأيام عكست تداعيات هذا الإقصاء جيداً: “لم نُعْطَ حتى حق الرفض”.
بعد مرور عشرين عاماً يمكن أن نتساءل اليوم هل بدأت هذه البديهية تتقوض، أي هل بدأ تقوُّض “نموذج الإقصاء” إذا صحت تسميته بذلك. مع الكثير من الحذر التاريخي، يمكننا التقدير أن الانتخابات القريبة للكنيست الـ24، كسابقتها في السنة الماضية، ستسجَّل في صفحات التاريخ السياسي للعرب في إسرائيل كعلامة فارقة على طريق كسر محرمات مشاركة الأحزاب العربية في الائتلافات الحكومية. هذا مسار فيه عدة محطات، ويبدو أننا في بدايته، لكن دراسة ما يحدث في هذه الفترة تُظهر بروز توجّه جديد واضح للغاية.
الخلفية لهذا التغيير هي الأزمة التي تعانيها السياسة الإسرائيلية في السنوات الأخيرة. يتضح مرة أُخرى نشوء توازن قوى متعادل تقريباً بين كتلة اليمين وكتلة الوسط – اليسار، وهذا لا يسمح لأي منهما بتأليف حكومة مستقرة تعتمد على تأييد 61 عضواً وتمثل أحزاباً يهودية فقط. بناء على ذلك، ازدادت أهمية الأحزاب العربية كعامل كاسر للتعادل.
في المعركتين الانتخابيتين السابقتين (أيلول/سبتمبر 2019 وآذار/مارس 2020) حدث تطوران مهمان:
بعد سنوات طويلة من الخصومة الأيديولوجية والخلافات الشخصية نجحت الأحزاب الكبرى في إنهاء الانقسامات التي أضعفتها، وفي سنة 2015 نشأ التحالف المنشود بين حداش وتاعل وراعم وبلد، وشُكلت القائمة المشتركة. توحّد الصوت العربي وحققت القائمة المشتركة في سنة 2019 إنجازاً تاريخياً ونالت 15 مقعداً [في الواقع في انتخابات 2019 نالت القائمة المشتركة 13 مقعداً بينما في انتخابات 2020 نالت 15 مقعداً]، وكانت الكتلة الثالثة من حيث الحجم في الكنيست.
القوة الكبيرة التي جمعتها القائمة 15 مقعداً، والقدرة على حسم مصير الكنيست وضعتها أمام معضلة صعبة: تأييد مرشح الوسط-اليسار وفي مقابل ذلك التفاوض على المشاركة في الائتلاف الحكومي، أو الامتناع من اتخاذ خطوات للمشاركة في الائتلاف. ففي قرار تاريخي وبعد نقاشات داخلية كثيرة أبدت القائمة المشتركة استعدادها لتأييد ترشيح رئيس حزب يهودي – صهيوني لرئاسة الحكومة – بني غانتس زعيم حزب أزرق أبيض. في أيلول/سبتمبر أيّده ثلاثة من أربعة مكونات في القائمة المشتركة من دون حزب بلد، لكن في آذار/مارس انضم حزب بلد إلى موقف المكونات الأُخرى في القائمة المشتركة.
لقد أظهر المعسكر العربي توجهاً براغماتياً واستعداداً تاريخياً للدخول في شراكة سياسية علنية. في المقابل تمسّك معسكر الوسط – اليسار اليهودي بالموقف التاريخي لليسار الصهيوني وأدار ظهره للعرب. إمكانات تأليف حكومة بالمشاركة مع الأحزاب العربية لم تُطرح (هذه المرة أيضاً) والبقية معروفة – انضم غانتس إلى نتنياهو في حكومة وحدة وطنية على أساس ضعيف، وبهذه الطريقة وصلت إسرائيل إلى جولة انتخابات رابعة خلال عامين فقط.

لماذا أحجم معسكر الوسط – اليسار عن هذه المشاركة؟ المهندس المسؤول عن تخطيط البنية السياسية المحكمة والمعقدة، والتي أنشأت هذا الواقع الجديد لإقصاء العرب- وللمفارقة، إمكان دمجهم فيما بعد – هو رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو.

يبدو أن نتنياهو بنى استراتيجيا متعددة المراحل. تعود جذور هذه الاستراتيجيا إلى انتخابات الكنيست الـ20 في سنة 2015، عندما قدّر بحدسه الحاد أن التهديد الأكبر لاستمرار حكم اليمين يمكن أن يأتي من جانب ائتلاف الوسط – اليسار مع العرب. بناء على ذلك، بدأت المرحلة الأولى من الخطة، رافقتها حملة شرسة لنزع الشرعية عن العرب. في انتخابات 2015 كانت عبارته المشهورة “الناخبون العرب يتوجهون بأعداد ضخمة إلى صناديق الاقتراع”، وفي الانتخابات التي جرت في أيلول/سبتمبر 2019 جاءت خطوة وضع كاميرات مراقبة في صناديق الاقتراع في البلدات العربية بحجة منع التزوير في الانتخابات. وقعت كتلة اليسار في الفخ الذي نصبه لها: واصلت كلامها اللطيف إزاء الأحزاب العربية، لكنها امتنعت من التعاون معها.

بعد أن خفض من القيمة السياسية للعرب في نظر أحزاب الوسط-اليسار وأبعدهم- بدأ نتنياهو بتطبيق المرحلة الثانية من خطته، وهي حملة عناق للجمهور العربي. الأداة الأساسية التي استخدمها ويواصل استخدامها أيضاً في المعركة الانتخابية الحالية هي القرار 922 المعروف. المقصود الخطة الخمسية للتطوير الاقتصادي للمجتمع العربي التي أقرتها الحكومة في كانون الأول/ديسمبر 2015 وبحجم غير مسبوق: 10 مليارات شيكل. الغرض من الخطة تقديم رد شامل على كل حاجات المجتمع العربي في مختلف المجالات: بنى تحتية، اقتصاد، أراضٍ، تعليم وغيرها.

اليوم عشية انتخابات الكنيست الـ24، يبدو أن نتنياهو ينفّذ المرحلة الثالثة من الاستراتيجيا المتعددة المراحل. وتوجّه إلى هذه المرحلة بعد أن رأى ثلاثة عوامل أساسية تعمل لمصلحته:

اختفاء الموضوع الفلسطيني الخارجي كعامل له وزنه في اللعبة الانتخابية (وبهذه الطريقة يمكن التركيز بسهولة أكبر على المسائل الاقتصادية -الاجتماعية).
عدم وجود اهتمام عام بمسائل وطنية محلية، مثل “قانون القومية” الذي أخرج الجماهير إلى الشوارع للتظاهر احتجاجاً عليه.
الضعف الداخلي المستمر – ربما المزمن – للسياسة العربية: بسبب انقسام داخلي وعشائري.
بالاستناد إلى ما ذُكر أعلاه، سارع نتنياهو إلى دق إسفين في الوحدة الداخلية للقائمة المشتركة، التي كانت العلاقات الأيديولوجية والسياسية داخلها واهية منذ البداية. وبهذه الطريقة جذب إليه منصور عباس رئيس حزب راعم الذي يمثل الحركة الإسلامية. هذه الخطوة أضعفت كثيراً قوة القائمة المشتركة التي دخلت إلى الانتخابات الحالية بسيارة تسير على ثلاث عجلات – حداش، بلد، وتاعل- وبحسب السيناريو المتفائل، ستنال القائمة المشتركة الثلاثية نحو 12 مقعداً. لكن أغلبية السيناريوهات أكثر تشاؤماً، وهناك تقدير أن القائمة ستحصل على 6 مقاعد فقط. من الطبيعي أن يُعتبر هذا إنجازاً كبيراً بالنسبة إلى نتنياهو الذي يضع نصب عينيه هدفاً وحيداً، وهو ضمان فوزه واستمرار توليه منصبه والتهرب من سيف المحكمة في مسائل لا تزال تحوم فوق رأسه.
بالإضافة إلى ذلك، مع إضعاف القائمة المشتركة بدأ نتنياهو بتعبئة أصوات الوسط العربي، سواء بصورة مباشرة بواسطة راعم ومنصور عباس، أو بصورة غير مباشرة بواسطة تشجيع التصويت لليكود. الدليل على ذلك جولاته في البلدات العربية في المثلث والجليل، وإعلانه خطة حكومة رسمية وطنية للقضاء على العنف والجريمة في المجتمع العربي، وزياراته المتكررة إلى مراكز التلقيح في البلدات العربية.
يقول السياسيون العرب إن الناخبين ليسوا عمياناً، وأن نتنياهو لم يغيّر مواقفه العنصرية إزاء العرب. وإذا افترضنا أن هذا صحيح – وفي رأيي هو غير صحيح – عند الاختبار العملي سيميز العديد من الناخبين العرب بين المستوى الوطني وبين المستوى البراغماتي للحاجات اليومية. هذه الظاهرة تُسمى في علم النفس الانتخابي “التنافر المعرفي” (Cognitive Dissonace)، أي طريقة مواجهة التعارض بواسطة ملاءمة المواقف مع السلوك الفعلي (وليس مع السلوك الذي تحدده المواقف). تحدث عن هذه الظاهرة عالم الاجتماع يوحنان بيرس في نهاية الستينيات، فشرح كيف سمحت آلية “الإقصاء” للعرب في إسرائيل بالاستمرار في الشعور بالولاء الوطني للناصرية على المستوى الأيديولوجي، لكن في المقابل، على المستوى البراغماتي – العملي في الحياة اليومية، سمحت لهم باستخدام مؤسسات الدولة.
من أجل ضمان البقاء في منصبه كرئيس للحكومة، كل ما يحتاج إليه نتنياهو هو تدمير القائمة المشتركة وسرقة مقعدين من القطاع العربي، فهل سينجح؟ الأيام ستُظهر ذلك، لكن كما ذكرنا سابقاً، هذه الانتخابات يمكن أن تسجَّل كعلامة فارقة في عملية اندماج العرب في السياسة الإسرائيلية. المفارقة أن ميرتس، التي تُعتبر آخر ما تبقى من المعسكر المسمى “اليسار الصهيوني”، ضمت ممثلين عربيين في أول خمسة أماكن في قائمتها، لكنها لا تزال تعارض بشدة تحوُّلها إلى قائمة يهودية- عربية. هناك مؤشرات تدل على أن أحزاباً يهودية – صهيونية أُخرى تُظهر استعدادها لضم قوائم عربية في ائتلافات حكومية مستقبلية. في المقابل، الليكود يغازل الوسط العربي، ويفاوض مع زعيم حزب يمثل الحركة الإسلامية، ويقدم وعوداً كبيرة للعرب، ويمهد الطريق إلى شرعنة العرب.
في المدى البعيد من شأن هذا أن يعزز فعلاً عملية أسرلة الجمهور العربي، كما يمكن أن يؤدي إلى ظهور طبقة عربية وسطى ترى مكانها في دولة إسرائيل وتندمج فيها – لكن من دون أن تتنازل عن هويتها الفلسطينية. هذه العملية هي مزيج من مكونين – فلسطيني من هنا وإسرائيلي من هناك.

المصدر: مركز دايان لدراسات الشرق الأوسط وأفريقيا