قراءة في الانتخابات المغربية

Spread the love

بقلم: توفيق المديني* — حزب «العدالة والتنمية» الذي يترأس الحكومة في المغرب منذ سنة 2011، الانتخابات البرلمانية المغربية، التي جرت يوم الجمعة 7 تشرين الأول الجاري، التي شارك فيها 24 حزباً سياسياً وتحالفان حزبيان (التحالف يضمّ حزبين سياسيين أو أكثر)، إذ حصل على 125 مقعداً من أصل 395 مقعداً في مجلس النواب، أي بزيادة 18 مقعداً عما كان في حوزته في المجلس المنتهية ولايته، كما حصل على أكثر من 1.8 مليون صوت في الاقتراع، أي بزيادة أكثر من نصف مليون صوت عما حصل عليه في العام 2011. وجاء حزب «الأصالة والمعاصرة»المقرب من القصر الملكي، في المرتبة الثانية، إذ انتقل من 47 مقعداً في الانتخابات التشريعية سنة 2011، إلى (102 مقعد) في الانتخابات الأخيرة، مستعملاً المال ونفوذ السلطة والأعيان وكبار رجال الأعمال الذين وضعهم في مقدمة قوائمه الانتخابية، لربح رهان الاقتراع والالتفاف على التصويت السياسي لصالح تصويت زبوني أو قبلي أو بمقابل مادي. وبذلك تكرس حزب «الأصالة والمعاصرة» الذي جاء ضمن منظومة مناهضة للإسلاميين، كما يحدد هو هويته السياسية والفكرية، حزباً مقابلاً لـ «العدالة والتنمية»، والمعارض الأول له بحصوله على مرتبة ثانية، مع إضافة تجاوزت 100% مقاعده المحصل عليها في 2011.
أما الأحزاب التي تدعى الأحزاب الوطنية، وتعد امتداداً لحركة التحرير الشعبي (الاستقلال- الاتحاد الاشتراكي)، تراجعت بشكل كبير، حيث حصل الاستقلال المعارض على 45 مقعداً فقط عوض 62 في العام 2011، وكان خارجاً من الحكومة وقتها، في حين تراجع الاتحاد الاشتراكي المعارض من 40 إلى 20 مقعداً في انتخابات كان معولاً عليها كثيراً.
الكتلة الديمقراطية التي ضمت، في وقت من الأوقات، كل أطياف المعارضة الوطنية (الاتحاد، اليسار الديمقراطي بتفرعاته الاشتراكية والشيوعية، حزب الاستقلال) التي شكلت أحد أكبر إنجازات المغرب السياسي المعاصر لم تستطع أن تشكل قطباً في وجه «العدالة والتنمية» من جهة، ولا «الأصالة والمعاصرة» من جهة أخرى.
وكانت المنافسة في هذه الانتخابات التي بلغت نسبة المشاركة فيها نحو43 في المئة، من الكتلة الناخبة التي تناهز 16مليون ناخب، قويةً بين الحزبين الكبيرين: «العدالة والتنمية» (ذو هوية إسلامية، يقود الحكومة حالياً إلى جانب تحالف من أحزاب من اليمين واليسار)، و«الأصالة والمعاصرة» (الذي يلقب في المغرب باسم «حزب الملك»، ذلك أن مؤسسه فؤاد عالي الهمة هو صديق مقرب للعاهل المغربي محمد السادس ، وهو حزب وسط يمثل المعارضة). لكن خاضت هذه الانتخابات أحزاب أخرى لها وزنها السياسي، مثل الاستقلال (يمين محافظ) ، والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (اشتراكي يساري)، والحركة الشعبية (يمين مقرب من النظام)، والتجمع الوطني للأحرار (يمين مقرّب من النظام)، ثم التقدم والاشتراكية (شيوعي متحالف مع العدالة والتنمية). وفي العموم، يمكن تصنيف هذه الأحزاب في إطار ثلاث فئات من القوى الحزبية في المشهد السياسي المغربي: الأحزاب السياسية الصاعدة التي أكدت قوتها وعزّزت حضورها، والأحزاب التي كانت تعدّ ركائز النظام السياسي المغربي، وأخذت قوّتها تتلاشى وحضورها يتضاءل، وبين الصاعد والآفل توجد أحزابٌ ينحصر همها في ضمان مكانٍ لها في أيّ ائتلاف حاكم، يبعدها عن مقاعد المعارضة.
من الواضح أن حزب «العدالة والتنمية» خلال الانتخابات التشريعية التي جرت في 2011، والحالية لم يتأثر بخمس سنوات من العمل الحكومي، على الرغم من كل الأجواء المحيطة به، وعلى الرغم أيضاً من سياسة تقشفية، ولا شعبية، أقر بها رئيس الحكومة نفسه عبد الإله بنكيران. فقد حافظ الحزب على منحنى تصاعدي، لاغبار عليه في حصاد الأصوات، منذ بدأ، لم يعرف أي تراجع منذ مشاركته بتسعة مقاعد في انتخابات 1996، مروراً بـ 42 مقعداً فيما تلاها، ثم 107 مقاعد في 2011، ووصولاً إلى نتيجته الحالية التي تكرس عبد الإله بنكيران زعيماً للتيار الإسلامي المشارك، وزعيماً سياسياً قادراً على التعبئة من داخل الحكومة نفسها.
فقد شكل هذا الاستحقاق الانتخابي تحولاً للخريطة السياسية المحلية، التي خرجت من نمط «البلقنة» السياسية، لتدخل في مرحلة جديدة هي مرحلة الأقطاب السياسية، إذ أصبح للمغرب الآن حزبان سياسيان يتنافسان: الأول «حزب العدالة والتنمية» الإسلامي المعتدل، الذي صوت له 1.8 مليون مغربي ليس لأنه إسلامي، أو لأنه يتبنى إيديولوجيا دينية، أو لأنه يتحدث في الحلال والحرام، بل صوّت كل هؤلاء لعبد الإله بنكيران، لأنهم يثقون في نظافة يده، في بلاد عملتها الرسمية الثانية بعد الدرهم هي الفساد، ولأنه يعدهم بالإصلاح العميق للدولة بأقل تكلفة ممكنة تحت شعار (الإصلاح في ظل الاستقرار). هذا الفوز الكبير الذي حصل عليه حزب «العدالة والتنمية» سيعمق أكثر نهجه البراغماتي، وبعده عن الطابع الأصولي لصالح التوجه المحافظ الذي يقبل أصول اللعبة الديمقراطية، ويؤمن باختلاف المجتمع، وتنوع شرائحه، والثاني حزب «الأصالة والمعاصرة».
ويرى متابعون كثيرون للشأن السياسي المغربي في هذه الانتخابات، بأن المكسب الحقيقي الذي تشكل فيها هو تحقيق الحرية والديمقراطية، كونهما مقدمة ضرورية لـ «التنمية والعدالة» والكرامة، فضلاً عن أنها عبرت عن انتصار لإرادة الشعب المغربي وعزمه على إنجاح انتقاله الديمقراطي بطريقته الخاصة، إضافة إلى أنها مثلت استمرارية لـ «سوسيولوجيا» الانتخابات نفسها التي حكمت المغرب منذ الاستقلال، فقد مثّلت الدوائر الانتخابية في الأرياف خزّاناً انتخابياً للأحزاب المقرّبة من القصر (النظام)، بينما ظلّت المدن واجهةً للمنافسة بين أحزاب معارضة للنظام وأخرى موالية له.
وتعد الانتخابات التشريعية التي جرت يوم الجمعة 7تشرين أول/أكتوبر الجاري ،الثانية منذ إقرار الدستور الجديد في استفتاء شعبي نُظم في 1 تموز2011. وكان الملك محمد السادس اقترح تعديل الدستور المغربي في 9 آذار2011 في خطوة وصفها المراقبون بأنها حركة استباقية لتفادي الاحتجاجات الشعبية التي شهدها المغرب بعد نجاح الثورتين التونسية و المصرية في الإطاحة بالنظامين الديكتاتوريين الحاكمين في كل من تونس ومصر. وكان المغرب شهد حِرَاكًا كبيراً قادته حركة 20 شباط2011 التي رفعت شعار: «إننا نريد ملكاً يسود، لكنه لا يحكم». وانتقدت حركة 20 شباط التي تضم في صفوفها شباب الخريجين من الجامعات العاطلين عن العمل، بشكل مباشر، المخزن، «أي السلطة المغربية»، بسبب انتشار الفساد.
لا شك في أن هذه الانتخابات التشريعية تميّزت عن مثيلاتها السابقة ليس لكونها ثمرة الإصلاح السياسي الديمقراطي في المغرب فحسب، بل لأنها كانت في حد ذاتها حلقة مصيرية في هذا الإصلاح. فالإيجابي عند المغاربة أنهم خرجوا من دوامة الجدل حول صنع الخريطة السياسية، بعد أن خرجوا من أجواء القطيعة والتشنّج، لينضموا في مسيرة تطوير وإصلاح المؤسسات الدستورية، ووضع المغرب على سكة ودرب الحداثة والديمقراطية.
وبعد فوز «العدالة والتنمية» في الانتخابات التشريعية الأخيرة، استقبل العاهل المغربي محمد السادس يوم الاثنين الماضي، زعيم الإسلاميين المعتدلين عبد الإله بنكيران، وعينه رئيساً للحكومة لولاية ثانية، تطبيقاً لنص الدستور الذي يوجب على الملك تعيين رئيس الحكومة من الحزب الفائز بالمرتبة الأولى في الانتخابات، وهذه كانت أحد أهم مكاسب الوثيقة الدستورية التي كتبت إبان الحراك الديمقراطي، والتي ربطت بين تشكيل الحكومة ونتائج صندوق الاقتراع، للوصول إلى تثبيت شرعية عقلانية حديثة، في نظام ملكي تقليدي.
ومع ذلك، فإن حزب «الأصالة والمعاصرة» المنافس الرئيس لحزب «العدالة والتنمية»، والذي لم تكن لديه نية للاكتفاء بالتواجد شَرِيكاً في الحكومة القادمة- فهو لم يعد يطيق المعارضة ولا مجرد الشراكة مع أحزاب أخرى من دون رئاسة الحكومة- أصبح متخوفاً من نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة ، ولا سيما بعد فوز «العدالة والتنمية» ، لأن هذا الفوز سيسمح له برئاسة الحكومة والبقاء في السلطة سنوات قادمة، الأمر الذي سيفسح في المجال للحكومة الإسلامية مراكمة تجربتها وتجذّرها السياسي والاجتماعي في المشهد السياسي والسلطوي المغربي. وهذا من دون شك سيؤثر سلبًا في مستقبل «الأصالة والمعاصرة»، لأنه كفيل بتغيير الكثير من الأوضاع السياسية والمقولات والمواقف والأشخاص.
إن تجديد الدولة المخزنية، وانتقال المغرب إلى ملكية دستورية على نمط ما هو سائد في الديمقراطيات الكلاسيكية الغربية، أمر مرهون ببراعة الأحزاب السياسية المغربية المرتبطة بالعرش والمعارضة على حد سواء، وبالوضع الدولي والتوازنات الداخلية. ويتطلب أي إصلاح ديمقراطي أو أي تغيير حقيقي في المغرب، إحداث انقلاب فعلي في العلاقات بين سلطة المخزن والمجتمع المدني، بما يسمح بالانطلاق من تطوير أجهزة الدولة، وتحسين عمل المؤسسات، أي وضع القوانين الأساسية لتطور ديمقراطي سليم، يسير في اتجاه ترسيخ دولة الحق والقانون، وتقوية دور الأجهزة الحزبية، والنقابات، وجمعيات المجتمع المدني. ولو تحقق مثل هذا الانقلاب في العلاقة بين سلطة المخزن والمجتمع المدني، فإن تحولاً راديكالياً سيطرأ على طبيعة الديمقراطية عينها: فمن ديمقراطية تمثيل ستتحول أيضاً إلى ديمقراطية مشاركة… والديمقراطية إما أن تكون تشاركية وإما لا تكون ديمقراطية أصلاً.

*كاتب تونسي

المصدر: صحيفة تشرين