“طوق الحمامة” العابِر للمُجتمعات والأزمنة

Spread the love

د. رفيف رضا صيداوي مؤسّسة الفكر العربي/

هو أبو محمّد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معدان بن سفيان بن يزيد الأندلسيّ القرطبيّ (994 م – 1064م )، نسبةً إلى قرطبة العاصمة الكبرى للخلافة، وأنموذج المدينة الإسبانيّة – العربيّة أو الأندلسيّة، التي اكتست شخصيّتها الحضاريّة في أوجّ المجد الأندلسيّ، حيث لم يكُن من “مدينة تُشبهها في الغرب”، وخصوصاً إذا ما قورِنت بالحواضر الكبرى المُعاصِرة لها، والواقعة في شرق البحر الأبيض المتوسّط، أو في أراضٍ أبعد من ذلك بكثير، مثل القسطنطينيّة أو بغداد، على حدّ تعبير المُستشرقَين الإسبانيَّين بيدرو مارتينيث مونتابيث وكارمن رويث برافو، في كِتابهما “أوروبا الإسلاميّة سحرُ حضارةِ ألفيّة”، الذي ترجمته د. ناديا ظافر شعبان إلى العربيّة، وأصدرته مؤسّسة الفكر العربي في بيروت في العام 2015.

في قرطبة الأندلسيّة التي وَصفها المؤرِّخون المُعاصرون أمثال فيليب حتّي في كِتابه “العرب تاريخ موجز” بـ “جوهرة العالَم”، ووصفها الأقدمون أمثال محمّد بن حارث الخشني (المتوفّي في العام 971 م) في “قُضاة قرطبة” بـ “كعبة العلوم والفنون”، لما شهدته هذه المدينة من نهضةٍ فكريّةٍ وثقافيّةٍ وأدبيّةٍ وفنيّةٍ وعِلميّة، ومن علاقات ثقافيّة مع حواضر العِلم الكُبرى في العالَم الإسلامي آنذاك، والتي كان يربو عدد سكّانها وهي في أوج تطوّرها هذا، إلى مليون أو نصف مليون نسمة (عبد الرّحمن الحجي، أندلسيّات)، في قرطبة تلك، نشأ ابن حزم إذن، ذاك الفقيه الظاهري الذي تعدَّدت مَواهبه، فعُرِف أيضاً كشاعرٍ وكدارِسٍ للمِلل والنِّحل، وإنْ لم يَشتهر كمؤرِّخٍ ومفكِّرٍ في الدراسات الحضاريّة، وهو ما جعل د. عبد الحليم عويس يُخصِّص له كِتاباً قيِّماً بعنوان “ابن حزم الأندلسي وجهوده في البحث التاريخيّ والحضاريّ”.

وُلد ابن حزم في طبقة ثريّة وعاش في قصر أبيه أحمد بن سعيد القادِم من “بلاط مغيث” في الجانب الغربي من قرطبة إلى “منية المغيرة” في الجانب الشرقي من المدينة، حيث نشأ في قصره القريب من مدينة الزاهرة التي بناها محمّد بن أبي عامر (المنصور) في دولة بني عامر، إذ كان وزيراً له ولابنه المظفّر. ورث ابن حزم عن أبيه مَكتبة ذاخرة بالنفائس، وفي سنوات تكوينه الأولى لم يكُن يخرج كثيراً من القصر، وعاش بين النساء وتتلمَذ على أياديهنّ، “لقد شاهدتُ النساء وعلمتُ من أسرارهنّ ما لا يكاد يعلمه غيري، لأنّي ربيت في حجورهنّ، ونشأتُ بين أيديهنّ، ولم أعرف غيرهنّ. ولا جالستُ الرجال إلّا وأنا في حدّ الشباب، وحين تفيّل وجهي. وهنّ علّمنني القرآن، ورويّنني كثيراً من الأشعار، ودرّبنني في الخطّ”…(طوق الحمامة، “باب المُساعد من الإخوان”)، قبل أن يندمج في مجتمع الرجال، حيث اختلط بسنّ مبكّرة من شبابه بفتية من الخاصّة في قرطبة مُطّلعين على نماذج الأدب المَشرقي ويُكثرون القراءة كثيراً؛ و “في الثانية عشرة من عمره، في عيد الفطر لعام 396 هجري، نلتقي به في مجلس الحاجب المظفّر، يُشارِك في سماع المُهنّئين من الشعراء بالعيد” (الطاهر أحمد مكّي، دراسات عن ابن حزم وكِتابه طوق الحمامة)؛ ثمّ يشهد تقلّبات السياسة، وسقوط الدولة العامريّة، والفتنة التي عايَشتها الأندلس وقرطبة (399 – 422) هجري بعد قيام إمارات ومَمالك متعدّدة يحكمها صغار الأمراء (ملوك الطوائف) على أنقاض الخلافة.

تولّى ابن حزم الوزارة أكثر من مرّة، إلّا أنّ سقوط الخلافة الأمويّة في العام 1030 أبعده عن السياسة، مؤثراً العزلة والتفرُّغ للعِلم، بدلاً من مُداهَنة أمراء الطوائف الذين ألحقوا به صنوفاً من الاضطهاد والسجن والأذى، كان أشدّها وأقساها عليه حرق كُتبه، التي أنقذتها جماعة من تلاميذه كانوا يمتلكونها، فقاموا بنسْخها ونشْرها بين الناس. فابن حزم بسماته الشخصيّة، من شجاعة وجرأة وتديُّن وصراحة وعدم مُداراة خصومه…إلخ، وغيرها من السمات التي تُشير إليها مَصادِر مُختلفة، كان مجبولاً على كره الكذب والتملُّق، الأمر الذي يُفسِّر عزوفه عن السياسة؛ فما وردَ في رسالته “مُداواة النفوس”، يُعتبر، على حدّ تعبير د. عبد الحليم عويس في كِتابه المذكور آنفاً، “مرآة تشفّ عن أخلاق ابن حزم، وقد لا تكون أخلاقه صورة كاملة لكلّ ما ورَدَ فيها إلّا أنّها تُجلي لنا أعماق إنسان لم يفهمه عصره…عصر الفتنة والطوائف” !!. فلا عجب أن يكون هذا الفقيه الفذّ غزير الإنتاج؛ فقد “صنَّف في الفقه والحديث والأصول والنِّحل والِملل، وغير ذلك من التاريخ وكُتب الأدب، والردّ على المُخالفين له، نحواً من أربعمائة مجلّد، تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة، وهذا شيء ما علمناه لأحد ممَّن كان في مدّة الإسلام قبله، إلّا لأبي جعفر محمّد بن جرير الطبري” (عن عبد الواحد المراكشي في كِتابه “المعجب في أخبار المغرب”). فكَتَبَ “طوق الحمامة” وهو في الخامسة والعشرين من عمره.

مَكامِن الإبداع ومَواطنه

شكّل هذا المؤلَّف، أي “الطوق”، بحقّ تحفة فنيّة أدبيّة عابرة للمجتمعات والأزمنة. ولم يكُن موضوعه، أي الحُبّ، هو الذي أهَّله لاحتلال هذه المكانة في وجدان الناس والأُمم فحسب، بل تلك العناصر التي جعلت منه نصّاً حداثيّاً بامتياز، سواء من حيث الشكل أم المضمون. فقد سمح القالب الرسائلي الذي ابتدعه هذا الفقيه المُسلم للكلام على الحُبّ بأن يذكر تجاربه الشخصيّة والعاطفيّة ومذكّراته وذكرياته “على طريقة السيرة الذاتيّة التي لم تكُن شائعة بعد في الأدب المدييفالي” على حدّ تعبير مقدِّم الطبعة الفرنسيّة لكِتاب “طوق الحمامة” المؤرّخ الفرنسي غابرييل مارتينيز- غروس Gabriel Martinez-Gros . أمّا من حيث المضمون، فقد تجلّت حداثته وجدّته في عددٍ من العناصر لعلّ أبرزها: الطابع العقلاني لنصّ يبحث في الحُبّ، والرؤية العالِمة لمؤلِّفه، ومَيله إلى كِتابة تجربة شخصيّة بعيداً من نزعة الاعتداد بالذّات أو تضخيمها كنزعة لطالما كانت مألوفة لدى الأقدمين.

تمثَّل الطابع العقلاني لنصٍّ يبحث في الحُبّ، وعائدٍ إلى القرون الوسطى الأوروبيّة، في استناد مؤلِّفه ابن حزم إلى منهجٍ أمبيريقي، يرتكز على أمثلةٍ معيوشة ومتفرّقة من الواقع الحيّ، عارضاً من خلاله الحالة التي يُوصّفها وملاحظاته حولها “والتزمتُ في كِتابي هذا الوقوف عند حدّك، والاقتصار على ما رأيت أو صحّ عندي بنقل الثقات”، مُفكِّكاً أجزاءها، ومُحلِّلاً إيّاهها في زمانها ومكانها، قبل أن يجمع حصيلة ذلك في خلاصة، لا تبتعد عن أهدافه الأخلاقيّة الرامية إلى نقد مُعاصريه وتصويب سلوكيّاتهم، لكنْ من دون طغيان هذه الأهداف بطُرق فجّة من شأنها أن تُغلِّب الطابع الوعظي الإرشادي على النصّ. فيعرض موضوعاته ويُصنِّفها منهجيّاً في ثلاثين باباً تتناول أصول الحب، أعراض الحبّ وصفاته المحمودة والمذمومة، الآفات الداخلة على الحبّ… فلئن اعتبر في “باب مَن لا يحبّ إلّا مع المُطاوَلة”، ومن خلال تجربته الشخصيّة، أنّ الحبّ من نظرة واحدة ما هو إلّا ضربٌ من الشهوة، كون الحبّ برأيه هو “اتصال بين النفوس في أصل عالمها العُلْوي”، نراه يستند إلى تجربة فتى من أهل الجدّ والحسب والأدب، ليستخلص منها أنّ هناك “مِن الناس مَن لا تصحّ محبّته إلّا بعد طول المُخافتة وكثير المُشاهَدة وتمادي الأنس”، وأنّ هذا الحبّ يدوم لأنّه غير قائم على الشهوة فقط: “فما دَخَلَ عسيراً لم يخرج يسيراً”، وذلك بالاستناد إلى فكرٍ جدليّ تحليليّ يقوم على استقراء الظواهر ومُقارَنة بعضها ببعض قبل بناء خلاصات حولها؛ هذا فضلاً عن استناد ابن حزم إلى قانون “نفي النفي” الجدلي، الذي يفيد بأنّ لا أشياء ثابتة أو باقية على حالها، بل هي خاضعة لصراعٍ وتفاعُل ينفي خلالها بعضها بعضاً. ففي “باب علامات الحبّ”، يشير إلى العلامات المتضادّة: “فهذا الثلج إذا أدمن حبسه قي اليد فَعَلَ فعْل النار، ونجد الفرح إذا أفرط قتل، والغمّ إذا أفرط قتل (…) فنجد في المُحبّين إذا تكافيا في المحبّة وتأكّدت بينهما تأكّداً شديداً أكثر بهما جدُّهما بغير معنى، وتضادّهما في القول تعمّداً، وخروجُ بعضهما على بعض في كلّ يسير من الأمور، وتتبّع كلّ منهما لفظة تقع من صاحبه وتأوّلها على غير معناها، كلّ هذه تجربة ليبدو ما يعتقده كلّ واحد منهما في صاحبه”. ويضيف: “بينما ترى المُحبّين قد بلغا الغاية من الاختلاف الذي لا يقدر يصلح عند الساكن النّفس السالم من الأحقاد (…)، لا تلبث أن تراهما قد عادا إلى أجمل الصُّحبة، وأُهدِرت المُعاتَبة، وسقط الخلاف وانصرفا في ذلك الحين إلى المُضاحَكة والمُداعَبة…”.

الاختلاف على ماهيّة الكِتاب

أمّا عن الرؤية العالِمة للمؤلِّف، فتتكشّف من خلال جوانب كثيرة، إلى حدّ أنّ بعض المؤرّخين الإسبان الذين درسوا ابن حزم اختلفوا حول ماهيّة “طوق الحمامة”؛ فبعضهم أمثال أسين بلاثيوس توقّف عند قيمته كدراسةٍ تاريخيّة، فيما توقّف آخرون أمثال غرسية غوميث وليفي بروفنسال على أنّه دراسة نفسيّة. وحول رؤيته العِلميّة هذه، نورِد ما توقّف عنده مقدِّم الكِتاب ومُحقِّقه الدكتور فاروق سعد، والمتعلّق بالمُعطيات العِلميّة في ميدان عِلم النفس، كون المعطيات العِلميّة التي تتبدّى في الجوانب الفلسفيّة والاجتماعيّة وغيرها في كِتاب ابن حزم متعدّدة. ومن تلك المعطيات النفسيّة، مفهوم “التثبيت” Fixation الذي طوَّرته مدرسة التحليل النفسي وعرَّفته “على أنّه ارتباط الإنسان في مرحلة مبكّرة من مراحل نشأته بتجربة معيّنة أو موضوع معيّن ارتباطاً وثيقاً بحيث يدوم هذا الارتباط حتّى بعد انتقاله إلى مرحلة النضج النفسي أو البلوغ العاطفي”. فقد كَتَبَ ابن حزم في “باب مَن أحبَّ صفة لم يَستحسن بعدها غيرها ممّا يُخالفها” يقول: “واعلَم أعزّكَ اللّه أنّ للحبّ حُكماً على النفوس ماضياً، وسلطاناً قاضياً، وأمراً لا يخالف، وحدّاً لا يُعصى (…) ولقد شاهدتُ كثيراً من الناس (…) قد وصفوا أحباباً لهم في بعض صفاتهم بما ليس بمُستحسن عند الناس ولا يرضى في الجمال”، ولم يحُل الهجر دون استمرار استحسانهم لصِفات الأحباب تلك حتّى مَماتهم: “وأعرف مَن كان أوّلَ علاقته بجارية مائلة إلى القِصر، فما أحبّ طويلة بعد هذا (…) دعني أخبرك أنّني أحببتُ في صباي جارية لي شقراء الشعر، فما استحسنتُ من ذلك الوقت سوداء الشعر ولو على صورة الحُسن نفسه”.

في سرده المَبنيّ على تجربة ذاتيّة، أفضى منهج ابن حزم المُستند إلى التجارب الحياتيّة والواقعيّة المعيوشة، إلى تقاطُع الذاتي مع الاجتماعي، حيث كان بمقدورنا من خلال تجربته الذاتيّة قراءة تجربة اجتماعيّة مشروطة بأُطرها الزمانيّة – المكانيّة. وهذا برأينا كان يستحيل تحقيقه لو لم يُخرِج ابن حزم الحبّ من إطاره المُتعالي ليُخضعه إلى إطاره الأرضيّ. فكان أن أَنجز ثورة مفاهيميّة في مُقاربته لموضوع “الحُبّ”، أسَّست لجدّته واختلافه عن تلك المُقاربات المألوفة في التقاليد العربيّة واليونانيّة والرومانيّة. فكان بحسب فاروق سعد “أوّل من أَكسب الحبّ معناه كعاطفة وهوى في تاريخ الثقافة الإنسانيّة على العموم”، وكان، بحسب الطاهر أحمد مكّي، وخلافاً للّذين كتبوا قبله عن الحبّ “سيّد قضيّته وموضوعه، لا يستلهم شيئاً غير فكره الخالِص، وأحاسيسه الذاتيّة، وتجاربه الخاصّة”، وهذا ما كان ابن حزم واعياً له حين شَرَحَ للقارئ في توطئة كِتابه قائلاً: “ودعني من أخبار الأعراب والمتقدّمين، فسبيلهم غيبر سبيلنا، وقد كثُرت الأخبار عنهم، وما مذهبي أن أُنضي مطية سواي، ولا أتحلّى بحلي مُستعار، والله المُستغفَر والمُستعان لا ربّ غيره”.

وبذلك جمع ابن حزم، الحداثيّ بامتياز، المجدَ من أطرافه، لكونه رفضَ التقليد وسعى إلى التجديد والابتكار على أكثر من صعيد: على الصعيد الفقهيّ، وتحوُّله عن المذاهب المالكيّة والشافعيّة نحو الظاهريّة التي لم يكُن لها شعبيّة أو أساس في الأندلس القروسطيّة؛ على الصعيد الاجتماعي، بعد مُقاومته تيّار المُحافِظين، هو العالِم الفقيه المُسلِم الأكثر شهره في عصره، وذهابه بعيداً في الكِتابة عن الحبّ. وككلّ تحديثيّ ومُبدِع، لم يَعرف المُساوَمة أو التنازُل عن قناعاته، هو الذي عرَّف عن نفسِه في “باب السلو” قائلاً: “دعني أخبرك أنّي جُبلت على طبيعتَين لا يهنأ معهما عيش أبداً”، وهُما “الوفاء” و”عزّة نفس لا تقرّ على الضّيم”، اللّتَين أعانتاه على الصبر وتحمّل كلّ المُضايقات التي تعرَّض لها في الأندلس، من سجن وحرق كُتب وغيرها، مؤثراً العزلة في العشرين سنة الأخيرة تقريباً من حياته متفرِّغاً لمسألتَيّ العِلم والكِتابة اللّتَين خلّدتاه وكانتا وفيّتَين له أكثر من البشر، وجَعلتا منه تُراثاً حيّاً، لا في التراث العربي – الإسباني أو الإسباني – العربي كما اختلف على ذلك المؤرّخون والمُستشرقون فحسب، بل في التراث العالَمي.

Optimized by Optimole