رسالة ”أصيلة“ الأصيلة

Spread the love

بقلم د. عبد الحسين شعبان* —

حين تنتقل “قرية” لتصبح بمواصفات “مدينة” ، فذلك أمرٌ لا بدّ أن يكون وراءه عملٌ جبّار، فما بالك حين تتطلّع فيه المدينة لتصبح ملتقى مفتوحاً وحضاريّاً وعصريّاً ومَعلماً سياحيّاً ومقصداً يستقطب نخباً متميّزة ولامعة من خيرة المثقّفين كلّ عام، فإنّه ولا شكّ سيكون شيئاً استثنائيّاً بكلّ المعايير بحساب الزمن المحدود الذي يتمّ فيه مثل هذا التطوّر والتغيير.

لم تكُن مدينة أصيلة، ذات الطراز الأندلسي قبل أربعة عقود من الزمان، وبالتحديد في العام 1978، سوى إحدى “مُدن” المغرب الساحليّة المحدودة السكّان والمساحة التي تستلقي بطريقة أقرب إلى العزلة على شواطئ المحيط الأطلسي، لكنّها بفعل عملٍ مُثابر وإصرارٍ أكيد وإرادة واعية وعقلٍ مستنير أخذت تزهر مثل شجرة اللّوز حين يُلامسها هواءٌ منعش، لدرجة أنّ أصيلة تنتظر موسمها الثقافي بفرح غامر مثلما تنتظر الأرض العطشى المطر، في موسم الصيف، فتزهو به المدينة المُمتزجة بألوان البحر والشمس الذهبيّة حيث تكون مستعدّة لاستقبال زوّارها من مغرب الوطن العربي الكبير ومَشرقه، ومن ضفّتَي المتوسّط والمحيط الأطلسي وعلى امتداد أوروبا والعالّم كلّه، وكأنّها تدعو الجميع إلى وليمة شهيّة للفكر والفنّ والأدب والثقافة بكلّ أجناسها.

وبالتدرّج والتراكم اندغم الموسم الثقافي للمدينة المفتوحة ليتفاعل مع برنامج التنمية لها ولعموم البلاد، حيث تمّ تأسيس بنية تحتيّة وإنشاء مَرافق عمرانيّة تكون قادرة على استيعاب هذا التطوّر، لترتدي المدينة حلّتها الموسميّة بما فيها من رمزيّة ثقافيّة ومدنيّة وكأنّها مَعرضٌ مفتوح في الهواء الطلق يزورها عشرات الآلاف من المثقّفين والسيّاح كلّ عام، سواء في موسمها الثقافي أم على طول أيّام السنة، من المغرب أم من خارجه.

هكذا تحوّلت “المدينة”، التي عُرفت قديماً باسم “أزيلا” أو “أرزيلا” أو “أصيلا” لتستقرّ على اسم “أصيلة”، إلى صرح حضاري جاذب وواعد. وكانت قد تأسَّست قبل ما يزيد على ألفَي عام من الزمان وشهدت ألواناً مُختلفة من الهجرات والسلالات والأديان، حيث استعادت مجدها التاريخي والاستراتيجي التجاري مجدِّدةً ذلك بموسمها الثقافي، وهي مدينة لا يزيد عدد سكّانها على 30 ألف نسمة إلّا قليلاً بحسب آخر إحصاء سكّاني (العام 2013) ومساحتها نحو 33 كم2، وذلك بفضل أحد أبرز رموز الثقافة والدبلوماسيّة والإدارة الذي كان لإصراره الدَّور الأكبر في أن تنتقل أصيلة من “قرية” معزولة وربّما منسيَّة إلى حاضرة مدنيّة يُشار إليها بالبَنان.

حين عاد محمّد بن عيسى إلى المغرب بعد انتهاء عمله في الولايات المتّحدة، قرّر أن يخدم مدينته ومسقط رأسه، ففكّر بإنعاش العمران بالثقافة والثقافة بالعمران، وهكذا انعقد رباطٌ وثيق بين الاثنَين، فكلّما كانت المدينة تتطوّر عمرانيّاً، كانت مكانتها الثقافيّة والحضاريّة تزداد أهمّية حتّى غدت أحد مَعالِم المغرب المهمّة وهي ملتقى سنوي للحوار وتبادُل الرأي والاستئناس بوجهات النظر لنشر ثقافة السلام واللّاعنف وبحث قضايا التعصّب والتطرّف والغلوّ والإرهاب وتحليلها، وفي الوقت نفسه التفكير في البدائل: التسامح والإقرار بالتنوّع والتعدّدية والاعتراف بالآخر وحقّه بالاختلاف، وإحياء قيَم العدل والجمال والخير، عبر التواصل والتفاعل والاجتماع الإنساني، ولاسيّما بالفنّ والأدب والفكر والثقافة بكلّ فروعها وأجناسها، وتلك هي رسالة أصيلة “الأصيلة”.

حين تتوغّل في “المدينة” وأنتَ قادمٌ من مدينة طنجة التي لا تبعد عن أصيلة أكثر من 40 كيلومتراً، يواجهك البحر بزرقته المميّزة وكأنّ لون الفيروز انطبع عليه أو أنّه انطبع على الفيروز ليأخذ لونه، وكما يقول الشاعر الجواهري في غَزَله ببراغ:

“أعلى الحسن ازدهاءً وقعت أم عليها الحسن زهواً وقعا؟”

ولعلّ أوّل ما يلفت انتباهك أنّ منازل المدينة متّشحة بالبياض وملفّحة بالزرقة هي أيضاً، وذلك في إطار تناسق جميل، يضاف إليه جداريّتها المزيّنة برسومِ فنّانين تشكيليّين من مدارس وأجيال مُختلفة، وحين تسير في دروبها الضيّقة وفي الأحياء القديمة تشاهد الأسوار العالية المُحاطة بها، وفي كلّ ذلك ثمّة أمر يدعوك للتأمل وهو نظافة المدينة والهواء العذب حتّى في أيّام الصيف الحارّة، علماً بأنّ مناخها معتدل ومطير، باستثناء فصل الصيف حيث يكون جافّاً نسبيّاً. أمّا البيئة فغدت مصدر اهتمام المسؤولين والناس على حدّ سواء، حيث تتميّز البيوت والأزقّة بواجهات جميلة مغروسة بالنباتات والورود، وتحرص بلديّة “المدينة”، التي لا يزال مهندس فكرة موسم أصيلة الثقافي رئيسها، على أن تبقى أصيلة ترتدي ثوبها الأخضر.

أمّا السور الذي يحيط بالمدينة فيبلغ طوله 1200 متر وبارتفاع يتراوح بين 5 و7 أمتار وفيه خمسة أبواب، هي أبواب القصبة والبحر والسوق والحومر والقريفيّة. وتقع المدينة الجديدة خارج السور، حيث أنشأت إسبانيا حيّ بارادا Parada 1924-1956، وفيه عددٌ من الشوارع الحديثة. وفي المدينة بعض المَعالِم الأثريّة المهمّة مثل المسجد الجامع وساحة وبرج القمرة وساحة الطيقان وبرج القريفيّة وقصر الريسوني ومركز الحسن الثاني للمُلتقيات الدوليّة وقصر الخضر غيلان المشيَّد على الطراز الأندلسي.

وقد خلّدت المدينة أسماء زوّارها ومريديها من كِبار المثقّفين ومنهم الشاعر العراقي بلند الحيدري، والروائي السوداني الطيّب صالح، وتشكايا أوتامسي الشاعر الكونغولي، والشاعر الفلسطيني محمود درويش، والمفكّر المغربي محمّد عابد الجابري، والشاعر المغربي وابن أصيلة أحمد عبد السلام البقالي، والشاعر والأديب المغربي محمّد عزيز لحبابي وغيرهم.

وضمّ الخليط الديموغرافي لمدينة أصيلة أجناساً وعروقاً وأدياناً ولغات مُختلفة، من الأمازيغ والأصول الأندلسيّة والعرب المُسلمين، فضلاً عن اليهود والمسيحيّين، ولاسيّما من الأوروبيّين، وخصوصاً البرتغاليّين الذين كان عددهم يزيد على عدد المسلمين حتّى أخذ العدد بالتناقص وأصبح عدد المُسلمين يزيد على 99%. وفي المدينة زوايا صوفيّة لطُرق متنوّعة، كما يوجد فيها 33 مسجداً، وهناك نسبة ضئيلة من المسيحيّين (بضع عشرات)؛ وهناك، فضلاً عن اللّغة العربيّة، اللّغتان الفرنسيّة والإسبانيّة.

منذ أربعة عقود من الزمان بدأت مكانة أصيلة تزداد أهمّية بالترافق مع مهرجانها أو موسمها الثقافي المفتوح، حيث يحجّ إليها سنويّاً عشرات من المثقّفين الكِبار ويحرص مئات من الفنّانين والأدباء الشباب على زيارتها. وفي هذا العام يُطفئ موسم أصيلة السنوي 40 شمعة من عمره وهو عُمر النضج، حيث يعتبر أحد أكثر المهرجانات الثقافيّة المعمّرة وأهمّها، إذا أخذنا بنظر الاعتبار “مهرجان المربد” (العراق) و”مهرجان الجنادريّة” (المَملكة العربيّة السعوديّة) و”مهرجان البابطين” ( الكويت)، وهو مثل كلّ عام مناسبة حيويّة تنبض بالحياة، وخصوصاً في ديناميكيّتها الثقافيّة أدباً وموسيقى وغناءً، وفنوناً: رسماً ونَحتاً ومَسرحاً، في أجواء مشبعة بالحرّية وثقافة السلام والتنوّع والتعددّية. ويقدّر أن تستضيف المدينة هذا العام ضيوف شرف مميّزين بمشاركة عدد من المثقّفين المُبدعين كتّاباً وإعلاميّين ومفكّرين وأكاديميّين وفنّانين.

ويشرف على الموسم الثقافي لأصيلة “مؤسّسة أصيلة” و”جامعة المعتمد بن عباد” وهي جامعة صيفيّة، حيث عمل محمّد بن عيسى على إطلاقها لتتحوّل المدينة إلى تظاهرة شاملة وفضاء مفتوح للفرح والبهجة وجداريّتها إلى ألوانٍ وأنواعٍ من التعبير الفنّي، حيث تزدحم القاعات والفندق الذي تمّ إنشاؤه وعدد من فنادق طنجة بالناس كخليّة نحل للصداقة والتواصل الإبداعي والحضاري، بما فيها مكتبة الأمير بندر بن سلطان التي شهدت في العام 2004 ملتقى سينما جنوب – جنوب.

وإذا كان “موسم منتدى أصيلة” قد شهد العام الماضي 2017 مناقشة واسعة حول قضايا الشعبويّة والخطاب الغربي والحكامة الديمقراطيّة والمسلمين في الغرب والفكر العربي المُعاصر والمسألة الدينيّة، فإنّ هذا العام من المقدّر أن يُناقِش قضايا ذات اهتمام متزايد تتعلّق بالمشروع الحضاري النهضوي ومسائل العنف واللّاعنف والمعوّقات التي تقف حجر عثرة أمام التنمية المُستدامة بجوانبها المختلفة، ولاسيّما قضايا التعليم والتربية، فضلاً عن القضايا الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة.

منذ أربعة عقود من الزمان وموسم منتدى أصيلة هو موعد يتجدّد فيه الحوار المعرفي الثقافي الذي يقرّ، بل يتمسّك بالحقوق والعدالة، وهي تلك التي سمّاها المهاتما غاندي “الساتياغراها” وهو مصطلح اشتّقه من اللّغة السنسكريتيّة ويعني ” الإصرار على الحقّ ومُقاوَمة الظلم والتخلّص من العداوات والكراهية” على أساس الاعتراف بالآخر وتعظيم الجوامع والمُشتركات الإنسانيّة وتقليص الفوارق والمُختلفات، إذْ يبقى الجامع الأهمّ بين البشر هو التواصل والسلام والجمال والثقافة والمُشترك الإنساني، فما بالك حين يكون مصحوباً بالمحبّة والبحر والأمل، وهو ما تسعى إليه رسالة أصيلة “الأصيلة”.

*باحث ومفكّر عربي

المصدر: نشرة أفق

Optimized by Optimole