تطوّر التصوف الإسلامي.. من الزهد إلى وحدة الوجود

Spread the love

بقلم: د. هيثم مزاحم — اختلف الباحثون في أصل كلمة “تصوّف”، فذهب البعض إلى أنها مشتقة من مصدر الفعل “تصوّف” للدلالة على لبس الصوف، في محاولة لعيش حياة زهد وتنسك، فأطلق عليهم الصوفية، وذهب البعض الآخر إلى أن “الصوفية نسبة إلى أهل الصَّفة”، وهم فرق من النساك كانوا يجلسون فوق دكة المسجد في المدينة في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، أو أنهم كانوا في الصف الأول من صفوف المسلمين في الصلاة، أما البعض فقد نسب الصوفية إلى الكلمة اليونانية “سوفوس” أو ثيوسوفيا Theosophia، وهي تعني حكمة الله، وتتضمن العلوم والفلسفة والدين، لكن المستشرق الألماني نولدكه رفض هذا القول، مبيناً أن السين اليونانية تكتب باطراد في العربية سيناً لا صاداً، وأن ليس في اللغة الآرامية كلمة متوسطة للانتقال من “سوفوس” اليونانية إلى “صوفي” العربية.

يقول المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون إن لفظ “الصوفي” ورد لأول مرة في التاريخ الإسلامي في النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي، إذ نعت به جابر بن حيّان، وهو عالم الكيمياء المعروف من الكوفة، وكان تلميذ الإمام جعفر الصادق، وكان له في الزهد مذهب خاص، أما صيغة الجمع “الصوفية” فقد ظهرت عام 199هـ (814م) في خبر الفتنة التي قامت في الإسكندرية، وكانت تدل على مذهب من مذاهب التصوّف الإسلامي نشأ في الكوفة، وكان ذا اتجاه شيعي، وكان “عبدك الصوفي” آخر أئمته، وكان لا يأكل اللحم، وتوفي في بغداد عام 210هـ (825م).

ورغم كون رسول الله هو العارف الأول والأكبر قد عُرف عنه الزهد والتحنُّث في غار حراء والانقطاع إلى الله تعالى، قبل نزول الوحي وبعده وخلاله، إلا أنه رفض التصوّف على طريقة الرهبنة البوذية أو الهندوسية أو المسيحية، ونُقل عنه قوله عليه الصلاة والسلام: “لا رهبانية في الإسلام”.

كان التصوّف في أول عهده يدور حول أمرين: الأول أن العكوف على العبادة يولّد في النفس حقاق روحية، والثاني أن علم القلوب يفيض على النفس معرفة تقرّب من الله، فالمعرفة تولّد الحب والقرب.

لم يكن المتصوّفة الأوائل يتوقعون الاصطدام بعامة المسلمين، وهم جنحوا إلى العزلة والزهد تقرباً إلى الله تعالى، في رغبة منهم في الكشف عن الله بأي وسيلة، خصوصاً بتصفية القلب من كل شاغل، وهذا ما نلمسه في سيرة الحسن البصري (21- 110هـ) وعظاته وعبره، وفي كتابي المتصوفين الكبيرين الحارث المحاسبي (170 – 243هـ) “الوصايا”، والإمام أبي حامد الغزالي (450 – 505هـ) “المنقذ من الضلال”.

يرى المستشرق ماسينيون أن الخوارج كانت أولى الفرق التي أظهرت عدوانها للصوفية، وذلك بادٍ في ما وقع للحسن البصري، كما عارضت فئات كبرى من المذاهب الأخرى السنة والإمامية والزيدية التصوّف، لأنه يستحدث بين المؤمنين ضرباً من الشذوذ، خصوصاً نزوعهم نحو بعض الاعتقادات التي تقول بالحلول ووحدة الوجود، أو انصرافهم عن بعض مظاهر العبادة وإهمالهم للفرائض، وقد ذهب المعتزلة والظاهرية إلى استنكار قول المتصوّفة بعشق الله، لأنه يقوم نظرياً على التشبيه، وعملياً على الملامسة والحلول.

ولا شك أن بعض المقاربات للتصوّف أنذاك كانت تبسيطية وظالمة ومجحفة، فأخرج بعض المتصوّفين من الإيمان، وتم تكفير بعضهم وأعدموا كالحسين بن منصور الحلاج (244 – 309هـ)، والتصوّف عند الحلاج جهاد في سبيل إحقاق الحق، وليس مسلكاً فردياً بين المتصوّف والخالق فقط. لقد طوّر الحلاج النظرة العامة إلى التصوّف، فجعله جهاداً ضد الظلم والطغيان في النفس والمجتمع، ولا يخفى ما لتلك الدعوة من تأثير على السلطة السياسية الحاكمة في حينه. ويقال إن سبب إعدام الحلاج يكمن في إجابته على سؤال أحد الأعراب له عما في جبته، فردّ عليه الحلاج: “ما في جبتي إلا الله”.. فاتُّهم بالزندقة وأقيم عليه الحد.

وقد فسّر ابن تيمية سبب إعدام الحلاج بقوله: “مَنْ اعْتَقَدَ مَا يَعْتَقِدُهُ الْحَلاجُ مِنْ الْمَقَالاتِ الَّتِي قُتِلَ الْحَلاجُ عَلَيْهَا فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا قَتَلُوهُ عَلَى الْحُلُولِ وَالاتِّحَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَقَالاتِ أَهْلِ الزَّنْدَقَةِ وَالإِلْحَادِ كَقَوْلِهِ: أَنَا اللَّهُ.. وَبِالْجُمْلَةِ فَلا خِلافَ بَيْنِ الأُمَّةِ أَنَّ مَنْ قَالَ بِحُلُولِ اللَّهِ فِي الْبَشَرِ وَاتِّحَادِهِ بِهِ.. فَهُوَ كَافِرٌ مُبَاحُ الدَّمِ وَعَلَى هَذَا قُتِلَ الْحَلاجُ”.

وقد دافع عدد من المتصوّفة والباحثين عن الحلاج واعتبروه شهيداً وبطلاً ثورياً وأن لكلامه معاني باطنية، وأن قوله بالحلول والاتحاد هو نفس القول بوحدة الوجود، على غرار محيي الدين بن عربي (558 – 638هـ)، كما أن الإمام الخميني اعتبر الحلاج شهيداً، وأنه لم تفهم كلماته بمعناها الباطني.

يقول الشيخ الأكبر ابن عربي: “‏نحن قوم يحرم النظر في كتبنا، وذلك أن الصوفية تواطؤا على ألفاظ اصطلحوا عليها، وأرادوا بها معاني غير المعاني المتعارفة منها، فمن حمل ألفاظهم على معانيها المتعارفة بين أهل العلم الظاهر كفَر وكفَّرهم”.

ولعل من أروع الأبيات التي تعبّر عن أحوال العارفين ما عبّرت عنه رابعة العدوية في قولها لله عزّ وجلّ:

أحبّك حبين حب الهوى وحباً لأنك أهل لذاكا

فأما الذي هو حب الهوى فشغلي بذكرك عمّن سواكا

وأما الذي أنت أهل له فكشفك للحجب حتى أراكا

فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الحمد في ذا وذاكا

Optimized by Optimole