بين المفكِّر والسياسيّ: ”كيف نغيِّر المَدرسة؟“

Spread the love

د. رفيف رضا صيداوي* — كيف رسم كلٌّ من العَالِم والسياسيّ مَلامِح المدرسة المثاليّة؟ هذا ما كشفت عنه مقابلة مع وزير التربية الوطنيّة في فرنسا جان- ميشيل بلانكيهJean-Michel Blanquer ، وعالِم الاجتماع والفيلسوف الفرنسيّ العريق إدغار مورانEdgar Morin . المُقابلة التي أجراها هيلوييز ليريتيه وجان- فرنسوا دورتييه et Jean-François Dortier Héloïse Lhérété نشرتها مجلّة العلوم الإنسانيّة (عدد 299) في شهر كانون الثاني (يناير) 2018، وبالنّظر إلى أهمّيتها، قمنا بترجمة جزء منها بتصّرف، لما لها من فائدة علميّة، تتجلّى بدايةً من عنوانها اللّافت” كيف نغيِّر المدرسة؟”.
عندما سُئل كلٌّ من بلانكيه وموران عمّا إذا كانا يتقاسمان الفلسفة التربويّة نفسها، انطلاقاً من تَوقهما إلى “مدرسة الحياة” الذي عبَّرت عنه مؤلّفاتهما، أجاب إدغار موران بدايةً أنّ ” المدرسة ينبغي أن توفِّق بين ثلاث مهامّ رئيسة: أنتروبولوجيّة، ومدنيّة، ووطنيّة. مهمّة أنتروبولوجيّة، لأنّه لا يجدر بالثقافة أن تُنجِز دَورها في أنْسنة الطفل فقط، بل لأنّه ينبغي عليها أن تُساعِد كلّ فرد أيضاً على تنمية أفضل ما فيه، بما أنّ الكائن البشريّ قادرٌ على الأفضل بقدر ما هو قادرٌ على الأسوأ، وعلى أن يحطّ من نفسه وأن يرتفع بها؛ مهمّة مدنيّة، لأنّ الأمر يتعلّق بتكوين مواطنين قادِرين على الاستقلاليّة الفرديّة وعلى الاندماج في مجتمعهم في آن؛ مهمّة وطنيّة، لأنّه ينبغي على المدرسة أن تُسهِم في تحسين نوعيّة الحياة والفكر في المجتمع الفرنسيّ.
في الأساس، يجب على المدرسة أن تسمح لكلّ واحد بأن يحقِّق طموحاته، لكنْ دائماً من ضمن جماعة. لهذا السبب أقول إنّ المدرسة تؤدّي دَورها كاملاً حين تصل إلى تعليم فكرة المسؤوليّة الشخصيّة عن الآخر والتضامن معه في آن.
“تعلُّم الحياة”(مقولة روسّو)، تعني الاستعداد لمواجَهة المشكلات الشخصيّة والمدنيّة لدى الفرد، والوعي بمَخاطر الخطأ والوَهْم، والتأليف بين اللّايقين والمَخاطر وغير المتوقَّع”.
بدَوره أثنى جان- ميشيل بلانكيه على تعريف موران لمعنى “التربية”، مُعتبراً أنّه تعريف ” كامل”. غير أنّه أضاف في هذا السياق الأهمّية القصوى التي يوليها هو شخصيّاً للحرّية؛ إذ إنّ ” كلّ تربية هي أوّلاً تربية على الحرّية؛ كلّ عمل تربويّ يكتسي معناه من خلال بُعد الحرّية الإضافيّة التي يمنحها للطفل، للمُراهق، وحتّى للراشد. وهذه الحرّية ليست مُكتسبة، بل إنّها حرّيةٌ- بناءٌ، يتمّ بلوغها من خلال الاكتساب التدريجيّ والمُبنيَن للمَعارِف والقيَم: مَعارِف تسمح بالارتقاء، بأن يجد الشخص مجال تميّزه، طريقه- الذي لا يكون جامداً أبداً؛ فضلاً عن القيَم التي تمثّل أساس المجتمع. كلّ صفّ هو جمهوريّة صغيرة، حيث يتعلّم الطفل العيشَ في مجتمع”.

المرجعيّات الفكريّة في مجال التربية
في إجابتهما عن سؤالٍ حول مرجعيّتهما الفكريّة في ما يخصّ التربية والتعليم، أجاب موران بدايةً أنّه تأثّر بمونتين Montaigne، وبمقولته ” أفضل أن يكون هناك رأس جيّد التكوين من رأس جيّد الامتلاء”، وكذلك بجان جاك روسّو، غير أنّه أثنى كذلك على دَور الأدب، ولاسيّما دوستويفسكي الذي لا علاقة له بشؤون التربية لكنّه “علّمني بطريقة غير مباشرة شيئاً أرغب بأن أراه يُعلَّم لتلامذة اليوم: معنى المعاناة الإنسانيّة، الشفقة، الغفران…إلخ”، لينتهي بأنّه في ما يخصّ مجال التربية والتعليم ” ثقافتي كلّها هي التي تُسعفني كمرجعيّة”.
أمّا جان- ميشيل بلانكيه، فأشار إلى مرجعيّاته القديمة، إلى أفلاطون وأرسطو، وإلى رابليه، ثمّ إلى كوندورسيه في الزمن الحديث. ولم يفُت بلانكيه شرح ما قدّمه أفلاطون حول “الدهشة” بوصفها أوّل سمة من سمات الفيلسوف، ليخلص إلى أنّ ” الدهشة هي عنصر مفتاح للشرط الإنسانيّ. إنّها المؤسِّس الأوّل. يصل الطفل إلى مدرسة الأطفال وهو مُمتلئ بدهشةٍ خاصّة به، هي مصدر فضول ولذّة بالنسبة إليه؛ دهشة ينبغي معرفة كيف نستخدمها بيداغوجيّاً”، في حين اعتَبر أرسطو أساسيّاً في مسألة التربية لكونه أوّل من فكّر بالحريّة على أنّها ” الهدف الأقصى للتربية”(…).
يشدِّد جان- ميشيل بلانكيه كذلك على ضرورة الانتباه إلى عدم مُعارضة المهامّ التاريخيّة للمدرسة. فهذه المهامّ تنهض من كونها جوهريّة، لكن يجب بنْينتها في الزّمن. يجب أن تسمح المرحلة التعليميّة الأولى، من الحضانة حتّى نهاية المرحلة المدرسيّة، لكلّ واحدٍ باكتساب قاعدة من المَعارف والمهارات، فضلاً عن ثقافة غير نفعيّة تسمح بالعيش ليس إلّا(…). ” فإذا ما دخل بعدٌ عمليّ ونفعيّ في مرحلة لاحقة، في الثانويّة، فإنّ الأمر لا يبدو لي صادِماً على الإطلاق، بل بالعكس. فالتفاضليّة تكتسي عندئذ معنىً، ليس لسبب إلّا لأنّ التطلّعات تكون مُختلفة بين مراهقٍ وآخر”.
بدَوره يعلّق موران من ثمّة بأنّه لا ينبغي على المدرسة أن تتكيّف مع الحاجات المِهنيّة والتقنيّة للمجتمع فقط، بل عليها كذلك أن تكيِّف حاجات المجتمع مع حاجات الثقافة، مُعرباً عن سروره بأنّ جان- ميشيل بلانكيه أعاد إمكانيّة دراسة اللّاتينيّة واليونانيّة في المدرسة. إلّا أنّه يعتبر، في ما يخصّ فكرة “التعليم على العَيش”، أنّ ثمّة قصورات أساسيّة في البَرامج، ولاسيّما ” التعليم حول ما هي المَعرفة، ومعالِمها، وعيوبها، وصعوباتها. المَعرفة ليست صورة موضوعيّة للواقع، جاهزة للاستخدام؛ إنّها عمليّة ترجمة وإعادة بناء، حيث يكمن الخطر في أن نُخطئ بشكلٍ دائم. وبالتالي، فإنّ إحدى أهمّ حاجات العيش، في مراحل الحياة كلّها، هي معرفة المَصادر المُحتملة لأخطائنا وأوهامنا. فالوضوح هو صراع يجب أن نسلِّح من أجله الرّوح. ليس من الخطر في شيء إذا ما أخطأنا في المدرسة. إذ يُمكننا أن نخطئ كذلك، ومع نتائج أكثر دراماتيكيّة، في ما يخصّ اختيار مِهنة، أو صداقة، أو حبّ، أو حول خَيارٍ سياسيّ. وخطر الوقوع في الخطأ أو الوَهم مسألة لم تخرج الإنسانيّة منها أبداً “.
فضلاً عن المعرفة، ثمّة موضوع رأى موران أنّه حيويّ، وهو “فهم الآخر”، وقد اعتبره ذا بُعدٍ كوكبيّ. ففي داخل كلّ أسرة يقول، و” في داخل كلّ منظّمة، ظواهر عدم القدرة على فَهم الآخر متعدّدة. هاتان هما إذاً الفجوتان الرّاهنتان: المَعرِفةُ والفَهْمُ الإنسانيّ. تَجنُّبُ أخطاءٍ يُمكنها أن تكون مُميتة أو قاتِلة أحياناً، إلى أقصى حدّ مُمكن، وفَهْمُ الآخر من دون احتقاره، ومعرفة أنّ الآخر هو في الوقت عينه شبيه لي ومُختلف عنّي”.

أيّ رهانات… وأيّ مُقاربة للمستقبل التربويّ؟
الحوار المتعدّد الأبعاد والرؤى تفرّع وطال بحيث يصعب اختزاله في هذه المساحة، إلّا أنّنا اخترنا منه محطّة أساسيّة عكست اختلاف وجهات نظر كلا المُتحاورَين حيال مسألة تربويّة مهمّة، تمثّلت من جهة في الاختيار بين الحفاظ على النظام التعليميّ القائم على ترتيب المَواد التعليميّة بحسب كلّ اختصاص على حدة، والاتّجاه نحو تداخُل الاختصاصات والمَعارف من جهة أخرى. فالمسألة تتعلّق على حدّ تعبير جان- ميشيل بلانكيه بـ” الرهانات الحياتيّة التي تحتجب خلف الدروس، وبخاصّة في بداية كلّ مرحلة دراسيّة كبرى”؛ بحيث طاول الحوار أيضاً أهمّية تدريس التاريخ في فرنسا بطريقة كرونولوجيّة، ولاسيّما في هذه الفترة الزمنيّة التي وصفها إدغار موران بأنّها ” فترة أزمة الاندماج”، لأنّ التشكّل التاريخيّ لفرنسا هو مثال أو نموذج عنه.
الملحّ بالنسبة إلى إدغار موران هو في ” إيجاد معنى المشكلات أو المسائل الكبرى”، ولاسيّما أنّ الموضوعات الكبرى تحتاج إلى تعدّد المَعارف، ولذا يتمّ برأيه استبعادها من البَرامج المدرسيّة. فالجواب مثلاً عن سؤال ” مَن هو الكائن البشريّ أو الإنسان؟” لا يتمّ تعليمه في أيّ مكان ” في الوقت الذي يُلامس فيه هذا الجواب أعمق ما في هويّتنا. الجواب تراه يتشظّى في البيولوجيا والبسيكولوجيا والسوسيولوجيا والأدب والتاريخ…إلخ.
فمن خلال تقسيم المَعارف على الاختصاصات، نقوم بتكوين قُدرات متخصّصة، لكننّنا نُقلِّص القدرة على الربط بين هذه المَعارف، وبالتالي النّظر فيها بكلّيتها وشموليّتها. لذا أعتقد بضرورة استخدام تداخل الاختصاصات التربويّة بشكلٍ أكبر”.
ولئن اعتبر بلانكيه أنّ نيّة موران مُمتازة، إلّا أنّه عبّر عن تحفّظه عمّا أدلى به بحجّة أنّ هناك خطراً بمنْح مسألة التداخل المَعرفيّ امتيازاً بأيّ ثمن. أي ” الغوص في كُلٍّ أو جمْعٍ كبيرٍ يجري فيه تمييع المَعرفة. فالمَعرفة بحاجة إلى نقاطِ مدخليّة لكي تكون ملموسة. إدغار موران، طفلاً، قرأ مئات الكُتب. والسينما بدَورها كانت مهمّة بالنسبة إليه. وقد بنى لنفسه ثقافة عامّة. والحال أنّني أخشى أن تقوم بعض المُقاربات الموضوعاتيّة على حساب الكرونولوجيا أو التسلسل الزمنيّ في ما يخصّ التاريخ أو على حساب القواعد في ما يخصّ اللّغة الفرنسيّة. فإذا لم نفهم ما هو الضمير، والفعل، والمفعول به، لا يسعنا أن نفهم الأفكار الدقيقة لروايةٍ لدوستويفسكي. دراسة المؤلِّفين في تسلسلٍ منطقيّ، إلى حدّ ما، يسمح بفهم لماذا تتطوّر لغتهم في سياق تاريخ الإنسانيّة. الكلمتان- المفتاحان بالنسبة إليّ هُما، بَنْيَنة وتفسير. تلقّي ثقافة مُبنْيَنَة وواضِحة هو برأيي الشرط الأوّل الضروريّ من أجل فكرٍ كلّي يربط الأشياء كفكرِ إدغار موران(…). لكنْ يجب أيضاً العمل على تداخُل المَعارف في داخل كلّ اختصاص. بالفرنسيّة، هذا يعني دراسة المؤلّفين، إقامة غزوات نحو التاريخ، وعِلم الاجتماع، والعلوم…إلخ. لهذا السبب أنا أميل إلى مُقارَبة كرونولوجيّة للأدب لكي أنسج صلاتٍ مع التاريخ”.

المصدر: مؤسّسة الفكر العربيّ

Optimized by Optimole