اليهودية السياسية.. من الصهيونية التقليدية إلى الصهيونية الجديدة

Spread the love

صلاح سالم | لم تكن اليهودية الأرثوذوكسية تمثل مشكلة حقيقية للعرب عندما بدأ الصراع العربي- الإسرائيلي، فما كانت تطرحه من تصورات معادية للحركة الصهيونية، كقومية علمانية، قد مثل تعضيداً للموقف العربي الرافض لها. غير أنها سوف تشهد عبر الزمن، قبل إنشاء الدولة الإسرائيلية بقليل وكذلك بعدها، انشقاقاً مهماً بين تيارين: أولهما هو التيار الحريدي الذي مثل استمراراً لليهودية التقليدية ولكن على نحو أكثر تشدداً ومحافظة، يرفض الحداثة، ويطرح تأثيراته المحافظة على الحياة داخل إسرائيل.

وثانيهما تيار الصهيونية اليهودية الذي يمثل خليطاً يتداخل فيه وعي تقليدي مشبع بأساطير الاختيار والنقاء العرقي وقداسة الشعب اليهودي، مع وعي قومي ينشد التوسع والاستيطان، ويسند إلى الدولة الإسرائيلية دوراً مسيانياً/ خلاصياً، معتبراً أن قيامها بمثابة آلية تسريع لعودة للمسيح واستدعاء للتدخل الإلهي في التاريخ، كما أن توسعها في الأرض التوراتية الموعودة علامة على التقدم نحو الخلاص، فتأسيس الدولة ليس هدفاً في ذاته بقدر ما أنه وسيلة لتحرير الأرض وتسهيل العودة الروحية لكل اليهود إلى أرض الميعاد.

تشكل التيار الأخير، الصهيونية الدينية، أساساً من يهود متدينين، لكنهم اختاروا البقاء في صفوف الحركة الصهيونية؛ باعتبار أن ذلك أحد متطلبات المعركة ضد الاتجاهات العلمانية داخل الصهيونية نفسها. لم يرفض هؤلاء ضرورة بناء مجتمع يهودي، ما جعلهم ينضمون إلى الصهاينة العلمانيين في تشجيع الهجرة واستيطان الأرض وبناء المؤسسات، بل إنهم أسسوا الجناح الديني القومى داخل المنظمة الصهيونية العالمية. وفي حين انفصل المتدينون المتزمتون عن المجتمع اليهودي العلماني في فلسطين، ظل الصهاينة المتدينون يشتركون مع الصهاينة العلمانيين في عديد المؤسسات، ومن ثم اعترفوا بالدولة لدى قيامها، وأسبغوا عليها معنى دينيا من خلال صلوات خاصة، ولا يزالون يشاركون في الخدمة العسكرية والعمل في الأجهزة الحكومية، كما ينشطون من الناحية الاقتصادية في المهن المختلفة، وإن حافظوا على نظام تعليمي منفصل.

ولعل التمثيل الأبرز للصهيونية الدينية يتمثل في جماعة «جوش إمونيم» أو كتلة المؤمنين التي أسسها الحاخام كوك الأكبر لا من أجل التنافس علي مقاعد الكنيست، بل بهدف تحقيق اليقظة العظمي للشعب اليهودي والخلاص الكامل لإسرائيل والعالم أجمع. وعلي حين أزاح الصهاينة الأوائل من القوميين والعلمانيين واليساريين الدين جانباً، أصر أعضاء الجوش علي تجذير حركتهم في الديانة اليهودية. وعلي حين كان العلمانيون يفسرون الخلاص تفسيراً سياسياً، اقتنع النشطاء المتدينون أن الخلاص المشيحاني قد بدأ بالفعل، وأنه لن يكون هناك سلام في بقية أنحاء العالم إن لم يستوطن الشعب اليهودي أرض إسرائيل بكاملها.

تؤمن جوش إمونيم بأن فكرة شعب الله المختار تلغى سائر القوانين التي تتحكم في العلاقات السائدة بين سائر الشعوب، فيرى الحاخام «شلوو أفنيرى» الذي يعد من أبرز منظريها: أن الوصايا الإلهية للشعب اليهودي تسمو على كل الأفكار الإنسانية. وحينما يطلب الله من سائر الأمم الخضوع للقوانين الأخرى المجردة الخاصة بالعدل والفضيلة، فإن هذه القوانين لا تنطبق على اليهود لأن الله يتكلم مع شعبه؛ أي شعب إسرائيل مباشرة. أما الحاخام إليعازر فيلدمان رئيس مدرسة «نير» المتخصصة في الدراسات التلمودية بمستوطنة «كيريات أربع»، فذكر إثر مذبحة صبرا وشاتيلا التي تعرض لها الفلسطينيون عام 1988: «أن الحروب أمر طبيعي ومتوقع، كجزء من عملية العودة لأرض الميعاد، فليس من الممكن أن تستكمل عملية العودة إلى الأرض بأية وسيلة سوى الحرب».

هكذا تقدم الصهيونية الدينية تفسيراً متطرفاً وعنيفاً للصهيونية العلمانية؛ إذ ُينظر أنصارها إلى إسرائيل الحالية كمجرد رافعة للسيطرة على أرض إسرائيل التوراتية، فأرض الأجداد هي الهدف النهائي والدولة مجرد أداة. ومن ثم يبدو الولاء السياسي للصهيونية الجديدة متجها إلى شعب يهودي متخيل، يتم تصويره كتجمع فريد روحياً وعرقياً بأكثر من كونه تعبيراً عن جنسية إسرائيلية أو مجتمع سياسي تحدده المواطنة المشتركة، فالانتماء القانوني والعملي لهذا التجمع لا يخرج عن كونه شيئاً ثانوياً بالنسبة للرابطة القومية المتخيلة. من هنا تمثل الصهيونية الدينية/ الجديدة توجهاً استبعادياً، ثقافياً وسياسياً، متطرفاً وعنصرياً، معادياً للديمقراطية، يسعى إلى إثارة التوتر مع الإطار المحيط بإسرائيل. بل يمكن الادعاء بأنها تمثل نوعا من قومية رومانسية تقوم على الاختزالية كسمة كل النزعات الأصولية، كما تقترب من النزعة العرقية المؤسسة للنازية، إذ تهدف إلى استعادة العصر المتوهم للمجد اليهودي، وإلى إعادة بناء الهيكل الثالث الذي يكاد يماثل (الرايخ الثالث) على أنقاض الحرم القدسي الشريف، بل ويجهزون كوادرهم كي تعمل كحاخامات هناك عندما يحين الوقت، رغم إنهم لا يزالون يختلفون حول سبل تحقيق ذلك الهدف، فبعضهم يرى ضرورة هدم المسجدين القائمين على جبل القدس، بينما يأمل آخرون في تدخل إلهي يفتح الطريق أمام مشاريعهم.

وقد أسهمت الأزمات السياسية والعسكرية التي واجهت إسرائيل منذ السبعينيات، علي منوال حرب أكتوبر مثلا والانتكاسة التي حدثت في جنوب لبنان؛ في تغذية نزعة إحياء ديني غالبا ما تصاحب رغبة نفسية تنزع إلي قراءة هذه الأزمات في ضوء الكتاب المقدس وأساطير الوعد والاختيار بقصد التثبت بها والتيقن من وجود مستقبل للدولة الإسرائيلية، حيث ركز أتباع الحاخامين كوك وشاس، من منطلق الانتقائية الأصولية، علي الأجزاء الأكثر عدوانية فيه، تلك التي أمر فيها الرب بني إسرائيل بطرد السكان الأصليين لأرض الميعاد، وعدم عقد معاهدات معهم، وتدمير رموزهم المقدسة، وإبادتهم. وتجادل شلومو أفينير بأن تعليمات الرب بشأن غزو الأرض أهم من «الاعتبارات الإنسانية والأخلاقية والحقوق القومية للأغيار في أرضنا». واقترح معظم أتباع الحاخام كوك أن يسمح للعرب بالبقاء في أرض إسرائيل «فقط» كمقيمين أجانب يعاملون معاملة حسنة ما احترموا دولة إسرائيل. إلا أنه لا يمكنهم أن يصبحوا مواطنين أو يحصلوا على حقوق سياسية. وقد أنكر آخرون علي الفلسطينيين حتى هذا القدر من الاعتبار ومارسوا الضغوط عليهم للهجرة، واقترحت أقلية منهم الإبادة. واستشهدوا بالفقرات التي وردت في الكتاب المقدس عن العماليق الذين كانوا قوماً عتاة أمر الله بني إسرائيل أن يذبحوهم دون رحمة. وفي عام 1980م نشر الحاخام «إسرائيل هس» مقالاً بعنوان «الإبادة أمر توراتي» في مجلة جامعة بار – إيلان الرسمية، ادعى فيها أن الفلسطينيين بالنسبة لليهود كالظلام بالنسبة للنور، وأنهم يستحقون نفس مصير العماليق. وفي العام نفسه، كتب حاييم تزوريا أحد المستوطنين يقول: إن المقت طبيعي وصحي، ففي كل جيل نجد أن هناك من ينهضون لإبادتنا، لذا فلكل جيل عماليقه الخاصون به. وعماليق جيلنا هم العرب المتطرفون الكارهون لنهضتنا القومية التي حققناها في أرض أجدادنا.

وقد تدعَّم هذا التطرف الأصولي بحركة الهجرة المستمرة إلى داخل إسرائيل، وخاصة موجة المليون مهاجر روسي عقب الانهيار السوفياتي، والتي تميزت بكثافتها وعمق تأثيرها. فمن المعروف أن المهاجر الجديد إلى أي مجتمع، خصوصا إذا كان مجتمعا استيطانيا، ودولة عنصرية تقوم على الأسطورة السحرية أو الرؤية الدينية للعالم كإسرائيل، إنما ينزع إلى التشدد في تبنى تلك الأساطير والمزايدة على المستوطنين الأقدم منه، تأكيدا لولائه لمجتمعه الجديد، وربما كسبا للمنافع التي قد يولدها ذلك الانتماء المتطرفن فضلاً عن كونه يمثل محاولة لإشباع الهوية الذاتية، التي تعانى من اختلال نتيجة انتقاله من مجتمعه الأقدم «الاتحاد السوفياتي» بكل ذكرياته وشجونه وطرائقه في العيش، إلى مجتمع جديد له طرائقه المختلفة التي تحتاج على نوع من التكيف معها، ومن ثم إلى الإمعان في تبنى أساطير ومعتقدات، تعمل كغضاريف ومفاصل قادرة على الربط والدمج بين الذات الفردية للمهاجر والوطن الجديد.

أضف إلى ذلك أن انهيار البنية الأيديولوجية الشيوعية نفسها، والتي كانت قد قمعت مكونات الهوية الدينية والقومية لدى الشعوب السوفيتية سابقاً، قد ولدت الحاجة لدى الجميع إلى عملية إحياء ديني وقومي، سواء كانوا مسيحيين أرثوذوكس في المجتمع الأم، أو يهودا في المجتمع الإسرائيلي، حيث تتميز لحظات الانتقال بنوع من الحدة في التعبير عن الهوية التقليدية، والرغبة العارمة في إشباعها. وقد أدت ضخامة هذه الموجة نفسها والتي بلغت نسبة عالية من المجتمع الإسرائيلي (نحو 20 في المئة) ربما يمتد تأثيرها إلى المتعاملين معهم والمحيطين بهم، والساعين من السياسيين في الأحزاب الإسرائيلية إلى كسب ودهم وضمان تأييدهم في الانتخابات، إلى تعديل في المزاج العام للشخصية الإسرائيلية، خصوصا فيما يتعلق بالتعاطي مع العرب، حيث تم استعادة عقد التفوق والخيرية للعمل بكفاءة منقطعة النظير.

وهكذا تترك الصهيونية التقليدية/ العلمانية مكانها لصهيونية جديدة/ دينية، ويعود اليهود أدراجهم، أسرى لعقدهم التي تحرمهم من كل حضور جمعي فعال، عقلاني وإنساني، حتى تكاد القاعدة القديمة أن تتأكد: وهو أنه كلما عاش اليهودي مستقلا كفرد/ إنسان، كان إضافة للحضارة، وكلما نحى إلى إعادة تشكيل وجوده الجمعي كان رمزاً للعدوانية، التي لا تعدو إسرائيل أن تكون تجسيداً كاملاً لها؛ إذ تتبدى كمولود تاريخي لقيط، أناني وسادي، تدفعه أنانيته إلى القمع، وتزيد ساديته من توقه النهم إلى مشاهدة روايته التاريخية معادة ومصورة للغير أمام عينيه في دراما إنسانية أكثر مأساوية، يزيد من تعقيدها ويعيد إنتاجها باستمرار هاجس الأمن وعقدة الخوف الذاتي التي غالباً ما تصاحب كل كائن لقيط لا يجد لنفسه صكوك نسب إلى الزمن، حيث تصبح القوة، مع المبالغة في إظهارها، هي الوثيقة الرئيسية، وصك النسب الوحيد إلى صيرورة الزمن، الأمر الذي يحيل هذا الكائن اللقيط إلى ملاكم في حلبة واسعة يلاكم من فوقها الجميع، حتى في أوقات الراحة وبعد نهاية كل جولة، بل وكذلك بعد نهاية المباراة خوفاً من الهزيمة/ العدم، ولو بدا انتصاره واضحاً في كل جولة سابقة؛ لأنه لا يثق، ولا يمكن أن يثق، لا في خصمه ولا في الحكم/ التاريخ، ولا حتى في قواعد اللعب التي تجعله محدوداً بزمن لابد أن ينقضي.

المصدر: الحياة

Optimized by Optimole