التعليم وأوضاعه في أتون الحروب العربيّة

Spread the love

د. رفيف رضا صيداوي _ مؤسّسة الفكر العربي/

تشتمل خطّة التنمية المُستدامة لعام 2030 على 17 هدفاً، منها هدف عالَميّ جديد في مجال التعليم، هو الهدف التنمويّ الرابع الذي يفيد بضرورة “ضمان التعليم الجيّد المُنصف والشامل للجميع وتعزيز فُرص التعلُّم مدى الحياة للجميع”، ومنها أيضاً “ضمان أن يتمتّع جميع الفتيات والفتيان بتعليمٍ ابتدائيّ وثانويّ مجّانيّ ومُنصف وجيّد، بما يؤدّي إلى تحقيق نتائج تعليميّة مُلائمة وفعّالة بحلول عام 2030″، و”ضمان تكافؤ فُرص جميع النساء والرجال في الحصول على التعليم التقنيّ والمهنيّ والتعليم العالي الجيّد والميسور التكلفة، بما في ذلك التعليم الجامعي، بحلول عام 2030″…إلخ، وهي بنود في معظمها تنطلق من خلفيّة مساواتيّة، جندريّة وطبقيّة ومناطقيّة.

لكنّ المُراقب لأوضاع بلداننا النامية، أقلّه في العقدَين الفائتَين، يلحظ أنّ تحقيق الأهداف المُشار إليها تعترضه عقبات جمّة، منها ما هو مرتبط بطبيعة الاختلالات البنيويّة للدولة في عالمنا العربيّ، وتعثُّر خطط التنمية فيها، ومنها ما هو ظرفي، ناتج عن الحروب والنزاعات التي يعاني منها بعض دولنا. ففي تقريرٍ بعنوان “طريق لم يُسلك بعد: الإصلاح التعليمي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا”، صادر عن منشورات دار الكِتاب الجامعي في الإمارات العربيّة المتّحدة بدعمٍ من البنك الدولي في العام 2008، أي قبل انطلاق “ثورات الربيع العربي” وما تبعها من نزاعات وحروب داخليّة وخارجيّة لم تنتهِ فصولها بعد، تمّت الإضاءة على بعض تلك الاختلالات البنيويّة لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وضمناً دولنا العربيّة، كعدم تساوُق الطلب على التعليم الثانوي والعالي المجّاني مع الحاجات الحقيقيّة للاقتصاد، وعدم الإقبال على التعليم الفنّي، بسبب الطبيعة غير الفنيّة للوظائف التي تكفلها الحكومة، وارتفاع أعداد الجامعيّين الدارسين للعلوم الإنسانيّة وعلوم الاجتماع التي تستقطب تحو ثلثي الطلّاب؛ ففي جيبوتي ومصر والمغرب وعُمان والسعوديّة والإمارات والضفّة الغربيّة وغزّة، ثمّة أكثر من 70% من الطلّاب في كليّات العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة؛ ويُعلِّل التقرير بعض أسباب هذا النمط من الالتحاق بالجامعة بالقول إنّه – أي هذا الالتحاق – كان “متساوقًا تاريخيّاً مع سياسةٍ هادفةٍ لامتصاص مُعظم خرّيجي الجامعات في وظائف الخدمة المدنيّة؛ بَيْدَ أنَّ هذا لا يناسب وجود استراتيجيّة تنمويّة تقوم على المُبادرات الخاصّة والتصنيع الديناميكي وقطاعات الخدمات”.

أمّا إذا استندنا إلى مؤشّرات مثل الإنفاق العامّ على التعليم، ومعدّلات الالتحاق بالتعليم، وعدد سنوات التعليم النظامي، لوجدنا أنّ الكثير منها إيجابيّ، بخاصّة لجهة متوسّطات عدد سنوات الدراسة التي يتلقّاها الطفل منذ بلوغه سنّ التعلُّم، وارتفاع سنوات الدراسة المتوقَّعة لمَن بلغ سنّ 25 فأكثر، والتي تأتي مُقترنةً في بعض الدول بتقدّمٍ مُحرَز على صعيد التنمية البشريّة خلال السنوات الـ25 الماضية، والذي يقترن أو يتساوق بدَوره مع اتّجاهٍ عامّ نلحظه اليوم، وهو التحسُّن المطّرد على صعيد التنمية البشريّة. فاليوم، وبحسب “التحديث الإحصائي” لبرنامج الأُمم المتّحدة الإنمائي للعام 2018، ومن أصل 189 بلداً شملها حساب دليل التنمية البشريّة، يصنَّف 59 بلداً من ضمن المجموعة ذات التنمية البشريّة المُرتفعة جدّاً، و38 بلداً فقط ضمن المجموعة ذات التنمية البشريّة المُنخفضة، بعدما كانت تلك الأعداد 46 و49 بلداً على التوالي، في العام 2010.

تكفي الإشارة إلى التوسّع الكبير في التعليم العالي الذي شهده العالَم العربي، وبخاصّة منذ تسعينيّات القرن الماضي، والذي لم يكُن في بداية الخمسينيّات يشمل سوى 13 جامعة رسميّة وخاصّة، لنلحظ ارتفاع العدد، في السنوات القليلة الأخيرة تحديداً، إلى أكثر من 700 جامعة مع أكثر من 13 مليون طالِب، وارتفاع إجمالي القيد، أقلّه بنسبة 2.5 أضعاف في العقد الأخير وحده (تقرير اليونسكو: لتمويل التعليم العالي في الدول العربيّة،2008). أمّا في ما يخصّ الإنفاق على التعليم، فإنّ الدول العربيّة تكرِّس أكثر من 10 % إلى 20 % من موازناتها السنويّة للتعليم، بما فيه التعليم العالي.

المؤشّرات المُضلِّلة أحياناً

لكنّ هذه المؤشّرات، التي قد يكون بعضها مُضلِّلاً أحياناً، شهدت، وبعكس ما كانت تَعِد به في مطلع الألفيّة الثالثة، تراجُعاً صاحبته الأزمات على المستوى الكَوني، وتلك التي تعصف بالشرق الأوسط تحديداً، بوصفه مِحور الصراعات الجديدة والأزمات الرّاهنة. فلنبدأ بالإشارة إلى أنّ 100000 شخص قُتلوا في النزاعات المسلَّحة في العام 2014، وهي أعلى نسبة وفيّات كانت قد سُجِّلت منذ العام 1994، وأنّ منطقة الشرق الأوسط كانت المنطقة الأكثر عرضةً لأعمال العنف مع ما جرى من تطوّرات في العراق وسوريا، والتي كانت مسؤولة عن زيادة حصيلة الوفيّات بحسب إحصاءات عائدة للعام 2015 (التقرير العالَمي لرصد التعليم 2016، اليونسكو)؛ ولْنتابع ما نشرته “المفوضيّة السامية للأُمم المتّحدة لشؤون اللّاجئين” على صفحتها الإلكترونيّة الرئيسة، للتدليل بدايةً على بؤس العالَم هذا، وبؤس الشرق الأوسط تحديداً: فقد أعلنت المفوضيّة أنّها تشهد الآن “أعلى مستويات مسجَّلة للنزوح منذ إنشاء المفوضيّة”؛ بحيث أُجبر 70.8 مليون شخص في أنحاء العالَم كافّة على الفرار من ديارهم، وهو رقم لم يسبق له مثيل. كما أنّ من بين هؤلاء حوالى 25.9 مليون لاجئ، وأكثر من نصفهم دون سنّ الـ 18 عاماً؛ وأنّ أكثر الأطفال ممّن هُم في سنّ الدراسة والبالغ عددهم ستّة ملايين والذين ينضوون تحت ولايتها – أي 3.7 مليون طفل – لا يرتادون المدارس؛ وأنّ هناك حوالى 1.75 مليون طفل لاجئ لا يذهبون إلى المدرسة الابتدائيّة، فضلاً عن 1.95 مليون لاجئ في سنّ المُراهقة لا يذهبون إلى المدرسة الثانويّة، مع ازدياد أرجحيّة عدم ذهاب اللّاجئين إلى المدرسة خمس مرّات عن المعدّل العالَمي؛ ناهيك بملايين الأشخاص من عديمي الجنسيّة الذين حُرموا من الحصول على الجنسيّة والحقوق الأساسيّة مثل التعليم والرعاية الصحيّة والعمل وحريّة التنقّل.

لم تسلم البلدان العربيّة، التي تُعتبر في قلب الحدث أو الأحداث العالَميّة، من تلك الأوضاع البائسة، ففي تصريح يعود إلى العام 2008، عبَّر وزير التعليم العراقي آنذاك عن انعكاسات الحروب على أوضاع التعليم في العراق قائلاً: “بعد عقدَين من العقوبات الاقتصاديّة والحرب، لا يعرف ثلث البالغين العراقيّين القراءة الآن. فالعراقيّون بحاجة إلى أكثر من 4300 مدرسة جديدة، فيما المدارس الموجودة في حالة سيّئة والسكّان يتزايدون”. أمّا تقرير المفوضيّة السامية للأُمم المتّحدة لشؤون اللّاجئين العائد إلى العام 2016، فيُعلن أنّ 94 % من الأطفال في سوريا كانوا في العام 2009 يذهبون إلى المدراس الابتدائيّة والثانويّة، إلّا أنّ نسبتهم انخفضت في حزيران (يونيو) 2016 إلى 60 % فقط، فبقي 2.1 مليون طفل ومُراهق من دون إمكانيّة الحصول على التعليم في سوريا. وبما أنّ الأحوال الأمنيّة لم تتغيّر في كلا البلدَين، بوسعنا أن نتخيَّل، بعد مرور أكثر من عشر سنوات على تصريح الوزير العراقي، وبعد أربع سنوات على تقرير المفوضيّة السامية للأُمم المتّحدة لشؤون اللّاجئين، كيف ستكون عليه أوضاع التعليم في هذَين البلدَين الآن ومُستقبلاً…

حروب لم تنتهِ وتدمير الرأسمال البشريّ

لقد تعاقبت الحروب في العراق وسوريا واليمن وفي غيرها من البلدان العربيّة وتزامنت لتُلقي بتأثيراتها السلبيّة والخطيرة على التعليم، الذي كان يُعاني أساساً من حقائق صادمة عبَّرت عنها تقارير عالَميّة، من بينها تقارير البنك الدولي، وتحديداً لجهة تراجُع نَوعيّته، وبُعده عن متطلّبات عصر الانفجار المَعرفيّ الذي يشهد فيه التعليم تطوّرات فائقة السرعة، ناهيك بتغيُّر فلسفته؛ إذ إنّه مع معدّلات الموازنات المخصَّصة للتعليم في البلدان العربيّة، بما فيه التعليم العالي (أكثر من10 % إلى 20% من الموازنات السنويّة كما سبقت الإشارة)، يبدو أنّ نقص التمويل لم يكُن العائقَ الرئيس أمام تراجُع نوعيّته وجودته، أو أمام عدم مُواكبته طُرق التعليم الحديثة قُبَيل اندلاع الحروب والنزاعات. فالتعليم التقليدي كما يُشير أحد الباحثين “يبتلع الأموال الطائلة، ولكنّ افتقاره إلى المعرفة الثقافيّة والاجتماعيّة، يجعله مصدراً لأفراد بمهارات شحيحة. في حين أنّ التعليم الحرّ يُهيّئ الأفراد لحياة أكثر إشباعاً في العمل وخارجه، وبخاصّة في مَرافق التفاعل الاجتماعي ومسؤوليّات الانخراط السياسي والمدني. ولعلّ الأهمّ يتمثّل في كونه يقلِّص من نزعات الجهل والتزمّت والأنانيّة، وهي أمراض اجتماعيّة مدمّرة” (منصور مبارك، “عن التعليم وحصاده”، نشرة أفق، العدد 52، مؤسّسة الفكر العربي، كانون الثاني/ يناير 2016 ).

نعم، الاختلالات بنيويّة، والحروب والنزاعات جاءت لتقضي على ما تبقّى من رأسمالٍ بشريّ عربيّ، ولتؤسِّس لفجوة عميقة في التحصيل العِلمي لأجيالٍ وأجيال. فإلى جانب إمكانيّة انخفاض أو تراجُع حصص الأسر من مجموع الإنفاق على التعليم في البلدان التي تشهد نزاعاتٍ وحروباً، نتيجة الأضرار المُختلفة التي تصيبها، وإمكانيّة تدنّي أوضاعها الاجتماعيّة والاقتصاديّة، ونتيجة الأضرار المُختلفة التي تصيب مؤسّسات التعليم، سواء أكانت أضراراً مادّيّة أم غير مادّيّة، لا بدّ أن نتوقّع تعثُّر تحقيق الهدف التنمويّ الرّابع من أهداف خطّة التنمية المُستدامة لعام 2030، والمتعلّق بالتعليم. فهذه الحروب والنزاعات سوف تؤدّي حُكماً إلى مزيدٍ من الاصطفافات الطبقيّة والجندريّة والمناطقيّة، التي من شأنها أن تُضاعف من الاصطفافات القائمة أصلاً على هذه الصُعد، سواء داخل البلدان العربيّة التي تشهد حروباً أو نزاعات، أم داخل المجتمعات التي استقطبت المُهاجرين العرب إليها. ذلك أنّ نصيب الفرد المُهاجر من تعليمٍ نوعيّ وذي جودة في البلد المُضيف يبقى أقلّ من نصيب السكّان الأصليّين. هذا ما يشير إليه بالأرقام تقريرٌ جديد لليونسكو بعنوان “بناء الجسور لا الجدران: الهجرة والنزوح والتعليم”، 2019، بالقول إنّه في برنامج التقييم الدولي للطلّاب لعام2015 ، وصل 49 % من الجيل الأوّل و61 % من الجيل الثاني من المُهاجرين البالغين من العمر 15 عاماً إلى المستوى 2 على الأقلّ من الكفاءة في القراءة والرياضيّات والعلوم، مُقارنةً بمعدّل 72% من السكّان الأصليّين. أمّا في لبنان، وبحسب مسح حول “القوى العاملة والأحوال المعيشيّة للأسر في لبنان” نُفِّذ خلال العام 2018 – 2019، فيتبيّن أنّه في حين سجَّل معدّل الأميّة على المستوى الوطني للمُقيمين بعمر 10 سنوات وما فوق 7.4%، سجَّل هذا المعدّل 6.3% لدى اللّبنانيّين مقابل 12.5% لدى غير اللّبنانيّين، كما سجَّل معدّل الأميّة لدى النساء الضعفَين على المستوى الوطني، وكذلك في فئتَي المُقيمين من لبنانيّين وغير لبنانيّين. وفي حين بلغ معدّل الالتحاق بالتعليم (للأفراد الذين تتراوح أعمارهم بين 3 و24 سنة) 79.2% لدى اللّبنانيّين، بلغ هذا المعدَّل 48.2% لدى المُقيمين غير اللّبنانيّين، وبرزت هذه الفجوة الحاصلة في جميع المراحل، وبخاصّة لدى الفئة العمريّة 15- 19 سنة.

يُمكننا الاستمرار في إيراد الأرقام حول المصير التعليمي للّاجئين والنازحين العرب عموماً، لتبيان الارتباط بين خلفيّاتهم الجنسيّة والطبقيّة والاجتماعيّة والمناطقيّة أو الجغرافيّة من جهة، وفُرص الالتحاق بالتعليم من جهة ثانية، وبتعليمٍ ذي نوعيّة على وجه التحديد؛ إلّا أنّ الغاية من كلامنا في هذه المساحة هي الإضاءة على وجه من وجوه أزمة التعليم العربي عموماً التي ستمتدّ لأجيال إذا ما استمرّت حروبنا واستمرّ معها التخلُّف عن رسْم الخطط وتطبيق بنودها تطبيقاً عادلاً وشفّافاً على الأرض.

Optimized by Optimole