هل يمكن التنبؤ بالثورة؟

Spread the love

شجون عربية – قراءة: نور بكري* — مُسميات مختلفة أُطلقت على الأحداث التي شهدتها بعض العواصم العربية منذ العام 2010، ولا تزال تداعياتها وارتداداتها قائمة حتى اليوم في مظاهر وتجليات يفرضها الظرف العربي الراهن. عناوين متغايرة طُرِحت لتوصيف المرحلة، وإشكاليات وأسئلة كثيرة رافقتها عن الأهداف والحيثيات والمآلات، اختار الباحث في الشؤون في الدراسات الإسلامية والشؤون العربية والدولية، الدكتور هيثم مزاحم، أن يجيب على إحداها في كتابه المعنون “لماذا تحدث الثورات؟”، الصادر حديثاً عن دار الرافدين (الطبعة الأولى، 2017).
يهدف مزاحم من خلال دراسته إلى تحري أسباب اندلاع الثورات وكيفية حدوثها، متبعاً في ذلك رصد أوجه الشبه ونقاط اللقاء المشتركة بين بعض الثورات، وتحليل الظروف السياسية والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها الشعوب في مرحلة ما قبل الثورة.
ينطلق لتحقيق هدفه من دراسات وأعمال فكرية تنظّر لمفهوم الثورة وماهيتها وشروطها ونتائجها، أبرزها دراسة “في الثورة”، للباحثة والفيلسوفة الأميركية – الألمانية حنة أرندت، “تشريح الثورة” للباحث والمؤرخ كرين برينتن، “عصرر الثورة: أوروبا (1789-1848)” للباحث والمؤرخ البريطاني إريك هوبزباوم، و”النظام القديم والثورة” للمؤرخ الفرنسي ألكسي دو توكفيل في كتابه، ومراجع أخرى تناولت في البحث والدراسة الثورات الفرنسية والأميركية والروسية والإيرانية والعربية.
يبدأ مزاحم بتأصيل مفردة “الثورة” لغوياً وتاريخياً. ومما يلفت إليه في هذا الإطار، أن الكلمة لم تستخدم في الاصطلاح العربي كمصطلح سياسي واجتماعي إلا في العصر الحديث، بمعنى التغيير الجذري والانقلاب والتمرد وتغيير النظام. وفي العصور السابقة، كان العرب يطلقون كلمة “الخروج” للتعبير عن الثورة على الحاكم والنظام القائم. ولعلّ أبرز ما يدلّ عليه في التاريخ الإسلامي، استخدام المفردة في خطاب الحسين بن علي في العراق (سنة 61 للهجرة)، حين قال: “خرجت لطلب الإصلاح”، وكان العاملان السياسي والديني الدافع الأساس لـ”الخروج” حينها. وكانت حركته إحدى “الثورات” التي تطرق إليها في البحث، وعدَّها نقطة تحول في التاريخ الفكري والعقيدي للتشيع. ويشابهها في الإسلام كلمة الصحابي أبي ذر الغفاري: “عجبت لمن لا يجد قوته، كيف لا يخرج شاهراً سيفه على الناس”. وفيها إشارة إلى المحفز الاقتصادي – الاجتماعي الباعث على الثورة.
في الحقل الدلالي، يشترك الاستخدام العربي لـ”الثورة” في حداثته مع نظيره الغربي، ويرجع أصل المفردة إلى علم الفلك تحديداً، للدلالة على دورات الكواكب التي لا يمكن تغييرها أو تبديلها، ثم نقلت مجازاً إلى المجال السياسي، وتحديداً في القرن السابع عشر، وكان معناها تعاقب الحكومات والدول في دورة لا يمكن للبشر تبديلها وتغييرها، كما جاء في تعريف حنة أرندت لكلمة “revolution” اللاتينية.

وبالتوازي، يقارب المؤلف بين مفاهيم متعددة، من مثل التغيير والتمرد والحرية والتحرر، متناولاً علاقتها بالثورة، وأوجه الشبه بينها، ليوضح الخطوط العامة التي تتقاطع من خلالها، ومواطن الخلاف بينها، للوصول إلى إجابة عن سؤاله إذا كانت مرادفات للثورة أو نماذج مختلفة منها! ويطرح آراء متعددة فيها، يخرج بعدها بتعريف فحواه أن الثورة تغيير جذري غير سلمي للنظام السياسي ورموزه وبناه السياسية والاجتماعية، يحصل عادةً بشكلٍ فجائيٍ ويكون مصحوباً بالعنف، ويحتاج إلى توافق أكثرية الشعب على التغيير لتأسيس نظام سياسي جديد.
يستعرض مزاحم آراء أرندت وبرينتن وهوبزباوم ودو توكفيل في الثورة، من خلال نماذج الثورات الفرنسية والأميركية والروسية، للبحث في أسبابها وظروفها وأهدافها، وهي التي تشترك في طبيعتها الثورية، ويتخذ كل منها طابعاً مختلفاً، انطلاقاً من نوعها والإيديولوجيا التي تنطلق منها، فيقول في معرض “المقارنة بين الثورات”، إن “الثورة الفرنسية كانت ليبرالية برجوازية، والثورة الأميركية كانت ثورة تحرر وطني من الاستعمار البرطاني، فيما كانت الثورة الروسية ثورة اشتراكية مناهضة للاستبداد”.
ويتطرق إلى نموذج الثورة الإسلامية في إيران، والعوامل المحفّزة لها، والنتيجة التي حققها الشَّعب بعد 36 عاماً على اندلاعها، على الرغم من أنها “لا تزال تشهد حراكاً ثورياً وصراعاً داخلياً عميقاً على السلطة بين الإصلاحيين والمحافظين”، كما يقول، متخذاً من كتاب “الثورة الإسلامية في إيران مقارنة بالثورتين الفرنسية والروسية” لمنوجهر محمدي، مرجعية أساسية لتقديم قراءة في أبعادها ونتائجها.
كذلك، يتناول الباحث في دراسته بعض الثورات التي حفل بها التاريخ العربي بعد ظهور الديانة الإسلامية في عصر الأمويين والعباسيين، ليصل إلى الأحداث التي شهدتها تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين وسوريا في السنوات القليلة الماضية، وأدّى بعضها إلى انهيار أنظمة وحكومات، فيعتبر أنَّ الوقت لا يزال مبكراً للحكم عليها، فضلاً عن تقييمها بشكلٍ موضوعيّ وعلميّ، ودراسة نتائجها ومقارنتها بالوعود والآمال المنشودة، مقارنةً بالثورات الفرنسية والروسية والإيرانية بعد انقضاء عقود من الزمن عليها.
وينهي بحثه بملاحظات يستخلصها من التجارب الثورية العالمية والعربية، ومن بعض الدراسات والمرجعيات الفكرية المطروحة. ففي رأيه، يعدّ تشخيص الثورة أمراً صعباً للغاية في مراحلها المبكرة، لكن الثورة الفعلية مفاجئة دائماً. وفي دوافع الثورات، يأتي همّ التغيير في المقدمة، ويحصد العاملان الاجتماعي والاقتصادي الدور الأبرز في دفع الناس إلى القيام بالثورات في بعض البلدان، فيما يشكل الدافع السياسي نتيجة الاستبداد والظلم محركاً للشعوب للانتفاض على الحاكم الظالم والمستبد، ويمارس العامل الثقافي الديني الدور الرئيسي في وقوع الثورة.
ويخلص إلى أنّ اجتماع عوامل عدة، وتراكم الدوافع والأسباب على فترة زمنية محددة، يؤديان إلى اندلاع الثورة وإلى نضوج أسبابها، وأن عاملاً واحداً لا يكفي وحده لإشعالها. أما أعراضها، فهي تميل إلى الكثرة والتنوع، وليست منتظمة في نمط متسم بالتنسيق، ما يجعل تشخيصها صعباً للغاية في مراحلها المبكرة.
ومن أبرز شروط الثورات، كما ورد في خلاصاته، وجود قائد أو قيادة تلهمها وتوجّهها وتقودها نحو النصر، وعقيدة أو إيديولوجيا تحدد المبادئ والأهداف المنشودة، وتساعد على تحريض الجماهير على الخروج والانتفاض والاحتجاج في سبيل تحقيق هذه الأهداف، ذلك أنها تتطلب وجود تنظيم مترابط يضم أطراف الحركة، ويحدد مسؤوليات الأعضاء فيها ودرجات انتمائهم وأساليب عملهم، ويتولى مسؤولية تعبئة الجماهير…
كانت “الثورات العربية” آخر النماذج التي تطرق مزاحم إليها، قبل انتهائه إلى الخلاصات، ولكنه اختار النأي بنفسه عنها، ولم يتبنَّ موقفاً منها. وقد بدأ بالسؤال الأساس الذي شكل محور بحثه: لماذا يثور الناس؟ ليجيب عنه في خاتمته، ويترك الباب مشرعاً أمام القارئ ليقارن أسباب الثورة التي خرج بها البحث بناءً على تجارب غربية وعربية سابقة، بالأسباب التي دفعت الشعوب العربية إلى الخروج إلى الشوارع والمطالبة بحقوق، ليس أقلها رفع الفقر عن كاهلهم، ومحاسبة الطبقة الحاكمة، ومعالجة أزمات غلاء الأسعار، والتصدي للبطالة والمممارسات القمعية، والمطالبة بالحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي كانت تشكل، ولا تزال، محركاً أساسياً لتحرك الشعوب في العالم ضد الأنظمة والحكام.
ورغم أن نتائج “الثورات” العربية باتت واضحة المعالم في كثير من البلدان، كما صرح مزاحم نفسه، عند إشارته إلى أن معظمها لم يحقق “الإنجاز الأساسي لها، وهو تغيير جذري للنظام وتولي الثوريين الحكم، فيما فشلت ثورات أخرى نتيجة عودة رموز النظام السابق إلى الحكم، أو تحول الصراع إلى حرب أهلية”، فإنه يترك الحكم للسنوات اللاحقة، لتتضح مظاهر التغيير، لكونها الوصف الأجدر لظاهرة الثورة، وفقاً لأرندت.

*كاتبة لبنانية.

Optimized by Optimole