مخاطر التطبيع على القضية الفلسطينية

اتفاقات التطبيع
Spread the love

شجون عربية – بقلم: أمين سمودي* –
تهدف هذه المقالة إلى إلقاء الضوء على مظاهر وأسباب التطبيع العربي مع “إسرائيل”، حيث تقوم بتحليل الظروف التي مرت على الوطن العربي قبل عقد اتفاقيات التطبيع التي تمت خلال العقدين الأخيرين ومن ضمنها الربيع العربي ومجيء الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى سدة الحكم، وسعيه إلى عقد تلك الاتفاقيات بين “إسرائيل” وعدد من الدول العربية، كما تقوم بدراسة أهم أشكال التطبيع، إضافة إلى تحديد أبرز مخاطر التطبيع مع “إسرائيل”، كما وتتناول المقالة أهداف “إسرائيل” من اتفاقيات التطبيع مع الدول العربية، وأخيراً سبل مواجهة مخاطر التطبيع مع “إسرائيل”، ويتمثل التساؤل الرئيس للمقالة على النحو التالي: ماهي المخاطر الجوهرية الناتجة عن تطبيع الدول الخليجية والعربية علاقاتها مع إسرائيل على القضية الفلسطينية؟
وتمثلت أهمية المقالة في كونها تلقي الضوء على الحالة التي وصلت إليها بعض الدول العربية في الهرولة للتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، ضاربين بعرض الحائط الحقوق الفلسطينية، وتغليب المصالح الشخصية.
ويعرف التطبيع أنه هو اتفاق بين دول معترف بها شرعياً وفق مبادئ القانون الدولي، بقصد إنهاء حالة النزاع أو الحرب من خلال معالجة الأسباب التي أدت إليها، والبدء بترسيخ أسس للعلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية الطبيعية المتوازنة المتكافئة، كتلك العلاقات القائمة بين الدول المتعايشة سلمياً على قاعدة المساواة والاحترام المتبادل والمصالح والمنافع المتبادلة .
يتردد مصطلح التطبيع عادة في سياق العلاقة بين متناقضين، كالاحتلال والرافضين لوجوده، وهو يعني جعل العلاقة بينهما طبيعية، في الوقت الذي تحول فيه أسباب جوهرية دون فعل ذلك، فالتطبيع يعتبر تاريخياً عملاً خارج سياق المعقول أو العرف أو المنطق من وجهة نظر الشعب الفلسطيني وعمقهم العربي والإسلامي، ولو لم يكن الأمر كذلك لما سمي الفعل تطبيعاً .
وعقب مجيء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى السلطة أصبحت “إسرائيل” تتمتع ببيئة استراتيجية مريحة حيث بات يشاطر بقوة السياسات المناهضة لإيران في المنطقة، وهو ما وظفته “إسرائيل” باتجاه بناء علاقات مع دول الخليج التي تشاطرها العداء لإيران برعاية أمريكية، وهو ما بينه بوضوح وزير جيش الاحتلال السابق أفيغدور ليبرمان خلال مؤتمر هرتسيليا للدراسات السياسية والاستراتيجية بعد شهر من القمة الخليجية الأمريكية وتحديداً في 22 حزيران/ يونيو 2017، ومن مساعي التطبيع الخليجي مع “إسرائيل” ينبئ بقيام ما يمكن أن نسميه “تحالف التطبيع البازغ” الذي ستكون أطرافه الدول الخليجية (السعودية، الإمارات، البحرين، عمان) والذي سيكتمل مع “تحالف التطبيع السابق” بأطرافه (تركيا، الأردن، مصر)، ليشكل بدوره ما يمكن أن نسميه “تحالف المتطبعين في الشرق الأوسط” بأطرافه (السعودية، الإمارات، البحرين، عمان، الأردن، مصر، تركيا، إسرائيل) ومن غير المستبعد أن تنضم (قطر) إلى هذا التحالف الناشئ .
أولًا: أشكال ومخاطر التطبيع:
وفي هذا الصدد، يمكن أن يندرج التطبيع بين الدول مهما كان مظهره في ثلاثة أنماط أساسية هي :
1. التطبيع السياسي والدبلوماسي: وهو مجموعة الإجراءات التي تباشرها الحكومات في العادة لإعادة العلاقات السياسية بين الدول إلى سابق عهدها قبل الانقطاع، ويندرج ضمن التطبيع السياسي التنسيق الأمني، والزيارات أو اللقاءات السرية والعلنية بين ممثلي الدول وتبادل الرسائل، وإجراء المفاوضات وتبادل التمثيل الدبلوماسي، وأحياناً المصافحة أو الالتقاء على هامش المؤتمرات الدولية، ويباشر التطبيع السياسي اليوم بواسطة وسائل الإعلام، وذلك من خلال الإعلانات والبيانات التي تعلنها الدول إزاء بعضها بعضاً.
2. التطبيع الاقتصادي: وهي تشكل أبرز تجليات إعادة العلاقات إلى طبيعتها بين الدول، ويدخل ضمن هذه العملية جميع الاتفاقات التجارية وتنفيذ المشاريع الاقتصادية والإنمائية المشتركة، وبروتوكولات التعاون في مجال إنعاش البنى التحتية، وكذلك إجراء الأبحاث المشتركة في مجالات الزراعة والبيئة والتنقيب عن الخامات، ويعد التطبيع الاقتصادي الآن من أهم المجالات التي يجري من خلالها تطبيع العلاقات بين الدول، وفي هذا المجال لا تضطلع الحكومات وحدها بمسؤولية التطبيع.
3. التطبيع الثقافي: تتضمن العلاقات الثقافية بين الدول جميع ما له علاقة بالشأن الثقافي، ويكاد يجمع الباحثون على أن التطبيع الثقافي يشكل الحلقة الأخطر في إعادة العلاقات بين الدول إلى حالتها الطبيعية، لارتباط الثقافة بالضمير الجمعي للشعوب، فمن الثقافة تتشكل مواقف الناس ورؤيتهم للعلاقات، ومواقفهم إزاء القضايا التاريخية المشتركة، ومن هنا تلجأ الدول إلى نشر ثقافتها والتأثير في ثقافات الدول والشعوب الأخرى بشكل قصدي من أجل استمالة الشعوب المستهدفة في التطبيع، وردم الفجوات السياسية بين الشعوب خاصة تلك التي خاضت حروباً فيما بينها، وتعد الجمعيات والمؤسسات الأهلية في الوقت الحاضر من أهم الأذرع والأدوات التي تتولى عمليات التطبيع الثقافي برضى ودعم من المؤسسة الرسمية في الدول المعنية بتطبيع علاقاتها مع دول أخرى.
إن جريمة التطبيع لا تتوقف تأثيراتها على الجيل الحاضر، فهي تقطع الطريق على الأجيال القادمة التي قد تتوفر لها فرصة التحرر من التبعية والنهوض، وتكسر حواجز العداء النفسي مع “إسرائيل”، وتمتد آثارها إلى تزييف وتغييب وعي الأجيال القادمة من خلال غسل الدماغ بواسطة البرامج الإعلامية، ومن خلال مناهج التعليم التي تتعرض للتعديل لاجتثاث كل معاني الانتماء إلى أمتهم الإسلامية وعقيدتهم ومقدساتهم وقضاياهم العادلة والحرة، من خلال سياسات التبادل التجاري، وتشجيع السياحة المتبادلة، والتعاون المشترك في كثير من الأنشطة العامة، وتسهيل التواصل بين الشباب العرب و”إسرائيل” عبر مواقع التواصل الاجتماعي والتواصل المباشر .
وفيما يتعلق باتفاقيات السلام المزعوم بين الدول العربية و”إسرائيل” التي عُقدت في السابق المتمثلة بمصر والأردن ومؤخراً الإمارات والبحرين، على مبدأ “السلام مقابل السلام” جاء على حساب حقوق الشعب الفلسطيني، لما تمثله تلك الاتفاقيات من دعم لسياسات “إسرائيل” التي تواصل عدوانها على الحقوق الفلسطينية والتمسك بقانون “يهودية الدولة”، الذي يشكل حجر الأساس لخطة تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه .
كما أن اتفاقيات التطبيع تتيح لـ”إسرائيل” الدخول إلى قلب النظام العربي واختراق المجتمعات العربية وبث بذور الفتنة والانقسام بداخلها، إضافة لاستنزاف أموال الدولة النفطية تحت مسمى “الاستثمار التكنولوجي”، ومن ضمن منطلقات “إسرائيل” في بناء علاقاتها مع أي دولة عربية تكمن في زيادة نفوذها واختراق العالم العربي ومحاصرته وفق نظرية “بن غوريون” منذ خمسينيات القرن الماضي، فمسار التسوية والمعاهدات بين دولة عربية و”إسرائيل” لم يحقق السلام والاستقرار للمنطقة ولم يحقق مصالح الشعب الفلسطيني .
ثانيًا: أهداف التطبيع الإسرائيلي العربي وسبل مواجهة مخاطره:
تطالب “إسرائيل” باستمرار بتطبيع علاقاتها مع الدول العرب دون أن تقوم بتغيير أيديولوجيتها الصهيونية وأهدافها في إقامة ما يسمى بـ”إسرائيل العظمى” على حساب الأرض والحقوق والثروات العربية، كما تتعامل مع عملية التسوية باستخفاف واستعلاء كبيرين، وممارسات إرهابية واستيطانية وعنصرية لا مثيل لها في العالم على الإطلاق، وتقوم بتسجيل التطبيع لإعادة تشكيل العقل العربي وحمله على تحقيق أهدافها المتمثلة بالتالي :
1. القبول بوجودها على حساب الوجود والحق العربي.
2. تبني الخرافات والأساطير والمزاعم والأكاذيب اليهودية.
3. التخلي عن ثوابت النضال العربي والتشكيك بجدوى التمسك بالهوية القومية والوحدة العربية.
4. التخلي عن مقاومة الاحتلال والاستيطان ووصف المقاومة المشروعة بالإرهاب.
5. القبول بالشروط والإملاءات الإسرائيلية لإقامة ما يسمى بـ”إسرائيل العظمى” الاقتصادية من النيل إلى الفرات.
وبالتالي ظهر اتجاهان، أحدهما يرفض التطبيع والنتائج التي تمخضت عنها المعاهدات والاتفاقات والقمم الاقتصادية وينقسم هذا الاتجاه بدوره إلى تيارين: الأول يرفض رفضًا مطلقًا أي شكل من أشكال التطبيع، والثاني يربط التطبيع بالانسحاب الكامل والحل العادل .
الاتجاه الثاني يوافق على التطبيع وينقسم بدوره إلى تيارين: الأول يتحمس إلى التطبيع والنتائج التي تمخضت عنها القمم الاقتصادية، والثاني يقابل عملية التطبيع ببرود ويطالب بإقامة السوق العربية المشتركة وتطوير التعاون الاقتصادي العربي .
إن محاربة ومواجهة التطبيع تتحملها الشعوب العربية والإسلامية للدفاع عن قضيتها العادلة، ولإحياء معاني الكرامة والعزة والانتماء في نفوس الأجيال، يستلزم ذلك قيام الأسرة العربية بواجبها في تحصين أفرادها من ثقافة التطبيع وتعميق ثقافة الهوية والانتماء، وإحياء مكانة القدس في النفوس، والتركيز على الآيات القرآنية التي تشرح تاريخ صراع أمتنا مع خصومها، وتربية الأجيال على الحرية والرفض للخضوع لجميع أنواع التنمر على المسلمين، ورفض ثقافة الاستسلام والدونية وثقافة اللامبالاة، لأن التطبيع في جوهره استسلام للتنمر .
ومن المهم استخدام وسائل الإعلام العامة المتاحة، ووسائل الإعلام الاجتماعي، في مقاومة التطبيع، مع ضرورة إنشاء مراكز دراسات وأبحاث تهتم بدراسة التطبيع، وصناعة السياسات الثقافية والتربوية والإعلامية والفنية لرصد تأثيرات التطبيع بأساليب علمية إحصائية كمية وكيفية وتحليلها، وتحديد المعالجات المناسبة لمواجهة ثقافة التطبيع .
كما ويجب ترتيب البيت الفلسطيني وحل مشكلة الانقسام فيه، وأن هذا الانقسام يفتح الباب أمام تبرير تطبيع العلاقات مع “إسرائيل” وتغييب الصوت الفلسطيني بحجة انقسامه وعدم وحدة خطابه، فموجة التطبيع الحالية تشكل خطراً مضاعفاً نظراً لتجاوزها للاكتفاء بتهميش القضية الفلسطينية إلى السعي الجاد لتشويه القضية الفلسطينية وتبني الرواية الصهيونية على حساب الرواية العربية .
نخلص مما سبق، أن التطبيع مع “إسرائيل” هو بناء علاقات رسمية وغير رسمية، سياسية واقتصادية وثقافية وعلمية واستخباراتية مع “إسرائيل” والتطبيع هو تسليم لها بحقه في الأرض العربية بفلسطين، وبحقه في بناء المستوطنات وحقه في تهجير الفلسطينيين وحقه في تدمير القرى والمدن العربية، وهكذا يكون التطبيع هو الاستسلام والرضا بأبشع مراتب المذلة والهوان والتنازل عن الكرامة وعن الحقوق، فالتطبيع يعني جعل ما هو غير طبيعي طبيعياً، ولا يعني بالضرورة إعادة الأمور إلى طبيعتها كما يذهب البعض.

*باحث في دراسات الشرق الأوسط، الجامعة العربية الأميركية.

Optimized by Optimole