مزرعة البشر … أزمة كورونا من السيمياء إلى عصر العبيد الرقمي!

كورونا
Spread the love

بقلم: صلاح عثمان (أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية – جمهورية مصر العربية)/

في الإسكندرية القديمة، حيث أسس «بطليموس» Ptolemy مدرستها الشهيرة التي عـُرفت باسم «الموزيوم» Museum (أي موئل ربات الفن والشعر: الميوزس)، وفي قسم خاص بالصنعة (الكيمياء)، اكتسبت خصائص العناصر الأفلاطونية والأرسطية (النار – الهواء – الماء – التراب) سماتٍ أخرى أضيفت إلى الطبيعة المحايدة للمادة، وهي سمات ترقى بالفلزات إلى مرتبة الكائنات الحية، حيث كان الظن السائد أنه بإمكان التفاعلات الكيميائية فصل «الروح» عن عنصرٍ معين ونقلها إلى عنصرٍ آخر فيتم بذلك التحول المنشود للمادة، وهو ما عُرف باسم «السيمياء» Alchemy. كانت هذه الأخيرة بمثابة علمٍ غامضٍ سعى ممارسوه إلى تحويل المعادن الأساسية مثل الرصاص إلى معادن نبيلة مثل الذهب من خلال عملية تسمى «كريسوبيا» Chrysopoeia (رمزية تحويل المعادن إلى ذهب)، وبينما كان هذا يُمثل الهدف العملي المُعلن للسيمياء، فقد كان هدفها السري هو التحول الداخلي للروح البشرية بُغية قهر الشيخوخة أو تحويل الجهل إلى معرفة رفيعة متعالية، وهو ما أدى إلى صك عدة مصطلحات للحُلم السيميائي ذاته، مثل «حجر الفيلسوف» Philosopher’s Stone (مادة أسطورية ساد الاعتقاد قديمًا بأنها تُحول الفلزات الرخيصة إلى ذهب)، و«إكسير الحياة» Elixir of Life (عقار أسطوري أو مشروب يضمن لشاربه حياة أبدية أو شباب أبدي)!

وفي أواخر العصور الوسطى وبدايات العصر الحديث، مثَّلت «السيمياء» في أوربا شكلاً من أشكال السحر يستدعي إقامة مراسم «التكفير العلني» Auto-da-fe، تلك التي يعقبها تنفيذ عقوبة الإعدام حرقًا، الأمر الذي دعا المشتغلين بالسيمياء إلى تشكيل طوائف سرية تعمل في الخفاء، وتقيم شعائرها وطقوسها الغامضة في شكلٍ رمزي، وبعض هذه الطوائف ما زالت موجودة حتى يومنا هذا (منها على سبيل المثال طائفة الماسونية Freemasonry). كذلك وجدت «السيمياء» طريقها إلى الأدب، كما في رواية «الدكتور فاوست» Doctor Faustus للكاتب المسرحي الإنجليزي «كريستوفر مارلو» Christopher Marlowe (1564 – 1593)، والتي باع فيها بطل الرواية روحه للشيطان من أجل اكتساب المعرفة المطلقة!
مع ذلك، وبغض النظر عن معالجاتها في الأدبيات الفلسفية، تُعد «السيمياء» وفقًا لكثرة من مؤرخي العلم مقدمةً هامة للكيمياء الحديثة، حيث أرست قواعد التطبيق لعدد لا بأس به من العمليات الكيميائية، كالتقطير، والتسامي، والانصهار، والترشيح، والتبلــّور، والإذابة، والتكليس، وغيرها من العمليات التي تعكس طموحات الكيميائيين الضخمة نحو الهيمنة على المادة والإمساك بلحظة تحولاتها الممكنة، وتعكس أيضًا تشابه الحلم وتطورات نُضجه. ولم يكن هذا التشابه بين حُلمي «السيمياء» و«الكيمياء» أكثر وضوحًا مما هو عليه اليوم، لاسيما بعد أن أطبق فيروس كوفيد-19 بقبضته الخفية على العالم، حيث أصبح العثور على لقاحٍ مضادٍ له بمثابة «حجر الفيلسوف» أو «إكسير الحياة» الجديد والمنشود للبشر (على حد تعبير «جاج سورايا» Jug Suraiya في مقاله المنشور بصحيفة «ذا إيكونومك تايمز» The Economic Times بتاريخ 20 سبتمبر 2020، تحت عنوان «السيمياء في زمن فيروس كورونا» Alchemy in the time of coronavirus)؛ فوفقًا لأحدث التقارير، هناك أكثر من مائة وأربعين تركيبة كيميائية تخضع الآن للتجارب على مستويات مختلفة، كما استثمرت الحكومات والمؤسسات الكبرى مثل مؤسسة «بيل وميليندا جيتس» Bill and Melinda Gates مليارات الدولارات لتمويل البحث عن «الرصاصة الفضية» Silver Bullet السحرية التي من شأنها القضاء على الفيروس العنيف والمُراوغ. وما زالت كثرة من البروتوكولات المتعلقة بتطوير اللقاح المُنتظر – ونتائج تجاربها على البشر – مُحاطة بالسرية في ظل التنافس المحموم على أخذ زمام المبادرة!

على أن هذه السرية لم تحل دون تهاوى بعض هياكل الخزائن السرية لشركات الأدوية العملاقة، مثلما حدث من قبل في مأساة «الثاليدومايد» Thalidomide (وهو عقار تم الترويج له في الستينات من القرن العشرين كمُهدئ للحوامل ومضاد لغثيان الصباح، لكنه أدى إلى تشوهات جسدية للمواليد، أبرزها ولادة أطفال بدون أيدٍ أو أرجل، أو بأيدٍ وأرجل شبيهة بالزعانف)، حيث تم إيقاف المرحلة الثالثة من التجارب السريرية لواحدٍ من أوفر اللقاحات المُرشحة للاستخدام ضد فيروس كوفيد-19، ألا وهو لقاح «أسترازينيكا» AstraZeneca الذي تتولى جامعة أكسفورد، بالتعاون مع شركة «أسترازينيكا» للمستحضرات الدوائية تطويره. وقد أثار الصمت اللاحق فيما يتعلق بالقضية من قبل الشركة المعنية شكوكًا واسعة النطاق حول سلامة هذه المعجزات الطبية المُبشر بها!

في رواية «الدكتور فاوست» يُناشد البطل معشوقته «هيلين» (فاتنة طروادة التي استحضرها له الشيطان زيفًا من جوف الأساطير اليونانية القديمة) أن تُنقذه من الموت قائلاً: «يا هيلين الجميلة، امنحيني الخلود بقُبلة». واليوم ربما يتكرر الأمر ذاته، لكن ثمة ضحكة شيطانية يتردد صداها في خلفية المشهد؛ ثمة أجندة يُلوح بها «بيل جيتس» ويُغازل بإمكاناتها التكنولوجية الهائلة أعين المتلهفين للقوة والهيمنة المُطلقة!

لا أستدعي بذلك نظرية المؤامرة كمُنظرٍّ أو مُروّجٍ لها دون سند، بل كمُحلل يتتبع الوقائع العينية المُعلنة المرتبطة بها قدر الإمكان، ويستنبط النتائج اللازمة منطقيًا عن مقدمات جلية وواضحة بذاتها؛ ففي مارس من سنة 2015، عرض «بيل جيتس» Bill Gates صورة لفيروس شبيه بفيروس كوفيد-19 خلال كلمته في مؤتمر «تيد توك» TED Talk (تيد TED اختصار للكلمات الإنجليزية «التكنولوجيا والترفيه والتصميم» Technology, Entertainment and Design، وهي سلسلة من المؤتمرات العالمية التي تهدف إلى التعريف بالأفكار الجديدة والمتميزة للعالم ونشرها، وترعاها «مؤسسة سابلنج» الأمريكية Sapling Foundation، وهي مؤسسة غير ربحية خاصة شعارها «أفكارٌ تستحق الانتشار»). وقتئذ أعلن «جيتس» لجمهور الحاضرين أن هذا الفيروس يُمثل أكبر كارثة في عصرنا، مؤكدًا أن قائمة التهديد الحقيقية للحياة لا تنحصر في الصواريخ والأسلحة النووية، وإنما تأتي الميكروبات في مقدمتها! وعندما اجتاح فيروس كوفيد-19 الأرض مثل تسونامي بعد خمس سنوات، أعاد «جيتس» (ومعه كبار السياسيين والاقتصاديين) إحياء لغة الحرب، واصفًا مواجهة الوباء بأنها حرب عالمية!

في مقالها المُعنون «أجندة بيل جيتس العالمية وكيف يمكننا التصدي لحربه ضد الحياة» Bill Gates’ Global Agenda and How We Can Resist His War on Life، المنشور بشبكة «إندبندنت ساينس نيوز» Independent Science News بتاريخ 23 سبتمبر 2020)، تشير الخبيرة البيئية الهندية «فاندانا شيفا» Vandana Shiva إلى أن «جيتس» قد نسي أو تناسى أن مواجهة الوباء ليست حربًا، بل هي نتيجة ضرورية للحرب الرأسمالية التكنولوجية الشرسة ضد الحياة، حيث أدى العقل الميكانيكي المرتبط بآلة استخراج النقود إلى إيهام البشر بأنهم منفصلون عن الطبيعة، وأن الطبيعة بمثابة مادة خام خاملة ميتة علينا استغلالها! لكننا في الحقيقة جزءٌ من عالم الأحياء الذي تُدمره التكنولوجيا، وبالتالي فنحن جزءٌ من الفيروس، وعندما نشن حربًا على التنوع البيولوجي لغاباتنا ومزارعنا، فإنما نشن حربًا على أنفسنا! ولا يمكننا فصل حالة الطوارئ الصحية لمواجهة مرض كورونا عن حالة الطوارئ البيئية المتمثلة في مواجهة الانقراض وفقدان التنوع البيولوجي، وحالة الطوارئ العلمية والاقتصادية والسياسية لمواجهة أزمة المناخ؛ كل حالات الطوارئ هذه متجذرة في نظرة ميكانيكية، عسكرية، بشرية، ومركزية، مؤداها أن البشر منفصلون عن الكائنات الأخرى ومتفوقون عليها، بمعنى كون كل ما سوى البشر من أحياءٍ مجرد كائنات يمكننا امتلاكها والتلاعب بها والتحكم فيها؛ كل حالات الطوارئ هذه متجذرة في نموذجٍ اقتصادي قائم على وهم النمو اللامحدود، والجشع اللامحدود … نموذج ينتهك حدود الكوكب، ويدمر سلامة النظم البيئية والأنواع الحية المختلفة.

تُهاجمنا الأمراض الجديدة لأن الزراعة الاصطناعية ومنتجاتها المُحورة وراثيًا تغزو وتدمر النظم البيئية الطبيعية، ولأننا تتلاعب بالنباتات والحيوانات وكافة الكائنات التي نُهيمن عليها دون احترام لسلامتها أو حتى طرائق وجودها، والهدف الأول والأخير هو تحقيق الأرباح التجارية والتعبد في محراب الاستثمار والجشع! عندما نزيل الغابات، ونحول المزارع الطبيعية إلى مزارع اصطناعية أحادية تنتج سلعًا سامة مُشبعة بالهرمونات غير الآمنة ومعدومة القيمة الغذائية، وعندما نُرسخ للوهم الزائف بأن الأرض والحياة والكائنات الأخرى ما هي إلا موادٌ خام يحق لنا استغلالها لتحقيق الأرباح، فنحن بالفعل نشن حربًا لا قبل لنا بها!

قد نتفق مع «فاندانا شيفا» أو نختلف، لأن «بيل جيتس» ذاته، ومعه حُكامنا وولاة أمورنا، هم في الحقيقة مجرد عرض من أعراض مرض الأرض المتمثل فينا كبشر، لكن ما يهمنا الآن نتائج هذا المرض وتداعياته، لاسيما بعد جائحة كورونا؛ فوفقًا لإحصائيات منظمة العمل الدولية International Labour Organization، أدت الجائحة إلى تضخيم معاناة ما يقرب من 1.6 مليار عاملٍ يومي (يمثلون الفئة الأكثر ضعفًا في سوق العمل من إجمالي قوة عاملة عالمية تبلغ 3.3 مليار عامل)، وسببت لهم أضرارًا بالغة جراء عدم قدرتهم على كسب أقواتهم وأقوات من يعولونهم نتيجة إجراءات الإغلاق الاقتصادي؛ ووفقًا لبرنامج الأغذية العالمي World Food Programme، سيزداد عدد الجوعى في العالم بإضافة ربع مليار شخص جديد بنهاية سنة 2020، ويمكن أن يموت حوالي 300000 شخص يوميًا، كما أدت الجائحة خلال أبريل ومايو ويونيو من العام الحالي إلى فقدان ما يقرب من 305 مليون عامل لوظيفته!

من جهة أخرى، كشفت جائحة الفيروس التاجي، وما صاحبها من إجراءاتٍ للإغلاق عن برامج التشيؤ الصارخة التي مارستها الحكومات والقوى الاقتصادية لعقود طويلة خلت؛ عن كيفية تحويلنا إلى أشياء يجب السيطرة عليها، وتحويل أجسادنا وعقولنا إلى مستعمرات جديدة يجب غزوها؛ فلئن كانت إمبراطوريات الماضي قد طوقت بمستعمراتها كثرةً من المجتمعات وحولتها إلى مصادر للمواد الخام، فقد أصبح البشر أنفسهم اليوم هم مستعمراتها التي لا تستلزم غزوًا عسكريًا، وليس بمقدور هذا المنطق الخطي الانتفاعي رؤية العلاقة الجدلية التي تحافظ على الحياة في العالم الطبيعي: إنه منطقٌ أعمى عن التنوع، وعن دورات التجديد البيولوجي وقيم العطاء والمشاركة؛ أعمى عن الهدر الذي يخلقه والعنف الذي يُطلقه، وقد كان الإغلاق الممتد الناجم عن جائحة كورونا بمثابة تجربة معملية لمستقبل بدون إنسانية!

في السادس والعشرين من مارس 2020، وفي ذروة انتشار فيروس كوفيد-19 وإجراءات الإغلاق، حصلت شركة ميكروسوفت على براءة اختراع من المنظمة العالمية للملكية الفكرية (ويبو WIPO) لنظامٍ جديد للعملة المُشفرة Cryptocurrency يحمل اسم WO/2020/060606، وهو بمثابة تقنية لمراقبة سلوك الشخص عن طريق جهاز استشعار (شريحة إلكترونية دقيقة مرتبطة بخادم حاسوبي)، إما مزروع داخل جسده أو يتم ارتداؤه أو حمله خارجيًا، فإذا ما تم تكليف الشخص بمهمة، يقوم جهاز الاستشعار بقياس نشاط الجسم (كالنشاط الكهربائي للدماغ، ومستوى الأكسجين في الدم، ومعدل ضربات القلب، ودرجة الحرارة، وحركات الأعضاء كالوجه والعين والعضلات، وأية أنشطة أخرى يمكن استشعارها وتمثيلها بالرنين المغناطيسي والتحليل الطيفي، ومن ثم تحويلها إلى رموز أو أرقام أو نصوص تُوضح كافة المعلومات المرتبطة بأداء المهمة، وعند استكمال الشخص لمهمته المُكلف بها بشكلٍ مُرضٍ يتم منحه العُملة المُشفرة إلكترونيًا كوديعة، والتي يمكن استخدامها في عمليات الشراء أو سداد الديون بالطريقة ذاتها التي يستخدم بها العُملة الحالية. ولم تُوضح براءة الاختراع من الذي سيتولى تحديد المهام وتكليف الأشخاص بأدائها، ولا عن كيفية زرع أو حقن الشريحة، وهل ستكون اختيارية أم إجبارية من قبل الحكومات وأصحاب الأعمال، ولا عن أية حدود أخلاقية أو مواثيق قانونية تحكم العلاقة بين الطرفين. كذلك لم تُوضح دلالة تكرار العدد (6) ثلاث مرات في مُسمى التقنية، والذي يُفسره بعض المراقبين بالإشارة إلى «رقم الوحش» (666) في الكتاب الثالث عشر من سفر الرؤيا بالعهد الجديد: «هنا الحكمة: مَن له فهمٌ فليحسب عدد الوحش، فإنه عدد إنسان، وعدده ستمئة وستة وستون» (سفر رؤيا يوحنا 17: 18).

إن براءة الاختراع هذه لا تعدو أن تكون مطالبة بالملكية الفكرية لأجسادنا وعقولنا! لقد منح المستعمرون قديمًا لأنفسهم الحق في الاستيلاء على أراضي وموارد السكان الأصليين، والقضاء على ثقافتهم وسيادتهم، أو إبادتهم في الحلات القصوى، أما المُستعمرون الجُدد فيمنحون لأنفسهم الحق في الاستيلاء على البشر أنفسهم كمناجم للمواد الخام (البيانات والمعلومات التي يتم استخراجها من أجسادنا)، أو ككائنات آلية تعمل وتستهلك دون خيار في الامبراطوريات الرقمية!
لكن هذا في الواقع لا يُمثل مُجمل رؤية «جيتس» – على حد تعبير «فاندانا شيفا» – فالأكثر شرًا هو استعمار أجساد وعقول وأرواح الأطفال قبل أن تُتاح لهم الفرصة لفهم تصورات كالحرية والديموقراطية والسيادة والاستقلال الذاتي؛ ففي مايو من العام الحالي (2020) أعلن حاكم نيويورك «أندرو كومو» Andrew Cuomo عن تأسيس شراكة مع مؤسسة «جيتس» لإعادة ابتكار التعليم، ووصف «جيتس» بأنه صاحب رؤية، مؤكدًا أن جائحة كورونا قد دشنت لحظة تاريخية يُمكن فيها تحقيق هذه الرؤية، ومتسائلاً: لماذا كل هذه الفصول الدراسية والأبنية التعليمية ولدينا التكنولوجيا التي تُغنينا عنها بسهولة؟! كذلك طلب «كومو» من الرئيس التنفيذي السابق لشركة جوجل «إريك شميدت» Eric Schmidt، قيادة لجنة التخطيط للبنية التحتية التقنية لما بعد كوفيد-19 في نيويورك، ما يعكس تسارعًا متعمدًا في الخُطط التنفيذية لأجندة الشيطان التكنولوجي في الوقت الذي ما زالت فيه الجثث تتراكم تحت وطأة الجائحة، ويعكس أيضًا تعامل الساسة مع عُزلتنا الاجتماعية، لا كضرورة مؤلمة لإنقاذ الأرواح، وإنما كمختبر حي لمستقبل دائم ومربح للغاية ينعزل فيه الناس إلى الأبد.

كان «جيتس» قد سعى منذ عقدين لتفكيك نظام التعليم العام في الولايات المتحدة، ومن ثم في العالم برمته؛ فتلاميذ المدارس وطلاب الجامعات وفقًا لرؤيته مناجم ضخمة للبيانات، وعندما نعتمد نظام التعليم الإلكتروني ونُلغي الحضور المباشر للتلاميذ والطلاب (وهو ما يحدث تدريجيًا الآن في كثرة من دول العالم) فسوف تتم مراقبتهم عن كثب للتحقق من مدى انتباههم ومستوى نشاطهم الذهني، ومن ثم تطويعهم بينما هم يتلقون دروسهم عند بُعد بمفردهم في منازلهم. إنه الواقع المرير الذي لن يكون فيه للمدرسة أو الجامعة وجود مادي ملموس مثلما هو الحال الآن، ولن تُتاح لهم فرصة اللعب أو ممارسة هواياتهم الجماعية، فلا أصدقاء، ولا مجتمع تلاحمي، ولا علاقات، ولا صداقة، ولا حب، ولا اعتناء بذوي الاحتياجات الخاصة! إنه عصر العبيد الرقمي، حيث تقف الإنسانية على حافة الانقراض بواسطة آلة تكنولوجية جبارة لا تعرف للجشع حدودًا!

أخيرًا، ربما تحملنا السنوات القليلة القادمة إلى ما يُعرف بمجتمع «الديستوبيا» Distopia، ذلك المجتمع الطبقي الذي يسوده القمع التكنولوجي المُمنهج، وتُمسي فيه الحياة كابوسًا مُخيفًا، ما يُذكرنا بروايات كانت بمثابة خيال أدبي مفارق للواقع، تمامًا كالسيمياء، منها مثلاً رواية «1984» للروائي البريطاني «جورج أورويل» George Orwell (1903 – 1950) التي قدمها سنة 1949 وتنبأ من خلالها بمصير العالم الذي ستحكمه قوى كبيرة تتقاسم مساحته وسكانه ولا تحقق لساكنيه أحلامهم وطموحاتهم بـل تحولهم إلى مجرد أرقام. كذلك رواية «فهرنهايت 451» Fahrenheit 451 للأديب الأمريكي «راي برادبري» Ray Bradbury (1920 – 2012) التي تحكي عن قصة نظام شمولي يقوم بغزو العالم في المستقبل ويجعل التلفاز وسيلة دعاية سياسية له ويقوم بحرق الكتب على درجة 451 فهرنهايت؛ ورواية «ألعاب الجوع» The Hunger Games للأديبة الأمريكية «سوزان كولنز» Suzanne Collins (من مواليد 1962)، وفيها تشترك البطلة «كاتنيس إيفردي» Katniss Everdeen في مسابقة سنوية تحت اسم «مباريات الجوع»، حيث يتم اختيار أربعة وعشرين متسابقًا ما بين ولد وبنت، أعمارهم تتراوح بين الثانية عشرة والثمانية عشرة عامًا ليتقاتلوا حتى الموت، والفائز هو آخر شخص يظل على قيد الحياة؛ ورواية «عالم جديد شجاع» Brave New World للأديب الانجليزي «ألدوس هكسلي» Aldous Huxley (1894 – 1963)، التي عبر فيها عن خوفه من سيطرة العلم على حياة الناس، ليغدو العالم الجديد هو عالم العقاقير والآلات الذي تنتفي منه العاطفة والشعر والجمال.
ما أشبه واقعية اليوم التكنولوجية بخيالات الأمس الأدبية!

Optimized by Optimole