مشروع التسوية الإسرائيلي.. الحل المرحلي الدائم

Spread the love

بقلم: الأسير الفلسطيني كميل أبو حنيش* |

تنتمي إسرائيل إلى نَمَطِ الدَّوْلَةِ الاستعماريَّةِ الاسْتيطانيَّة المحكومةِ بطبيعَتِها العدوانيةِ والتَّوسُّعِيَّةِ. أمَّا السُّكَّانُ الأصليون بالنِّسبةِ لهذا النَّوع من الدُّول: فهم إمَّا أنْ يكونوا مشروعَ إبادة أو اقتلاع وتطهير عرقي، أو مشروع إخضاع لحكم عسكريٍّ صارِمٍ، واستغلالهم كأيْدٍ عاملةٍ رخيصة، أو في وظائفَ أخرى تُحدِّدُها الدَّوْلَةُ الغاصِبَةُ. أمَّا مشروعُ السَّلامِ والتسوياتِ السِّياسيَّةِ مع السُّكَّانِ الأصليينَ أو دول الجوار، فهو ينبُعُ من اعتباراتٍ استخدامِيَّةٍ تكتيكيَّةٍ، ولا يُعْتَبَرُ خيارًا استراتيجيَّاً بالنٍّسبةِ للدُّول الاستعمارية وهو ما حدث مع جُلِّ التَّجارِبِ الاستعماريةِ في العالم. وقد أثبتت تَجْرِبَةُ ثلاثة عقود من مشروعِ التَّسْوِيَةِ بين اسرائيلَ والفلسطينيينَ، أنَّ إسرائيلَ غيرُ معنيةٍ بالسَّلامِ وبالتَّسليمٍ بالحقوقِ المشروعةِ للشَّعْبِ الفلسطينيِّ، وأنَّ مشروعها بالسَّلامٍ لا يلتقي إطلاقًا مع الْفَهمِ الفلسطينيِّ الَّذي يستندُ إلى قراراتِ الشَّرْعِيَّةِ الدَّوْلِيَّةِ.
ومُنْذُ توقيعِ اتفاقياتِ أوسلو 1993- والَّذي اتُّفِقَ على تسميته بالاتِّفاق المرحلي- لم تَتَقَدَّمْ التَّسْوٍيَةُ في حَلِّ قضايا الوضعِ النهائيِّ، واكتفت والتزمت اسرائيل بهذا الاتِّفاقِ الَّذي تَجَمَّدَ منذ قرابة سبعَةٍ وعشرينَ عامًا، وهذا الحلُّ المؤقت والمرحلي هو بمنزٍلةِ الحلِّ النِّهائيِّ.

موقف إسرائيل من السلام
انطلق الموقفُ من السَّلام لدى قادةِ الحركة الصُّهيونية والآباء المؤسسين للدَّولةٍ العبريَّةٍ وسلسلة القادة والحكوماتِ المتعاقبةِ من اعتباراتٍ استعماريَّةٍ توسُّعِيَّةّ، وارتكز على مفاهيمِ القُوَّةٍ والاسْتِعلاء، الموقف لأول رئيسِ حكومة إسرائيلي، ديفيد بن غوريون، هو ذاته موقف آخِر رئيس حكومةٍ، بنيامين نتنياهو، من السَّلام. في خطابٍ له أمامَ المجلسِ التَّنْفيذيِّ للوكالةِ اليَّهودية في حزيران 1936 قال بن غوريون: “إن السلام بالنِّسبة لنا هو وسيلةٌ وليسَ غايةً، والغايةُ هو التحقيق الكامل والتَّام للصُّهيونية”(1).
وغايَةُ الصُّهيونيَّةُ هيَ التِهامُ أكبرِ مساحةٍ ممكنةٍ من الأراضي العربيَّةِ، وتجهيز الدولة القويةِ القادرةِ على الهيمنة على المنطقةِ.
ويضيف بن غوريون في ذات الخطاب: “إنَّ الاتِّفاقَ الشَّامِلَ هو بلا شكٍّ أمرٌ مُسْتَبْعَدٌ الآن، فقط بعد أن يَدُبَّ اليأسُ الكامل في نفوس العرب، ذلك اليأس الذي سوف يأتي فقط من فشل الاضطراباتٍ ومحاولةِ التمرّد، وسوف يأتي أيضًا ومن تنامي قوّتنا في هذا البلد؛ فيمكن عندئذٍ أنْ يُذْعِنَ العربُ لوجود إسرائيلَ اليهوديّة”(2).
إنَّ هذه الرؤيةَ للسَّلامِ إلى جانبِ مَنْ سيتولى تجسيدَ الدَّولةِ العِبريَّةِ، هي ذاتها الرؤيَةُ الَّتي سارت على هديها مختلَفُ الحكوماتِ الإسرائيليةِ المُتَعاقبةِ، وهي ذاتُ الرؤيةِ الَّتي يمثلُها رئيسُ الحكومةِ الإسرائيليَّةِ الحالِيَّةِ نتنياهو.
وقد استعرض نتنياهو موقِفَهُ من التَّسْويَةِ والسَّلامِ في كتابه الذي صدرَ سنة 1993 (مكان بين الأمم)، ولَعَلَّ العبارَةَ الآتِيَةَ الَّتي وردت في هذا الكتابِ تُلَخِّصُ موقِفَهُ مِنَ السَّلامِ :”إنَّ السَّلام الَّذي تستطيعُ دولةُ إسرائيلَ الحصولُ عليه، السَّلامُ الرَّادِعُ فقط”(3).
وأعاد التأكيدَ على هذا الموقفِ بعد أكثرَ من خمسةٍ وعشرينَ عامًا أثناء توليه رئاسةَ حكومتهٍ الرَّابعةِ عام 2018 في اجتماعٍ لكتلة الليكود البرلمانية فيما صرَّح قائِلًا: “القوَّةُ هي الشَّيءُ المهم في السِّياسَةِ الخارجيَّةِ لإسرائيل، الاحتلالُ مسألة هامِشِيَّة، القُوَّةُ هي المفتاحُ، وهي الَّتي تُغَيِّرُ كُلَّ شيءٍ في سياساتنا أمام دول العالمِ العربيِّ”(4(.
إذن الاحتلالُ مسألةٌ هامشيَّةٌ وبالتَّالي فإن إنهاءَهُ من أجل إحراز السَّلامِ مسألةٌ غير واردة بالنِّسْبَةِ لإسرائيلَ الَّتي ترى الحربَ وليس السَّلام الضمانةَ الوحيدةَ لبقاءِ إسرائيل.
وقد قال المُؤَرِّخُ الإسرائيليّ ايلان جريل سامر: “إنَّ إسرائيلَ تُفَضِّلُ الحربَ؛ لِأنَّ السَّلامَ سَيُمَزِّقُ نسيجَها الاجتماعِيِّ، وَيُؤَدي إلى تَفَكُّكٍ مفاجِئٍ في المُجتَمَعِ”(5). وهو ما يتنافى مع المساعي الإسرائيلية في السَّعْيِ الحثيثِ لإحراز السَّلام، ويكشف عن طبيعة السَّلامِ الَّذي تراهُ وتؤمنُ بِه.
سلام أوسلو والواقع على الأرض :منذ انطلاق عملية التَّسويةِ بين إسرائيل والفلسطينيين في مدريد ولاحقاً في أوسلو وما تلاهُ من اتفاقياتٍ ومفاوضاتٍ، تَبَيَّنَ للطَّرفِ الفلسطينيٍّ أنَّ الحكوماتِ الإسرائيليةَ المتعاقبةَ غيرُ مستعدةٍ للتَّسليمِ بِحقوقِ الشَّعبِ الفلسطينيِّ، فقد بدأتْ العمليةُ في مرحلةٍ انتقالِيَّةٍ لتشملَ جُزْءًا من الأراضي الفلسطينيةِ وإقامةِ سلطةِ حُكْمٍ ذاتِيٍّ مؤقتةٍ، وتقسيمِ الأراضي المحتلة إلى مناطق أ، ب، ج، وتأجيلِ جميع القضايا الكبيرة إلى مفاوضات الحَلِّ الدَّائم، واتَّضَح للفلسطينيين أنَّ إسرائيل لا تُبدي أيَّةَ نِيَّةٍ للانسحابِ الشَّاملِ والسماح بإقامة دولةٍ فلسطينيةٍ بعد مرورِ أكثرَ من سبعةٍ وعشرينَ عاماً على عمر اتفاقياتِ أوسلو يرسخ الاعتقادَ بأنَّ الحَلَّ المرحليَّ هو الحل الدَّائِم بالنِّسبَة لإسرائيل.
لقد كانت مواقفُ الحكوماتِ الاحتلاليَّةِ في سياقِ عمليةِ التسويةِ (حكومة إسحاق رابين وشمعون بيريز، حكومة نتنياهو الأولى، حكومة إيهود باراك، حكومة أرييل شارون، حكومة إيهود أولمرت، حكومة نتنياهو في العقد الأخير ) كلُّها مجمعةٌ على إدارة عمليةٍ تفاوضيَّةٍ طويلةِ الأمدِ، وجميعُها أثبتَتْ تَمَسُّكها بمواقفَ متعنتةٍ (عدم الانسحاب من خطوط الرابع من حزيران، وعدم السماح بعودة اللاجئين، والقدس موحدة تحت السيادة الإسرائيليةِ، ضَمُّ أجزاءَ من الضِّفةِ الغربية، وتواصُل الاستيطانِ، والدولةُ الفلسطينيةُ يجب أن تكون منزوعةُ السلاح…الخ)، حيث أجمعتْ الحكوماتُ باختلافِ الأحزابِ على هذه الخطوطِ وسَمَّتْها الخطوطَ الحمراء، وتباينتْ فيما بينها بمسائلَ جزئيةٍ هامِشِيَّةٍ، كانت حكومة نتنياهو هي الأوضح في التعبير عن هذه المواقف وأنَّ أعلى سَقْفٍ يمكنُ لإسرائيلَ السَّماحُ به (هو الحكمُ الذَّاتِيّ).
وطوال هذه الفترة لم تتوقفْ إسرائيلُ عن الاستيطانِ، فلم توقف عمليةُ التَّسْوِيَةِ بناءَ المستوطناتِ، أو تَحُدَّ من تَمَدُّدِها واقتلاعِ المزيدِ من الأراضي، كما أنَّ إسرائيلَ استفادتْ مِنَ التَّسْوِيَةِ في إقامةِ علاقاتٍ سياسِيَّةٍ ودبلوماسيةٍ، واتفاقياتٍ ومعاهداتٍ مع عشرات الدُّولِ، وتمكنتْ مِنَ اختراقِ العالَمِ العَرَبِيِّ. أمَّا على صعيد الاقتصاد فقد أخذَ الاقتصادُ الإسرائيليُّ ينمو بمعدل 16% سنويا، وبينما كان المعدل سنة 1992 نحو 12 ألف دولار أصبح سنة 1997 أكثر من 16 ألف دولار (6).
وفضلاً عن ازديادِ واتِّساعِ التجارةِ والاستثماراتِ الخارجيَّةِ بمئاتِ ملياراتِ الدُّولاراتِ، وعلى الأرضِ تعمَّقَتْ تَبَعِيَّةُ الاقتصادِ الفلسطينيِّ للاقتصادِ الإسرائيلي، والَّذي بات يخضعُ لشروطِ التَّبعِيَّةِ الاستعماريةِ الَّتي تتحكمُ بها حكومةُ الاحتلالِ بعد التَّوقيعِ على اتِّفاقِيَّةِ باريسَ الاقتصاديةِ سنة 1994، تضاعفت مستويات الفقر والبطالة ولم تسمح هذه الاتفاقيةُ بِتَطَوُّرِ الاقتصادِ الفلسطيني الَّذي اعتَمَدَ على المعوناتِ الخارجيَّةِ، وقد أقامتْ إسرائيلُ حتى الآن مع الفلسطينيينِ في الضفة والقطاع وإلى حَدٍّ ما مع الأردن ومصر على علاقات (مركز وأطراف)، تتمحورُ فيها العلاقاتُ الاقتصاديةُ بين الطَّرفينِ على أساسِ تصديرِ السِّلَعِ الصِّناعِيَّةِ إلى الأطراف، واستيرادِ الأعمال الرخيصة والمواد الخام(7).
لم تنجَحِ المفاوضاتُ الماراثونِيَّةُ والجهود الدولية والإقليمية في الوصولِ إلى اتِّفاقٍ نهائيٍّ في قِمَّة (كامب ديفيد سنة 2000) فاندلعت الانتفاضة الثانية لتُشَكِّلَ ردَّاً على عنف الاحتلالِ والتمدد الاستيطانيِّ. أمَّا خِطَةُ خارطةِ الطَّريق الَّتي انطلقتْ في ربيع سنة 2003 فكانت مجرد السعيِّ لإبقاءِ وهْمِ المسارِ السِّياسِيِّ على قيدِ الحياة، في ضوء تقسيم المسار إلى مراحل مرة أخرى، وربط بوضع الحكومة الإسرائيلية بوضع 14 شرطاً لقبولها(8). كما لم تُنْتِج مفاوضات أنابوليس الَّتي استمرتْ عامًا كاملاً بين عاميّ 2007-2008، كما لم تثمر الجهودُ الدَّوْلِيَّةُ والإقليميَّةُ في إعادةِ عمليَّةِ التَّفاوضِ منذُ أكثرَ من عَشَرَةِ أعوامٍ في ظل إصرارِ نتنياهو ومواقِفَهُ المتعنِّتةَ.
وكانتْ “مبادرَةَ السَّلامِ العربية”، التي جرى الإعلانُ عنها في ربيع 2002، اقترحتْ انسحابًا اسرائيليَّاً شاملاً من الأراضي العربيةِ المحتلَّةِ عام 1967 في مقابل اعترافِ العربِ الكاملِ بإسرائيل، وتطبيعِ العلاقاتِ معها، غيرَ أنَّ إسرائيلَ رفضتْها قبلَ أنْ يَجِفَّ حِبْرُها، وتحوَّلَت المبادرةُ العربيةُ بعد مُدَّةٍ إلى مبادرةٍ إسلامِيَّةٍ. وأعاد العربُ إطلاقَ المبادرةِ في قِمَّةِ الرِّياضِ سنة 2007، وأعادتْ إسرائيلُ رفضَها، وصَرَّح شمعون بيريز في حينه أنه: “يَتوجَّبُ على دولِ الجامعةِ العربيَّة الاعتراف بإسرائيلَ قبل أن تدخُلَ في مفاوضاتٍ معها”. أما منهج التعامل مع هذه المفاوضات بحسب بيريز فهو: “إجراء مفاوضاتٍ تمهيديَّةً على كيفيَّةِ التَّفاوُضِ”(9).
وطوال سنوات التَّسْوِيَةِ كَرَّسَتْ إسرائيلُ واقعاً على الأرضِ، ورسمَتْ حدودَ التَّسْوِيَةِ النِّهائيَّةِ ببناءِ عشراتِ المستوطناتِ، ومئات آلاف الوحدات الاستيطانِيَّةِ، وَشَقِّ الطُّرُقِ الالتفافِيَّةِ، ومصادرةِ مِساحاتٍ واسعةً من الأراضي، وبناءِ الجدار الفاصِلِ …الخ.
وتظهر الصيرورات المرتبطةُ بتعاظُمِ قوَّةِ المستوطنين وفكرٍهم أنَّ عمليَّةَ ضَمِّ المستوطناتِ إلى إسرائيلَ تجري عمليَّاً على أرضِ الواقعِ، من غيرِ أنْ تُعْلِنَ رَسْمِيَّاً، وأنَّ أيَّ اتِّفاقٍ مستقبليٍّ مع الفلسطينيين سينطلقُ من أرضِ الواقع بوقائعهِ الَّتي فرضتها إسرائيلُ وحددت معالِمَها وحدودها(10).
وهذه الوقائعُ باتتْ توصَفُ بنظام الأبارتايد (فصل سكاني، فصل لطرقات المستوطنين، منظومة قضائية مزدوجة منحازة للمستوطنين، تعاظم الاستيطان، حكم عسكري..الخ)، ووجود سلطةِ فلسطينية تديرُ الشؤون مدنيَّاً مع البقاء على الممارسات الاحتلاليةِ: من قتلٍ، وابعاد، واعتقال، واعتداء على الحقوقِ والملكياتِ، والاقتحامات…الخ، ما عزَّزَ قناعةً لدى الفلسطينيين أنَّ الحَلَّ المؤقَّتَ والمرحليَّ قد باتَ دائماً.
إنَّ واقعَ الوضعِ الَّذي تعيشُهُ الأراضي الفلسطينيةَ التي احتلت سنة 1967، والَّذي يُميِّزُها عن حَلِّ نظام الأبارتايد، حيثُ تم إنتاجُ حالةٍ من المؤقت الدَّائم، وتسمح باستخدام الأرض من دون التَّورط في ضَمِّ السُّكان (11).
وقد وصف أحد الاكاديميين الإسرائيليين ما يجري على الأرض بـ”الأبارتايد الزاحف” وهي حالَةٌ غيرُ مُعْلَنَةٍ، لكنها عملية بناء تم من خلالها علاقات جغرافية سياسية بين نهر الأردن والبحر، وهذه العملية تفسّر دمج الضفة الغربية المستعمرة وقطاع غزة المحاصر وإسرائيل في نظام واحد يُدار كلياً من قبل الدولة اليهودية التي يبدو أنها تكتسب من تدريب سمات الأبارتايد(12).
ومن المفارقات أنَّ مفهوم الأبارتايد كتوصيفٍ للحالةِ القائمةِ لَمْ يأتِ على ألْسِنَةِ الفلسطينيين والعربِ في العالم فحسب، وإنَّما وَرَدَ أيضاً على ألسنةِ عددٍ من السَّاسَةِ الإسرائيليين والأميركيين، كما وصفه رئيس الحكومَةِ الأسبق إيهود أولمرت ووزير الخارجية الأميركي الأسبق جون كيري.

المؤقتُ والدائمُ
وفي ضَوْءِ الواقعِ الَّذي يعيشُهُ الشَّعْبُ الفلسطينيُّ تحت الاحتلالِ العسكريِّ، أدركَ الفلسطينيونَ مع الوقتِ أنَّ عمليةَ التَّسْوِيَةِ الجاريَةِ مُجَرَّدُ إدارةٍ للصِّراعِ، وليستْ حَلَّاً له، وأنَّ حَلَّ الدَّولتينِ أصبحَ يتلاشى مع الوقت، ورأى إيلان بابيه “أنَّ حَلَّ الدولتين أسوأ فكرةٍ يَتِمُّ إخراجَها من المَشرحةِ بين حينٍ وآخرَ فتتم هندمتها بصورة أنيقةٍ، ومن ثَمّ عرضُها كشيءٍ حَيّ”(13).
أمَّا إدوارد سعيد فقد تنبَّهَ مبكِّراً إلى أنَّ الحكم الذَّاتيَّ هو امتدادٌ للاحتلالِ بأساليبَ أخرى(14).
إنَّ القراءاتِ المتأنيةَ لاتفاقياتِ أوسلو تثبتُ أنَّ الحديثَ يدورُ على إعادةِ تنظيم القُوَّةِ وليس سحقها، ومن هنا يجب هدم هذه الاتفاقياتِ باعتبارها استمراراً للاحتلال بوسائلَ أخرى(15).
ويرى أميرون بن بنسعي أن أوسلو احتلال بالتحكم عن بُعد(16).
وكان وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق شلومو بن عامي: قد صرّح بأن الهدف من أوسلو هو إنشاءُ حالةٍ من التَّبعِيَّةِ الجديدةِ للأراضي المحتلةِ.
لقد عبّر نتنياهو عن موقف إسرائيل الواضح من عملية التسوية في أكثر من تصريح: ففي خطابه في بار إيلان في بداية عهدته الثانية سنة 2009 قال ساخراً: “التوجه السائدُ كان إعطاءَ الكل ما عدا 2%، وأنا عكست ذلك واعطيت 2% لسيطرة السلطة فقط”.
ويُصِرُّ نتنياهو على اعتراف الفلسطينيين بالدَّولةِ اليهودية عندما قال: “إنَّنا نُصِرُّ على أنْ يتأسسَ كُلُّ اتِّفاقٍ مع الجانب الفلسطينيِّ على مبدأين: الأمن والاعتراف بإسرائيل كدولةّ للشَّعب اليهودي”.
ويعتقد نتنياهو أنَّ الحلول المرحلية هي الحلول المفضلة بالنِّسبة لاستراتيجيَّة التفاوضِ مع الفلسطينيين، ويريدُ نتنياهو إدارة الصراع بوساطة المفاوضاتٍ لذاتِها وليسَ للوصولِ إلى حَلٍّ نهائيّ(17).
وبعد الإعلان عن “صفقة القرن” الأمبركية وفي ضوء مشروع الضَّمِّ الإسرائيلي لأجزاء من الأراضي الفلسطينية، تسعى إسرائيل إلى فرض المزيد من الوقائعِ على الأرض وإرغامِ الفلسطينيين والعرب على القبول بشروطِ التَّسوية الَّتي تمليها موازين القوى المختلة لصالحها، وبهذا أوقعت إسرائيل الطَّرف الفلسطيني المفاوض في مسيرة التسوية الَّتي جمدت الحلول المرحلية وجعلت منها حلولاً دائمة.

* روائي وكاتب فلسطيني أسير في سجن ريمون الصحراوي الصهيوني.

الهوامش:
1- آفي شلايم، (لحائط الحديدي) ترجمة العفيفي،ناصر، مؤسسة روز اليوسف، ط١،القاهرة، 2005، ص 25 .
2- نفس المصدر، ص 25.
3- بنيامين نتانياهو، (مكان بين الأمم) ترجمة الطويري، محمد عودة، الأهلية للنشر والتوزيع، عمَّان، ط (1) 1996، ص 357.
4- صحيفة “يديعوت احرونوت”- 11-6-2018.
5- مجدي حمَّاد، “السلام الإسرائيلي” – الجزء الأول – باحث للدراسات –بيروت-ط (1) 2011- ص، 367.
6- النقيب في الاقتصاد الإسرائيلي (دليل إسرائيل) – 2011 – مؤسسة الدراسات الفلسطينية -رام الله، ص 566.
٧ فضل النَّقيب، ومفيد وقسوم، (الاقتصاد السِّياسي في صناعة التِّقنية العالية في إسرائيل) مؤسسة الدِّراسات الفلسطينية -بيروت- ط (1) 2015، ص 86 .
8- جورج لقمان، (قبل وبعد عرفات) التحول السياسي خلال الانتفاضة الثانية، مواطن -رام الله – ط (1) 2011، ص 146.
9- مجدي حمَّاد، (السلام الإسرائيلي) الجزء الثَّاني، باحث للدراسات -بيروت- ط (1) -2011، ص 42.
10- هنيدة، غانم (تقرير مدار الاستراتيجي عام 2016)، ص 20.
11- هنيدة،غانم: (مابين الاحتلال العسكري الاستعماري والأبارتايد) مجلة قضايا إسرائيليَّة، عدد 35، سنة 2009، ص 12 .
12- أورن يفتاحئيل، (الكولونيالية والاستعراضية الأبارتايد الزاحف في فلسطين) مجلة قضايا إسرائيلية، العدد 35، 2009، ص 19.
13- ايلان بابيه، (عشر خرافات عن إسرائيل) ترجمة سارة عبد الحليم، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت ط (1) 2018، ص 182.
14- ادوارد سعيد، (أوسلو 2) – دار المستقبل العربي، القاهرة طبعة (1) 1995، ص 207 .
15- نيف جوردون، (عن المهر والعروس) مجلة قضايا إسرائيلية العدد 35، سنة 2009، ص 50.
16- المصدر نفسه، ص 50.
17- عاطف أبو سيف، مهند مصطفى، (ما بعد الحرب على غزة): قراءة التصورات الإسرائيلية، مدار رام الله، ط (1)، 2014، ص 15.

Optimized by Optimole