ما بعد كورونا… نحو نظامٍ اقتصاديّ جديد

Spread the love

يونس بنفلاح _ باحث وأكاديميّ مغربيّ مُقيم في فرنسا/

يمرّ العالَم بتحدّياتٍ كبيرة جرّاء أزمة وباء كورونا. فقد سارعت كبرى الاقتصادات العالَميّة إلى دعْم مؤسّساتها وقطاعاتها الحيويّة، حيث قرّرت الإدارة الأميركيّة توفير ترليونَي دولارٍ للاقتصاد الأميركيّ في مُواجَهة تداعيات كورونا. وعلى المنوال نفسه، خصَّصت ألمانيا ما يفوق ترليون دولار للأمر ذاته، وقرَّرت فرنسا توفير ما يفوق 500 مليار دولار مبدئيّاً لمُواجَهة الآثار الاجتماعيّة لهذا الوباء، كما قرَّرت مجموعة العشرين برئاسة المَملكة العربيّة السعوديّة تخصيص 5 ترليون دولار لدعْم الاقتصاد العالَميّ.

على هذا النحو، تبدو الخسارات المترتّبة عن وباء كورونا ضخمة بحسب وكالة بلومبرغ. ويُشير تقريرٌ لمؤتمر الأُمم المتّحدة للتجارة والتنمية إلى أنّ خسائر كورونا ستفوق ترليون دولار، وأنّها مُرشَّحة للارتفاع، بخاصّة في قطاعاتٍ اقتصاديّة تضرَّرت بشكلٍ مُباشر من الوباء كالنقل والسياحة والطيران. فالأرقام الصادرة عن منظّمة الطيران المَدني الدولي تُشير إلى خسائر بقيمة 230 مليار دولار، فضلاً عن الخسائر غير المُباشرة المُنتظَرة على الصعيد الاجتماعي، لجهة ارتفاع نِسب الفقر والبطالة وتعطيل الإنتاجيّة الناجم عن الحجْر الصحّي في أغلب دول العالَم.

في سياقٍ متّصل، تأتي أزمة كورونا في ظلّ ظروف اقتصاديّة مُعقّدة من أبرز مَظاهرها الحرب التجاريّة بين واشطن وبكين، وخروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبي، والاحتجاجات الشعبيّة، والاحتقان الاجتماعي في شمال العالَم وجنوبه، من فرنسا إلى هونغ كونغ مروراً بلبنان وإيران، ما يجعلنا أمام مرحلة انتقاليّة في النّظام الاقتصادي العالَمي. وبذلك، ستعمل الحكومات على سياسات عامّة مَبنيّة على التقشّف والحمائيّة والتجاريّة في مُواجَهة أزمة كورونا مع الاعتماد على سيولة البنوك ومدّها الشركات بخطوطٍ ماليّة تضمن الاستقرار المالي وتدفُّق الائتمان، كما سيكون للقطاع العامّ دَورٌ مهمّ في الفترة المُقبلة من خلال عودة إدارة الاقتصاد للدولة بأدوارها المتعدّدة كمُوجِّه استراتيجي، مُستثمِر ومُراقِب للأسواق.

القوّة الاقتصاديّة بورصة القيَم والمَعارف

ممّا يُلاحظ في هذا الشأن، أنّ تراكُم الأزمات هذا يُبشِّر بتغيير النسق الاقتصادي للعالَم. ففي مرحلة تاريخيّة سابقة عرفتها الأُمم، ومع انتهاء العصر الزراعي والتحوُّل نحو المنظومة الصناعيّة، انتقل نحو 85 % من الوظائف إلى القطاع الصناعي، وتطوَّرت أساليب الإنتاج والإدارة، وكثرت النقابات والمَطالب حول قانون العمل. والأمر عينه حصل مع الانتقال من النمط الصناعي إلى العصر التكنولوجي، حيث تعدَّدت الأبحاث والإنتاجات عن إنترنت الأشياء، والنُّظم والتطبيقات المعلوماتيّة، والمُدن الذكيّة وغيرها من الابتكارات التي غيَّرت من شكل العالَم؛ وبذلك يبدو أنّنا أمام نسقٍ جديد أساسه المعرفة والقيمة، تتحوّل معه القوّة الاقتصاديّة إلى بورصة للقيَم والمَعارف تُبنى على سلطة السياسة، وسطوة الاقتصاد عبر الشركات العابِرة للقوميّات والأثر الاجتماعي للسياسات العامّة من زوايا الرفاهيّة والإنتاجيّة والمردوديّة.

ولا شكّ أنّ هذا التغيير في النسق الاقتصادي يخلق أزمة ثقة بين الفاعلين الاقتصاديّين من قطاع عامّ، وقطاع خاصّ، ومُستثمِرين، ومُستهلِكين ومؤسّسات رقابيّة، ويستوجب الأمر إصلاحاً عميقاً في المؤسّسات الاقتصاديّة الدوليّة كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. فهذه العيّنة من المؤسّسات نشأَت في القرن العشرين بخصوصيّات ذاك القرن ولم تعُد قادرة على الاستجابة لتحدّيات القرن الحادي والعشرين، مع عَولمةٍ محدودة تحتاج إلى تطويرٍ في آليّاتها وفي قوانينها الأساسيّة في ما يخصّ العمل والاستثمار والتجارة. لكن، لا يجب الانسياق وراء انتقادٍ اندفاعي وأعمى للنظام الرأسمالي واللّيبرالي في الاقتصاد. فقد كان لهذا النظام مزاياه في تحرير الأسواق وانفتاح الدول وتحيين أساليب العيش وتسهيل الخدمات. ففي السياسات النيوليبراليّة هناك فائزون وخاسرون، والفوز ينتج عن فهْم الجيل الجديد للإشكاليّات الاقتصاديّة المتمثّل في إدارةٍ عقلانيّة للمَوارد الطبيعيّة والبشريّة والماليّة. كما يجب، فضلاً عن ذلك، مُواجَهة التشوّهات الاجتماعيّة من فقرٍ وفروقات اجتماعيّة وتحدّيات ديموغرافيّة، بحيث سيرتفع سكّان العالَم من 7.7 مليار نسمة إلى 9.7 مليار نسمة في العام 2050، وإلى 11 مليار نسمة في نهاية القرن الحادي والعشرين.

وفي هذا الصدد، ستكون لإدارة المَخاطر، والذكاء الاقتصادي، واليقظة الاستراتيجيّة أدوارٌ طلائعيّة في اقتصاد المُستقبل عبر مُقارَبةٍ استباقيّة للأحداث وفهْمِ التحدّيات المُقبلة، ومنها قضايا المناخ، والهجرة، والتكنولوجيّات الحديثة، والذكاء الصناعي، والتّنافُس حول النفط والغاز، وكذلك الأبحاث الفضائيّة، والابتكارات العِلميّة والصناعات العسكريّة، ناهيك بالاعتناء بالقطاعات الأساسيّة كالتغذية والتعليم والأمن والصحّة.

يسعى قادة الاقتصاد في الإجمال إلى تجنُّب سيناريو أزمة العام 2008 التي أطلقتها حالة إفلاس بنك “ليمان برادرز”، والتي تحوَّلت إلى أزمة سندات ثمّ تفاقمت لتغدو أزمةً اقتصاديّة واجتماعيّة شاملة. لذا، فإنّ تفادي السقوط المهول يستوجب تقوية الاقتصاد بحَوكمة رشيدة، وسياسات شفّافة، ومؤسّسات مُختصّة ومتّسقة مع السياسة الاقتصاديّة. ولا بدّ هنا أن نُشير إلى أنّ الأزمات تحمل في طيّاتها فرصاً كبيرة للقفز في مَراتِب الأُمم وتحقيق طفرات اقتصاديّة من خلال الاستثمار في شركاتٍ تحتاج للدعم والسيولة، وشراء حصص في مؤسّساتٍ عالَميّة، وتنويع الشراكات الاقتصاديّة والانفتاح على دول أخرى، وكذلك بناء اقتصاد متكامل بين البنية التحتيّة والعامل البشري المشبع بروح المسؤوليّة والمُواطَنة والتضامُن الاجتماعي.

في سياقٍ متّصل، يكثر الحديث خلال أزمة كورونا العالَميّة عن العَولمة وصراع القوى الغربيّة وتداعياتهما على موازين القوى الاقتصاديّة، ولاسيّما مع قدرة الصين على احتواء الأزمة ومُحاصَرة وباء كورونا في منطقة ووهان ونجاحها في فرْض الحجْر الصحّي والعزْل الطبّي حتّى تحوَّلت الصين من مَصدرٍ للفيروس إلى مُصدِّرٍ للكمّامات، والأدوات والخبرات الطبيّة لدول أسيويّة وأوروبيّة كإيطاليا وإسبانيا وغيرهما.

تُجمِع التقارير الاقتصاديّة ومَراكِز البحوث على صعود الصين وقدرتها على استغلال هذا الزمن السياسي للتحوُّل من قوّة صاعِدة إلى قوّة سائدة، حيث لديها القدرة على التدخُّل في شؤون الدول وتعمل على سياسة خارجيّة نشيطة، مُعتمدةً بذلك على العامل الاقتصادي كرافعة للتوغُّل والنفوذ. فالصين تُسيطر حاليّاً على 15% من الاقتصاد العالَمي، وهي بالتالي أهمّ مُستثمِرٍ في العالَم. ففي إفريقيا وحدها، تَستثمر الصين ما يفوق 170 مليار دولار، أي أكثر من استثمارات فرنسا وبريطانيا وألمانيا مُجتمعةً،ولدى الصين أيضاً استثمارات مهمّة في فرنسا وإيطاليا وألمانيا تفوق 100 مليار دولار. كما تنبني استراتيجيّة الصين على قوّتها الماليّة عبر السيولة المُتوافرة لبنوكها التي تغزو الأسواق الغربيّة، كما تتوافر على مشروع طموح ممثَّل في طريق الحرير الذي يمرّ من 62 دولة، ويُشكِّل تجسيداً حقيقيّاً للعَولَمة التجاريّة وللتعاوُن الدولي.

وممّا يجدر التوقّف عنده، هو أنّ المنهج الصيني يعتمد على سياسة القرب من الدول والسيطرة على مقدراتها مُقدِّماً لها دعماً وعوائدَ استثماريّة في قطاعاتٍ حيويّة كالتعليم، والصحّة، والبنية التحتيّة، من مطارات وموانئ، محطّات قطارات وطُرق سيّارة، وأخرى صناعيّة كالنسيج والأدوات الكهربائيّة، ثمّ مؤخّراً عبر وسائل التكنولوجيا مُتمثّلةً في شركة “هواواي” التي تُنافِس كبرى الشركات التكنولوجيّة في الولايات المتّحدة الأميركيّة.

وفي السياق ذاته، يتّجه العالَم إلى تعدديّة الأقطاب بين قوى متعدّدة ومُتضارِبة المَصالِح، بعكس صراع ثنائيّة الأقطاب بين الولايات المتّحدة الأميركيّة والاتّحاد السوفياتي الذي كان قائماً في السابق، والذي بُني على اختلافٍ إيديولوجي بين الرأسماليّة والاشتراكيّة. فالصراع الحالي والمُستقبلي سيُبنى على إدارة مصالح ومحدِّدات اقتصاديّة كالتكنولوجيا، والمَعارِف، والنفوذ الصناعي، وقوّة البحث العِلمي والوفرة الماليّة، وكذلك بنية الطاقة والالتزام المناخي.

أزمة كورونا وغياب التعاوُن الدوليّ

أثبتت أزمة كورونا غياب التعاوُن الدولي، بل لعلّها أكَّدت تنافُس القوى. فالإمبراطوريّة الأميركيّة، التي تُسيطر على العالَم منذ نهاية الحرب العالَميّة الثانية، ما زالت مُسيطِرة على العديد من مَنابع القوى عسكريّاً، وسياسيّاً، ونوويّاً، واقتصاديّاً. كما أنّ الاحتياطات الماليّة والنفطيّة لأميركا كبيرة وقوّتها التكنولوجيّة سريعة ومتفوّقة. على الجانب الآخر من الأطلسي، نَجد أنّ الاتّحاد الأوروبي يُعاني منذ السنوات العشر الأخيرة من نكوصاتٍ بنيويّة وظرفيّة، تتجلّى في نقص تنافسيّته من خلال تشبُّع أسواقه وعجزه عن تسويق صناعته في العالَم، كما يتعرّض بشكلٍ مُستمرّ لمَوجاتِ الانفصال كحالة خروج بريطانيا مؤخّراً، فضلاً عن البيروقراطيّة الطاغية على المؤسّسات الأوروبيّة كالبنك الأوروبي، وصندوق الدفاع الأوروبي، والبرلمان الأوروبي.

وعلى الرّغم من ذلك، تظلّ الدول الأوروبيّة قوّة رائدة في العالَم، بخاصّة التحالُف الفرنسي- الألماني الذي لديه قوّة صناعيّة في قِطاع السيّارات والطائرات والصناعات العسكريّة، ولتوافره أيضاً على قوّة ناعمة تتجلّى في قيَم العالَم الغربي وثقافته من فكر وفنون. فالقوّة الناعمة تُشكِّل لبنة أساسيّة في الكيان الأوروبي من خلال الحضور الفرنكفوني في أفريقيا والنفوذ في البحر المتوسّط عبر اللّغة والإعلام والإنتاج الثقافي.

وفي الجانب الآخر من العالَم، أصبحت الصين قوّة مُلهِمة بالنسبة إلى الدول الآسيويّة ودول الجنوب بعامّة. فالحائز على جائزة نوبل للاقتصاد سنة 2008 بول كروغمان وَصَفَ الصين بأنّها مَصنع العالَم فهي تصنع ربع المصنوعات العالَميّة. كما استطاعت أن تُحقِّق تحالُفاً مُهمّاً مع روسيا ذات النفوذ السياسي والعسكري لتشكيل البريكس، وهو تحالف يتكوّن أيضاً من الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا. فهذا التحالُف يَستحوذ على ربع مَساحة العالَم، وعلى أكثر من 45% من السكّان، ويقود قاطرة التقدُّم الاقتصادي بما يفوق 25% من الدخل القومي العالَمي، كما يستأثر بنصف الاحتياطي العالَمي من العملات الأجنبيّة والذهب، فضلاً عن سيطرته على ثلث التجارة العالَميّة، وجلْبه نصف الاستثمارات الأجنبيّة المُباشرة في كلّ أنحاء العالَم. ويفتح هذا التحالُفُ البابَ لحلف أوراسيا الأكبر الذي يُمكن أن يكون ندّاً حقيقيّاً للتحالُف الأميركي- البريطاني مُستقبلاً.

في الواقع، تُواجِه الصين تحدّيَين رئيسيَّين لتبوّؤ صدارة العالَم، التحدّي الأوّل يتجلّى في سيطرة الدولار الأميركي على المُعاملات الماليّة والتجاريّة في العالَم. فمُجمل الاستثمارات والتحويلات البنكيّة تتمّ بالدولار الأميركي. أمّا التحدّي الثاني، فيتعلّق بقدرة الصين على إقامة تحالُفات مع دُولٍ آسيويّة صاعدة. فالصين تلتقي مثلاً مع الهند في البريكس لكنّهما يختلفان في مشروع طريق الحرير الذي تُعَدّ نيودلهي أكبر مُعارضيه عالَميّاً.

وعلى العموم، فأزمة كورونا تُعطي فرصة ذهبيّة للقوى الاقتصاديّة لإثبات جدارتها الماليّة، الاستثماريّة والتجاريّة. وفي هذا الصدد، فإنّ العُمق الآسيويّ عبارة عن جغرافيا استراتيجيّة وقوّة اقتصاديّة ضخمة تحتاج من الدول العربيّة مجهوداً كبيراً للاستفادة من هذه الجغرافيا ومن قدراتها الماليّة والاستثماريّة وخُبراتها في الارتقاء الاقتصادي، بخاصّة أنّ الجزء الأكبر من العالَم العربي ينتمي إلى القارّة الآسيويّة.

إنّنا أمام سنة استثنائيّة ومصيريّة ستُحدِّد مُستقبل العالَم، وتشمل تغييراتٍ سياسيّة واقتصاديّة وتحتاج إلى حكمة وعقل استراتيجيَّين يسمحان بالتخطيط للعقود المُقبلة بمُبادراتٍ مُبدعة في إدارة المصالح، وبما يُعزِّز مفهوم القوّة الذكيّة الجامِعة بين القوّة النّاعمة والصلبة التي تهتمّ بالرأسمال المادّي من مَبانٍ واستثماراتٍ من جهة، والرأسمال المعنوي من جهة أخرى، مُتجلّياً في الجاذبيّة الاقتصاديّة، في مُواجَهة النظام الاقتصادي الجديد الذي يلوح في الأُفق.

Optimized by Optimole