“كرنتينا” فلوبير.. لوكليزيو وبروست

“كرنتينا” فلوبير.. لوكليزيو وبروست
Spread the love

جودي الأسمر _ كاتبة من لبنان/

تزدحم المَنابِر الافتراضيّة مؤخّراً بمُراجعاتٍ عن آداب الوباء، يُحاول قرّاؤها الاستئناس بأحداثها والتماهي مع شخوصها، لتأتيهم بنبوءاتٍ تُزاوِج بين الخيال والواقع، علّها تُساعدهم على مُغالَبة مجهولٍ يترقّبونه في حَجْرهم المنزلي وعزلتهم الوبائيّة المُسمّاة “الكرنتينا”.

ويُلاحِظ المُتابعون أنّ رواية “الطاعون” لألبير كامو تتصدّر أدب الجوائح التي تُعاد قراءتها. إلّا أنّ الكرنتينا وفّرت للعديد من أدباء فرنسا الإطار المَكانيّ المُحفِّز لولادة مؤلّفاتهم. من هذه الآداب، نتناول رسالة غوستاف فلوبير من كرنتينا بيروت، ومُقارَنة سريعة مع “الكرنتينا” للكاتِب المُعاصِر جان ماري لوكليزيو، انتهاءً بمطوّلة مارسيل بروست الشهيرة “بحثاً عن الزّمن المفقود”، في ضوء نظريّات في السوسيولوجيا والتحليل النفسي.

اختيار هذه الأعمال الثلاثة، ينطلق من ملاحظة تأثير الكرنتينا في الأدب، بتجاوزه الحيِّز الموضوعاتي؛ بل يُضاف إلى “أدب الجوائح” ما سنُسمّيه “الأدب في الجوائح”، حيث تكون هذه العزلة وسيلة لتغذية رواسب الماضي أو إطاراً لتصفية حسابات معه، ولو بعد حين. وقد يخلق الأديب كرنتينا طوعيّة خاصّة به، يتّخذها حاضنةً لإبداعه!

تصوّرات فلوبير

قبل أن يحطّ رحاله في الشرق في العام 1849، راكمَ فلوبير تصوّرات نمطيّة لطالما تزاحمت في مخيّلة المُستشرِقين، حول سحر الشرق الذي يَنعم بالشمس والألوان والغوايات وسِحْرِ غرائبيّته. وكان إدوارد سعيد قد قيَّم تجربة فلوبير في كِتابه المعروف “الاستشراق”، تطرَّق فيه إلى العلاقة الّتي جمعت فلوبير بكوتشوك هانِم، الراقصة التي اتّخذها حاكِم مصر سليمان باشا جارية له. كرَّس الروائي عبرها الصّورة النمطيّة عن المرأة الشرقيّة، قائلاً “المرأة الشرقيّة لا تعدو شيئاً سوى ماكينة جنس، فهي لا تُفرِّق بين رجل وآخر”. فبقدر ما أظهرت مذكّرات فلوبير افتتانه بمصر التي صوَّرها من خلال مدرسته الواقعيّة، لم يتخلَّ الكاتِب عن تحقيره لكلّ ما هو شرقي، ما عزاه إدوارد سعيد إلى خلفيّة إيديولوجيّة تمتّع بها سائر المُستشرِقين الغربيّين، باعتبارهم ناشطين في السياسات الاستعماريّة، سعوا إلى تبريرها من باب قصور شعوب بلاد الشرق عن إدارة بلادها، بسبب تخلّفها وسذاجتها.

بعد سنة، انتقل فلوبير إلى بيروت. في هذه المدينة، لم تَنتج فوقيّته الاستعماريّة وحدها هجاءه المتجدّد للشرق، بل أيضاً الحَجْر- باستثناء البحر الذي يطلّ عليه من نافذة الكرنتينا، لا فسحة هنا، ولا أجواء إيروسيّة تُلطّف العزل الذي فَرضه العثمانيّون. هؤلاء نقلوا ركّاب سفينته إلى كرنتينا بيروت- وهي منطقة واقعة على مقربة من المرفأ كان يتمّ فيها حجر الوافِدين إليها بحراً لمنْع تفشّي الأوبئة- للاشتباه بإصابتهم بالكوليرا، لأنّ السفينة مرّت بمالطا الغارقة في وبائها. يكتب إلى نسيبته الآنسة بوننفان، ناقلاً تعاطي الحرّاس الّذين أسقط عليهم تحقيره للعثمانيّين “لا شيء مُضحك أكثر من رؤية حرّاسنا وهُم يتواصلون معنا عبر الإمساك بعصا، ويقفزون من نقطة إلى أخرى للابتعاد عنّا حين نقترب منهم، ويتلقّون أموالنا في وعاء مليء بالماء”. مُستنتِجاً بسخرية أنّ “الكرنتينا اختُرعت لأجل ملء جيوب هؤلاء الأتراك الطيّبين“. وتنسحب سخريّته على الطبابة والجسم الطبّي الذي أراد أن يسِمَه بالبدائيّة والغباء “(…) لتطهيرنا، جاء هذا الأحمق لتغطيتنا ببخار الكبريت النَتِن. كاد خادمنا البائس يختنق وراح يسعل وكأنّه مُصاب بأقوى درجات الزكام. حين نريد إخافتهم بأسوأ طريقة، كان يكفي أن نُهدّدهم بتقبيلهم، فتشحب وجوههم فوراً. باختصار، حتّى لو كنّا موجودين الآن في مكانٍ مريع، إلّا أنّنا نضحك كثيراً”.

يحمل تقريع فلوبير تفسيراً اقترحه فيليب سترونغ ضمن عِلم الاجتماع الوبائي، الذي درس الاستجابة المُجتمعيّة للتهديد الوبائي باقتراحه “الوصْم والأخلاق” كأحد مكوّنات الاستجابة للوباء. فالوصْم الذي تحرّكه الكرنتينا ضدّ الآخر المُختلف يتِّخذ جانباً من الأثر الاجتماعي لتفشّي الأمراض المُعدية، يسمّيه عِلم النَّفس بـ”جهاز المَناعة السلوكي” الذي يولِّد الخوف من الأجانب والمُهاجرين. هذه الاستجابة تلوّنت لدى المُستشرِق الفرنسي بإيديولوجيا استعماريّة مع ما تنتجه من شوفينيّة وأحكام مسبّقه.

لوكليزيو وخطيئة الأجداد

يشترك جان- ماري لوكليزيو مع فلوبير في الشغف بالترحال؛ إلّا أنّ تجربة لوكليزيو هي استجابة عكسيّة لإيديولوجيا المُستعمِر، بل مُناهِضة لها، فشكّلت انعكاساً أميناً لـ”مُستكشِف البشريّة ما وراء الحضارة السائدة وتحتها”، كما جاء في وصف الأكاديميّة السويديّة إثر فَوزه بجائزة نوبل للآداب (2008). لوكليزيو هجين الجذور التي تجمع بين استعمارَين، بين أمّ فرنسيّة وأب بريطاني من جزيرة موريس، كَتب في روايته “الكرنتينا” عن جدّه المُتمرّد الذي رفض الانضمام إلى الجيش الثوري في أثناء الثورة الفرنسيّة، لأنّهم اشترطوا عليه قصّ شعره الطويل، ففرّ من فرنسا عبر البحر، قاصداً الهند “أشعر دوماً أنّني قريب لهذا النمط من الناس، حيث يذهب المرء منفيّاً إلى أقصى حدود الدنيا كي يفلت من فعل أمر يُجبر عليه وهو لا يريده”، يقول لوكليزيو عن الجدّ.

كتب لوكليزيو “الكرنتينا” (1995) ليُعيد سرْد رواية أصوله الاستعماريّة في قصّةٍ متخيّلة تُصالحُهُ مع هذه الأصول، من خلال ليون، بطل الرواية، الذي أراد العودة مع أخيه إلى جزيرة موريس، وهي مَوطن الأجداد. لكنّ إصابة راكبَين بالجدري حملت المركب على إنهاء رحلته في الجزيرة، حيث عاش ليون عزلة مديدة، تعرَّف خلالها على فتاةٍ هنديّة أحبّها. ولن يتكشّف الدور التطهيري للكرنتينا، إلّا حين استأنف لوكليزيو رواية أصوله في “ألما” (2017) التي اعتبرها “بمثابة تكفير عن ذنب الأجداد” الذين استعبدوا سكّان جزيرة موريس في القرن الثامن عشر، وسلّطوا عليهم العنصريّة والمَظالِم.

إذاً، على عكس فلوبير، لوكليزيو الذي يَعتبر أنّ “الأرض مكْث عابر”، جعلَ من الكرنتينا مطهراً لعنصريّة الأجداد. وهذا ما يتجلّى في سائر كِتاباته التي تنفرد بفضاء الثقافات الهجينة، التي أعاد تصويرها في عالَمٍ مُحرَّر من الحضارة المركزيّة القائمة على أنقاض المُستعمرات.

بروست في العزلة الخلّاقة

ننتقل إلى مارسيل بروست الذي أنتج من حجْره الطوعي روايته الرائعة “البحث عن الزمن المفقود”، طوال ثماني سنوات اعتزل خلالها مقاهي باريس وشوارعها وصالوناتها، مُفضِّلاً مُلازَمة شقّته في شارع هاملين في الدائرة الثامنة. ثمّ توفّي بروست داخل عزلته في العام 1922، كأنّه تنفَّس الصّعداء بعدما وصل إلى غايته في كِتابة روايته الأهمّ، التي قسّمها إلى سبعة كُتب. بعض المُعاصرين عزوا عزلة الروائي إلى الالتهاب الرئوي المُزمِن الذي كان يُعانيه، فيقولون إنّه تأثّر بوالده أدريان بروست، المُراقِب العامّ للخدمات الصحيّة في باريس، الذي كان من روّاد تدابير “الحجر الصّحي” لوقاية الفرنسيّين من الأمراض المُعدية التي انتشرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في الشرق الأقصى ودُول البلقان. وفي كِتاب بعنوان “السيّد بروست”، تورِد سيسيليت أباريه، مُساعدته في المنزل، إجراءات الحجْر التي لا نزال نعتمدها بعد مئة عام، فقد كان بروست يرتدي القفّازات ليُصافح طبيبه وأخاه، وكانا من القلّة التي يُسمح لها بزيارته، كما احتفظ بآلة صغيرة تضخّ مادّة الفورمالين القاتلة للبكتيريا، فيُمرّر عبرها الرسائل التي يتلقّاها، ليقي نفسه أيّ عدوى قد تُفاقِم مرضه.

كان بوسع بروست أن يتّبع وقاية أقلّ صرامة. فهل من السهل التزام الحَجر طيلة ثماني سنوات، وإن كانت الإنتاجيّة مضمونة؟ لكنّ الكاتب القائل “أحتاج إلى الصمت والعزلة، وشكل مُختلف في وحدة المكان والزمان لكتابة عمل عظيم”، كشف عن جلاء حاجته لإبداع غير مطروق لا يُحقّقه، بحسب رأيه، سوى الحَجْر.

يقول بروست عبر روايته إنّ الزمن ينفلت من بين يديه، ولذلك فإنّه اختار مُعاكَسة الزمن، باستحضار ذكريات الماضي وإحيائها لتُشكِّل هي الواقع. المجال هنا يضيق على تغطية كلّ الذكريات، إلّا أنّنا نورِد الجزء الأوّل من مُجلّده، حيث تنعشُ يقظتُه المتقطّعة ذكرياتِ الطفولةِ البعيدة “عبثاً كنتُ أعلم أنّني لستُ في المنازل التي وافاني جهل الاستفاقة في لحظةٍ بصورتها الواضحة أو حملني على الأقلّعلى الاعتقاد بإمكانيّة حضورها، فقد تحرَّكت ذاكرتي (…). أمضي القسم الأكبر من اللّيل في استذكار حياتنا السالفة في “كومبريه” لدى شقيقة جدّي، وفي “بالبيك” وباريس و”دونسيير” والبندقيّة وفي أمكنة أخرى”.

في كِتابه “جماليّات المكان”، يحوِّل غاستون باشلار هذه العزلة إلى مَلعبٍ للذكريات، وفضاء حميم يُخصِّب خيال الكاتِب الذي يتغذّى من مَنابِت الطفولة، أي البيت الأوّل؛ إذ يرى في تحليله النفسي أنّ البيت هو المكان الحميم الذي يوفِّر الألفة والحماية، والمجال الذي يثبّت جذورنا في هذا العالَم: “حين نحلم بالبيت الذي وُلدنا فيه، وبينما نحن في أعماق الاسترخاء القصوى، ننخرط في ذلك الدفء الأصلي، في تلك المادّة لفردوسنا المادّي، هذا هو المناخ الذي يعيش الإنسان المَحمي في داخله”.

ويرى باشلار أنّ البيت يحفظ ذكرياتنا من الضياع “الكثير من ذكرياتنا محفوظة بفضل البيت”، لذلك، فإنّ بَيت الذكريات يرتبط بالغرفة التي مَاَرَس فيها بروست حجْره، حيث يستعيد زوايا وأركان البَيت الذي احتضن الشخصيّات الرئيسة في طفولته: “إنّ البَيت الذي وُلدنا فيه محفور بشكلٍ مادّي في داخلنا. (…) بعد مرور عشرين عاماً، وعلى الرّغم من السلالم الكثيرة التي سِرنا فوقها، فإنّنا نستعيد استجاباتنا للسلّم الأوّل”. لقد اختلق بروست عزلته لأنّه يعلم غريزيّاً أنّ المكان المرتبط بطفولته مكان خلّاق. وحدث هذا عندما اختفى ذلك المكان من حاضر الروائي العظيم، وحين علم أنّ المستقبل لن يُعيده إليه.

Optimized by Optimole