لماذا تحدث الثورات؟

Spread the love
كتاب “لماذا تحدث الثورات؟” الثلاثاء

بقلم: طارق قبلان* — «لماذا تحدث الثورات؟» عنوان كتاب جديد للدكتور هيثم مزاحم محوره سؤال عن الأسباب المحرّكة للثورة والأهداف التي قد تطرحها، باعتبارها حركة استثنائية في حياة المجتمعات والشعوب على اختلافاتها وتبايناتها وخصوصيّاتها، فيما تبدو عين الباحث شاخصة باتجاه الحراك السياسي في العالم العربي، حيث شهدنا «خروجاً» على الأنظمة الديكتاتورية و «اختلافاً» بشأن التوصيف العلمي للخروج، فتراوحت التسميات بين الانقلاب والتمرّد والانتفاضة والثورة…
الكتاب الصادر عن «دار الرافدين» حديثاً يبدأ من الراهن السياسي لـ «الساحة العربية» ويتوغّل في محاولته فهم الثورة، ليعود من ثَمَّ إلى تلك «الساحة» التي تُعاني سواء في سلميّتها أو في حراكها الهادف إلى مستقبل واعد، وهي التي يرى ناشطوها إلى الزمن كامتداد خطّي يُبشّرهم بمستقبل خيرٍ من ماضيهم، فيما الواقع يجذبهم إلى اقتناعٍ بأنّ الزمن دائري، والتغيير محكوم لقواعد لا تُبشّر بخير. لكن ناشطي الساحة يتشبّثون بقناعات متفائلة بتأثير من وسائل الاتصال الجماهيري والاجتماعي التي جعلت الخطاب مِلكاً عمومياً لا مرجعيّة له تتولّى صياغته وتنقيته ونشره.
يقول مزاحم في مقدّمته (ص 13): «تكتسب دراسة الثورات وتشريح أسبابها، انطلاقاً من قراءة أهمّ الثورات العالمية وتحليل ظروفها وأسبابها، أهميتها من واقع الحراك السياسي والاجتماعي الذي شهده العالم العربي منذ نهاية عام 2010 الذي تفجّر بموجة من الثورات والانتفاضات الشعبية والتمردات العسكرية، امتدّت من المغرب إلى المشرق، من تونس فمصر وليبيا إلى اليمن والبحرين وسوريا، فضلاً عن بعض الاحتجاجات في الأردن والعراق وسلطنة عمان والجزائر والسعودية».
وليدرس الباحث ما يجري يحتاج إلى أن يعود إلى أعمال من القرن الماضي لتفسير «الثورات»، فيبرّر بالقول: «لذلك رأينا من المفيد استرجاع نماذج من الدراسات النظرية حول الثورة ومفهومها ودوافعها وأسبابها. والهدف من هذه الدراسة هو محاولة معرفة لماذا وكيف تحدث الثورات، وذلك من خلال التوصّل إلى القواسم المشتركة للثورات من جهة، ومعرفة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها الشعوب الثائرة قبل الثورة، من جهة أخرى».
يلفت في مصادر الباحث مزاحم مرجعية الفيلسوفة الألمانية الأميركية حنّة أرندت بخصوص الثورة في كتابها «في الثورة»، والباحث الأميركي كرين برينتن في كتابه «تشريح الثورة»، بالإضافة إلى دراسة تطبيقية في المجال الأوروبي للمؤرخ البريطاني إريك هوبزباوم في كتابه «عصر الثورة: أوروبا 1789-1848». كذلك يرجع إلى المفكر الفرنسي ألكسيس دو توكفيل في كتابه «النظام القديم والثورة»، ثم يُجري مقاربات للثورات الفرنسية والأميركية والروسية والإيرانية وما يشهده العالم العربي من حراك سياسي وثوريّ، إلا أنه لا يُقارن بينها، ويُغفل إسهامات كثيرين نظرياً وميدانياً في موضوع الثورة والعمل الثوري، خصوصاً لدى اليساريين والإسلاميين.
وإذ يُظهر البحث أن الثورة كعمل تغييري ذات منحى إيجابي في السياقات الاجتماعية والسياسية غير الإسلامية يكون قد تبنّى عن غير قصد رؤية السلطة في البلاد الإسلامية، حيث يصم الحاكم كل من يناوئه بـ «الخروج» و «شقّ عصا الطاعة» و «التمرّد» على أولي الأمر، برغم عدم كونه المعيار الوحيد للشرعيّة داخل الجماعة والمجتمع، بل كان المسلمون يرون في كثير من حركات التمرّد والخروج سُبلاً محقة لطلب العدل والعدالة الاجتماعية وسيادة أحكام الدين.
يتبنى مزاحم المعيار الاجتماعي في تفسير الثورة، ويورد الاضطراب القِيَمي كواحد من أسباب تهاوي حكم المستبدّ، كما يُضيف البُعد السياسي، فضلاً عن ربط تهاوي حكم المستبدّ بافتقاره إلى القوة القمعية التي تمكّنه من ضبط حراك الثائرين. ومن دون شكّ، يتحدّث الكاتب عن تحوّل في مجال التفكير وقطاع الثقافة حتى تتكامل عناصر التغيير، برغم أنّ مقاربته تترك المجال مفتوحاً أمام التحليل ليجد توازنه وفاعليته في عناصر لم تُعطَ القدر المناسب من الأهميّة. إذاً، يولي مزاحم القضية الاجتماعية دوراً كبيراً في الثورة، تأسيساً على كلام أرندت المرجعي في الكتاب، إذ يورد (ص 33) أنّ «أحداً لا يُمكنه أن ينُكر الدور الكبير الذي أدّته القضية الاجتماعية في الثورات كلها»، ويستشهد بوقائع قديمة وحديثة حيث يكون «قلب الحكومة من الفقراء لتأسيس حكومة أوليغاركية من قلةٍ من المستغلّين، أو قلب الحكومة من الفقراء لإقامة ديموقراطية»، لأن السبب هو «العلاقة بين الثروة والحكم في أيّ قطر من الأقطار، والإدراك بأنّ أشكال الحكم مرتبطة بتوزيع الثروة، وأن الشبهة بأن السلطة السياسية قد تتبع ببساطة السلطة الاقتصادية، وأن المصلحة قد تكون القوة الدافعة وراء الخصام السياسي بكلّ أشكاله»، ليصل إلى قول أرندت إن أرسطو كان أول من قال: «إن المصلحة التي هي مفيدة لشخص أو مجموعة من الناس هي الحاكم الأعلى في الأمور السياسية، وينبغي أن تكون كذلك».
لكن مزاحم لا يتوقّف لتطبيق الفكرة على الواقع العربي بل يذهب إلى الحديث عن الخلفية الدينية للثورات، فيجد أنها علمانية لا مسيحية بما يتّفق مع قول أرندت إن «العلمانية لا المسيحية هي التي تشكّل أصل الثورة»، إذ تُرجع (أرندت) التغيير في الأمور الدنيوية بجذوره إلى الإغريق.
يُضيف مزاحم إلى فكرة أرندت فكرة من نتاج الأميركي برينتن مفادها أنّ الثورة تحدث في مجتمع «يجمع عادة بين التوترات الاجتماعية والسياسية بسبب التدهور التدريجي لقِيَم المجتمع»، ثم يميل إلى فكرة أن التغيير الذي تطمح إليه الثورة في العادة يحدث بسبب التطور لا الثورة نفسه، لأنّ التغيير نتاج «منظّم وسلميّ وتدريجيّ، أي بحسب العبارة السائدة لدى أجدادنا «تطوّر لا ثورة»، مع إشارة إلى مراحل الثورة باعتبار التطرف والاعتدال أربعة كما جاء في الصفحة 39، وفيها: «المرحلة الأولى وهي التمهيدية، ومن أبرز خصائصها: التنافر الطبقي والحاكم غير الكفؤ ونقل المفكرين للولاء وفشل استخدام القوة ضد الثورة.
المرحلة الثانية: حدوث الثورة نفسها، وتتميّز بخصائص الانهيار المالي وزيادة الاحتجاجات ضد الحكم والأحداث المثيرة واستيلاء المعتدلين على السلطة وفترة شهر العسل.
المرحلة الثالثة، وتسمّى مرحلة الأزمة وخصائصها: تولّي المتطرفين السيطرة وإبعاد المعتدلين عن السلطة والحرب الأهلية والحرب الخارجية وتركيز القوة في مجلس ثوري يسيطر عليه رجل قويّ.
والمرحلة الرابعة هي مرحلة الخلاص وخصائصها: العودة البطيئة غير المنظمة إلى أزمنة تتّسم بهدوء أكبر وحكم الطاغية وقمع المتطرفين وحصول المعتدلين على العفو والنزعة القومية والعدوانية»؛ وذلك يعني لدى مزاحم أن برينتن ينتهي إلى «أن معظم الثورات تنتهي بالعودة إلى حيث بدأت، وتنشأ بعض الأفكار الجديدة ويتحوّل هيكل القوة قليلاً وتطبّق بعض الإصلاحات ويُمحى أسوأ ما في النظام القديم».
عند هذه النقطة يبدو الباحث مزاحم غير متفائل في مستقبل الثورات، وفق برينتن بالتأكيد (ص41) حيث يقول: «إنّ الوضع القائم يُصبح مشابهاً للوضع في فترة ما قبل الثورة وتشرع الطبقة الحاكمة مرّة أخرى بالإمساك بالقوة».
ويتوقف الباحث عند الثورة الإيرانية التي من أسبابها «فساد الشاه وممارسات جهازه الأمني» فيجد أن مكوّناتها طيفٌ من القوى والحركات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية إلى جانب العلمانية، معتبراً أنها ثورة في طور الاكتمال، لأنها تشهد حراكاً وصراعاً داخلياً مستمراً بين المعتدلين والمتشدّدين، ويمتنع عن إطلاق الأحكام بشأنها قبل أن تمرّ فترة طويلة تكفل حكماً عادلاً عليها وعلى الثورات العربية، فيقول (ص 126): «وإذا كان مضى على الثورة الفرنسية قرنان ونيّف ونحو مئة عام على الثورة الروسية وهو زمن كافٍ لتقييم نتائج هاتين الثورتين وآثارهما مقارنة بادعاءاتهما وأهدافهما …» يخلص إلى أن «من عدم العلمية والموضوعية تقييم «الثورات العربية» ومقارنة نتائجها بأهدافها».

هيثم مزاحم، «لماذا تحدث الثورات؟»، دار الرافدين، بيروت، 2016.

*كاتب وإعلامي لبناني.

المصدر: صحيفة السفير اللبنانية

Optimized by Optimole