من هو الرّوائيّ ” هاري بيرنشتاين “؟

Spread the love

بقلم: غنوة فضة _ روائيّة سورية |

عندما سألت صحفية الروائي البريطاني – الأمريكيّ ” هاري بيرنشتاين ” عن كتابة المذكّرات و السيرة الذاتية في عمر الثالثة و التسعين أجابها :
” لقد بدأتُ كتابة سيرتي بطريقة الرواية عندما أصبحت ناضجة للكتابة , أعتقد أن سنّ الثالثة و التسعين ليس متأخراً أبداً ! ” .
قد يتعثر المهتمّون بالرواية باسم ” هاري بيرنشتاين ” المدرج ضمن قائمة من اشتهرت أعمالهم الأدبية و الروائية بعد الخمسين من عمرهم . هاري ( الكاتب اليهودي الهارب مع عائلته من مذابح بولندا ) أقام مع أسرته المكونة من أبٍ و أم و سبعة أطفالٍ في حيّ يهودي مقابلٍ لحيّ مسيحيّ ضمن بلدة مطحنة انكليزية مزرية حيث عاش فقراً مدقعاً بالقرب من مانشستر .
نشر بيرنشتاين( 1910 – 2011 ) مذكّراته عام 2006ضمن قالب روائي عنوانه : الجدار الخفي ( قصة حب كسرت الحواجز ) و لاقت اهتماماً كبيراً سيما من قبل النقاد . شكّك البعض بمصداقيتها , في حين أثنى عليها كثيرون .
تحكي رواية ( الجدار الخفيّ ) عن تلك الياردات القليلة التي تفصل حيّاً بريطانيا إلى جانبين اثنين , الأول لليهود , و الآخر للمسيحيين , حيث تبدو المسافة لا تتعدى أمتاراً في حين تغدو اجتماعياً و فكرياً تبعد آلاف الأميال .
أحداث الرواية :
تسيطر على الحيّ , الذي لا يصعب على العجوز التسعيني تذكر تفاصيله , أجواء من الاحتقار المتبادل , و العنصرية المستأسدة بين الحيَّين . ليبرز عالم من الألم و التحامل , بنثرٍ مملوء بضبط النفس , يسلط الضوء ( مكانيا و زمانيا ) على حال أسرة كافحت ببسالة في سبيل التغلب على الصعاب .
يقول بيرنشتاين : ” كان الأطفال المسيحيون يضربون الأطفالَ اليهود بشكلٍ روتينيّ و هم يصرخون : من قتل المسيح ؟ مقابل ما تلقّاهُ اليهود من تعليماتٍ للبصق عندما يسيرون بجوار الكنيسة ” . من هنا تبرز صبغة السيرة الذاتية ذات الطابع الاجتماعيّ , و التي تكشفُ عن صورة التعصب الدينيّ الذي سيطر على العقل الجمعي الأوروبي أوائل القرن المنصرم , مع تفاصيل غاية في الرقة و العذوبة عن حكاية حبّ حاولت كسر حاجز التزمت الديني الخفيّ , و عبرت النجوم , حتى وصلت للقارئ بلسان صبيّ بعمر التسعين !
يبرز عبر الرواية والد بيرنشتاين , كمثل رجلٍ شرير يعمل خيّاطاً في انكلترا , و يبدو رجلاً نهماً للشرب , سكّير و مستبدّ , صوّره الكاتب كمصدر متوالدٍ للخوف على جميع أفراد أسرته .
تحصل ( ليلي ) أخت الراوي على فرصة للدراسة في إحدى المدارس , الأمر الذي يكشف عن جانب آخر للتعصب ليس إزاء الأديان الأخرى فحسب , بل تجاه المرأة الأوربية , والكيفية التي عوملت بها بدايات القرن العشرين . حيث يحتدم الأب , و يتذكر كيف أنه عمل في مسلخٍ للحوم عندما كان في مثل سنّها , الأمر الذي يدفعه لإجبارها للعمل معه في الخياطة , يقول بيرنشتاين :
” لقد أمسك بذراع ليلي , و من ناحية أخرى , قام بلفّ شعرها الجميل في حبلٍ بكلتا يديه , و ليلي تصرخ و تقاوم . كانت أمي تبكي بشكلٍ هستيريّ , وتقف أمام الباب و يدها تغطي عينيها . كنا نبكي جميعاً . لوقتٍ طويلٍ سمعنا صراخ ليلي و هي تُجَرّ في الشارع بحبل شعرها , وصوتها بجلاءٍ يعلو : لن أذهب … لن أذهب “.
تحدث الهوّة الكبيرة , وتقع ( ليلي ) في حبّ رجلٍ مسيحيّ ( آرثر فورشو ) ابن صاحب المتجر المجاور , يتمّ إجراء الخطوبة سرّاً , لأنه كما يُذكِر بيرنشتاين , بوجود الحاجز الخفي بين الطائفتين , الأمر الذي يجعل من خبر الزواج ذاك سبباً للشعور بالسخط و الاستياء , حتى الوالدة البسيطة تعمد لارتداء السواد دائما , وتصر أن تُلبس أفراد الأسرة جميعهم ثياب الحداد , كما لو أن ليلي قد ماتت و اختفت من الوجود .
على الرغم من موقف الوالدة , إلا أن بيرنشتاين يبرزها بصورة المرأة الرائعة , و الأم التي تفني ذاتها في أعمالٍ فردية لتدعم أسرتها الفقيرة .
في النهاية , يتبلور عبر الضغوط و التشدد حلم الأسرة في السفر إلى أمريكا , أرض الأحلام , لتتحقق الهجرة , و يترك الكاتب أثراً لقصة طفل لم يغفر قسوة والده , كارهاً صورة المجتمع الذي أشقى طفولته , ذلك المجتمع المنقسم و الذي دفعه للهروب من تفاصيله الانفصالية , الطبقية , و العرقية .

ختام الرواية :
تحترق الكراهية في قلب الكاتب تجاه والده الذي جعل حياته و أخوته قاسية , وكان سبباً في وفاة والدته جراء سوء التغذية و المعاملة , الأمر الذي دفع الكاتب ليكرس الرواية بأكملها لوالدته التي قدمت الكثير , و تلقّت القليل .
يكمل بيرنشتاين مذكّراته في رواية أخرى أسماها ” الحلم ” , أشار فيها إلى طموحاته الجامعية التي أطفأها الكساد , ليكتب في روايته التالية ” الصفاف الذهبي ” عن اليد البيضاء التي انتشلته من التوحش الذي عاناه في طفولته , و هي يد زوجته ( روبي) التي قابلها عام 1935 مصرّحاً أن حبّها و دعمها اللا مشروط أنساه أهوال الطفولة . إكراما لها أهداها الرواية الأخيرة التي تحدث فيها عن حياتهما معاً .
توفي بيرنشتاين عن عمر (101) بعد أن تسبب بضجة أدبية عندما خرج اسمه للعلن ككاتبٍ عرف كمحرر لمجلة تجارية , و ظهر في الثالثة و التسعين من عمره روائياً محترفاً .

Optimized by Optimole