قناة “الجزيرة”.. 20 عامًا في “اتجاهها المعاكس”

Spread the love

jazeera

بقلم: د. محمـد عبدالـرحمـن عريـف* — يبقى الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 1996 ذكرى لانطلاق فضائية عربية اسمها (الجزيرة) تحُل الذكرى والمنطقة علی وقع صفيح ساخن عربيًا وإسلاميًا، فلقد لعبت الجزيرة دورًا بارزًا في نقل الكثير من جوانبه، وتطوراته، انطلاقًا من “الرأي والرأي الآخر” شعار الجزيرة الذي اعتمدته منذ لحظة انطلاقها. استطاعت الجزيرة كسر الخطوط الحمراء من وجهة نظر الأنظمة العربية، التي لم يكن بمقدور أي وسيلة إعلامية عربية تجاوزها، أو حتی مجرد الاقتراب منها، نظرًا لانعدام الأفق المتاح للعمل الإعلامي وحرية النشر في العالم العربي بشكل عام، واستطاعت الجزيرة تجاوز مربع الرقابة السلطوية إلی مربع المهنية الشعبوية التي مكنتها من الوصول إلی الجمهور العربي خلال وقت قصير من انطلاقها.
الحقيقة أنه لم يكن يتوقع أحد “عربيًا على الأقل” أن الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 1996 سيشكل منعطفًا تاريخيًا في مسيرة الإعلام العربي، وذلك عندما ظهر المذيع المميز والمخضرم الفلسطيني الأصل جمال ريّان، معلنًا انطلاق بث قناة الجزيرة، هذا المنعطف الذي لم يغيّر النظرة والصورة النمطية للإعلام العربي فقط ولكنه غير موازين القوى أيضًا وأعاد تشكيل العديد من السياسات والاستراتيجيات الإقليمية.
الواقع أَنْ الجزيرة بدأت بالعمل وفق رؤية أكثر انفتاحًا علی قضايا لم تكن مألوفة من قبل بالنسبة للحكومات العربية كان من البديهي أن تخوض الجزيرة معركة وجود مع قرارت رسمية بإغلاق مكاتبها في أكثر من بلد عربي، فلم تكن مجرد قناة إخبارية فقط بل امتد دورها ليصبح أكثر فاعلية في قضايا مصيرية تهم الشارع العربي والإسلامي مثل الحرب في أفغانستان التي عوقبت فيها الجزيرة بحبس صحفييها كثمن لدورها المهني في كشف الانتهاكات، وهو ذات الأمر الذي تكرر في العراق بعد نشر الجزيرة للكثير من الانتهاكات بحق السجناء والمواطنين وتفردها بتغطية معركة الفلوجة، ونقل معاناة أهلها للعالم، لكن الثمن في العراق كان استهدافًا متعمدًا لمكاتبها وقتل مراسلها هناك طارق أيوب، وتعدی الأمر ذلك إلی التهديد بنسف القناة من قبل إدارة بوش الابن بعد فشل ضغوطها علی القيادة القطرية.
امتلكت الجزيرة صحافيين مهنيين يمتازون بقدرة عالية من المخاطرة والمغامرة جعلها الأكثر قربًا من مواقع الأحداث المهمة في تغطية إخبارية اقتربت من المشاهد الفلسطيني من بوابة غزة والشجاعية، ومن المشاهد اللبناني من بوابة حرب تموز ومجزرة قانا الثانية، واقتربت من الشعوب الثائرة في يوميات الغضب الشعبي الذي طالت شرارته أكثر من دولة عربية.
كانت الجزيرة في 2011 يمنية وتونسية وليبية ومصرية وسورية في وقت واحد، وفق تصنيف متابعيها في هذه الدول التي شهدت ثورات شعبية خالصة امتزجت بالدم المقرون بخطايا الأنظمة العربية، وهذه الفترة كانت المرحلة الأكثر تضييقًا التي واجهتها الجزيرة، نظرًا لتعرضها لحملة تحريض ممنهجة بدأت بإغلاق المكاتب وتهديد المراسلين. ويتفق الجمهور العربي في الدور الذي لعبته الجزيرة في أحداث الربيع العربي، لكن نقطة الاختلاف تكمن فيمن يری انحيازها للشعب في مطالب مشروعة وبين من يری أنها سبب الفوضی والدمار من خلال تحريضها علی الثورة!.
وسواء اختلفنا مع الجزيرة أو اتفقنا معها، فإن ذلك لن يغيّر من أن الجزيرة أصبحت إمبراطورية إعلامية عالمية تجاوزت الجغرافيا ووصلت إلی أصقاع المعمورة عبر قنوات بلغات مختلفة ومحتوی متنوع يتماشی مع الجمهور المستهدف. يبقى للجزيرة إيجابياتها وسلبياتها من وجهات نظر متعددة، ولست هنا بصدد تقييمها، فهذا متروك لمن هم أهل لذلك، لكن ما أعرفه أن الجزيرة كانت النواة الأولی للإعلام العربي الحر، الذي يقترب من الجمهور بشكل أكثر مهنية وواقعية ويبتعد عن تنميق الكراسي وذوي الجاه والسلطان.
تحتفل الجزيرة اليوم بمرور عشرين عامًا على ريادتها للإعلام العربي ومازالت على “اتجاهها المعاكس” معتمدة على مهنيتها في عرض “الرأي والرأي الآخر” ومستندة إلى “ميثاق الشرف الصحفي”.
الجَزيرة تَخلت عَن التقَاليد الصَحفِية التَابِعَة للأنظِمَة، وتَعلَمت الدَرس مُبكرًا.. وعَلمَت القَاصِيّ والدَانيّ أنَه إذَا اعَطينا البَعضَ اعلام بِلا ضَمير حَصدنا شُعوب بِلا وُعي.. وإذا سَادَ البلاد مُنافقُوهَا.. تُوشِكَ أنْ تَخرُبَ وهيّ عَامِرة!. ويَبقىّ السُؤال الأهَم بَعدَ كُلَ هَذا… متىّ تَتَعلَم الأنظمة العَرَبية دِيمُقرَاطِية ومهنية الاعلام الحُر؟.

*د. محمـد عبدالـرحمـن عريـف كاتب وباحــث في تاريخ العرب الحديث والمعاصر وتاريخ العلاقات الدولية والسياسة الخارجية. عضو الاتحاد الدولي للمؤرخين

المقالة تعبّر عن رأي كاتبها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع

Optimized by Optimole