هيثم مزاحم: نحتاج إلى معاهدة «وستفاليا» إسلامية

هيثم مزاحم: نحتاج إلى معاهدة «وستفاليا» إسلامية
Spread the love

بيروت –حوار: انديرا مطر| د. هيثم مزاحم أستاذ جامعي لبناني وباحث في الفكر العربي والإسلامي. وهو مؤسس ورئيس مركز بيروت لدراسات الشرق الأوسط. له العديد من المؤلفات والدراسات أبرزها: كتاب «حزب العمل الإسرائيلي (2000-1968)، «الصراع على الشرق الأوسط: أميركا، إسرائيل، إيران» و«تطور المرجعية الشيعية: من الغيبة إلى ولاية الفقيه»، وسيصدر له قريباً «المستشرق مونتغومري وات والدراسات الإسلامية».
في هذا الحوار مع القبس يشرح مزاحم العوامل الداخلية والخارجية التي أعاقت حتى الآن دخول العقل العربي في الحداثة، إضافة الى الدور التحريضي الذي يلعبه بعض رجال الدين في تغذية الغرائز الطائفية، ويعتبر ان فصل الدين عن الدولة هو أشد ما يحتاج اليه العالم العربي والإسلامي.

◗ من سنوات وسنوات تحدث محمد أركون عن «التقهقر»، وتوقع أن يواجه الإسلام و«المسلمون» مأزقاً كبيراً. اعتبر أن دخول العقل الإسلامي في الحداثة هو الحل. ما الذي حال بين العقل العربي والحداثة؟
– لا شك أن هنالك عوامل كثيرة حالت بين العرب والحداثة وساهمت في استمرار تخلفهم عن مواكبة الحداثة الحقيقية، بل في تقهقرهم عما وصلوا إليه في عقود سابقة. والموضوع يحتاج إلى بحث عميق وحديث وطويل لا يمكننا عرضه في هذا الحوار السريع. لكن أرى أنه يجب عدم اختزال مشكلة التخلف العربي والإسلامي بعامل واحد والذي يمكن حلّه لدخول العقل الإسلامي في الحداثة. ثمة عوامل أخرى أيضاً لا يمكن إغفالها.
فالعوامل السياسية الداخلية والخارجية كان لها أكبر التأثير في ما وصلنا إليه في عالمنا العربي بشكل خاص، والعالم الإسلامي بشكل عام. التدخلات الاستعمارية في المنطقة العربية-الإسلامية، سواء أكانت عبر غزوات مباشرة أو دعم لأنظمة مستبدة، فضلاً عن قيام إسرائيل، كلها عوامل ساهمت في تراجع التنمية العلمية والاقتصادية. هذا اضافة الى الصراعات العسكرية والسياسية، والغرق في النزاعات السلطوية والطائفية والمذهبية.
كما أن فساد بعض الحكام واستبدادهم وهيمنة منطق الغلبة والاستئثار قد أنتجت كلها أنظمة متخلفة استفادت من استمرار واقع التخلف والجهل والفقر والانقسامات الدينية والمذهبية. هذا فيما تحالف بعضها مع تيارات دينية رجعية لحيازة شرعية لحكمه وسياساته. ولا ريب أن أنظمة فاسدة ومستبدة لا تنتج إلا سياسات واقتصادات فاشلة ومتخلفة ليست قائمة على التنمية الاقتصادية والتقدم العلمي والثقافي.
الحداثة والتسامح

وقال مزاحم:
ما نحتاجه اليوم هو الخروج من صراعاتنا القبلية والدينية والتوصل إلى معاهدة وستفاليا إسلامية تتفق خلالها جميع الدول الإسلامية على القبول بالخلافات والتعدد الديني والمذهبي والعرقي والقبلي، واعتباره ثراء وتنوعاً، ووقف أي صراع ديني أو مذهبي، أو توظيف هذه الخلافات المذهبية في صراعات سياسية وسلطوية.
حين نصل إلى هذه المعاهدة ونؤمن بهذه المفاهيم الحداثوية والتي أهمها الحرية والتسامح والقبول بالتعددية والتنوع والديموقراطية وتداول السلطة، بعدها يجب العمل على توفير بنية ثقافية تؤسس للحداثة، من السماح بالنقد وإعمال العقل والفلسفة ومراجعة التراث وإعادة قراءة النصوص الدينية. فجوهر الحداثة هو الحرية والعقل، والعقل لا يبدع من دون حرية، والحرية لا تتجزأ. وإذا نظرنا إلى الدول الإسلامية أو النامية التي انتهجت الديموقراطية والحريات، كالهند وسنغافورة وماليزيا مثلاً، فهي كانت أقرب بالوصول إلى الحداثة من معظم الدول العربية والإسلامية.

التعصب القاتل

◗ لماذا الإصرار على نبش القبور، فيما الآخرون منهمكون في التنقيب ولو على سطح المريخ على ما وراء المستقبل؟ من المسؤول؟
– للأسف هناك توظيف للدين من بعض الأنظمة. وهناك الأحزاب السياسية التي تستخدم الغرائز الدينية والمذهبية لاستقطاب المؤيدين، فيما يلعب بعض رجال الدين، المسلمين وغير المسلمين، أحياناً في عالمنا العربي والإسلامي، دور المحرّض والنابش للتاريخ والتراث لتكفير أخيه المسلم أو أخيه في البشرية.
وبسبب أهمية الدين في مجتمعاتنا المتدينة والمحافظة فإن أحاديث الفرقة الناجية وتكفير جميع الفرق الأخرى تلقى رواجاً، بحيث تعتقد كل فرقة أو طائفة بأنها الفرقة الناجية فتكفّر الطوائف الأخرى. وينسحب على هذا التكفير، استباحة دماء المذاهب والطوائف الأخرى وأموالهم وأعراضهم ومساجدهم وكنائسهم.
المسؤولية تقع على عاتق كبار علماء الدين المسلمين أولاً، وخاصة في الأزهر الشريف، وفي مكة المكرمة، وفي النجف الأشرف وقم وغيرها، للتوصل إلى تفاهم على غرار صلح وستفاليا الأوروبي عام 1648 والذي أدى إلى إنهاء حرب الثلاثين عاماً في أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت والذي أسفر عن مقتل ملايين الأوروبيين. فأهم مبدأ خرج من المعاهدة، فضلاً عن المعاهدات السياسية والتقسيمات الجغرافية للدول الأوروبية، هو الاعتراف بالآخر وبالاختلاف والتسامح تجاهه، وهو ما نحتاجه اليوم في عالمنا الإسلامي.
الدين والدولة

◗ المؤرخون والمفكرون الأوروبيون اعتبروا أن «لحظة الانسان» في القارة ظهرت عندما تمَّ فصل الدين عن الدولة او عندما تمّ فصل الدولة عن الدين. هل تعتبر ان هذا يفترض ان يكون خيارنا؟
– تماماً. إن فصل الدين عن الدولة هو أهم خطوة نحتاجها في دولنا العربية والإسلامية، وقيام دولة المواطنة، دولة مدنية ديموقراطية تحترم جميع الأديان والمذاهب وتسمح بحرية الاعتقاد والممارسة الدينيين للجميع من دون أي يكون لأي دين سلطة على الدولة أو الدستور أو الحكم، مع تفهمنا أن تكون القيم الدينية، وخاصة الإسلامية، هي مصدر من مصادر التشريع على الأقل في المرحلة الأولى.
يجب أن تحكمنا دولة قانون ومؤسسات تسودها مفاهيم المواطنة والحرية والمساواة والمحاسبة والشفافية.

الحوار والمشاركة

◗ ما الذي تراه، وكيف السبيل الى بلوغ نهاية هذا النفق؟
– أول الغيث هو وقف التقاتل والنزف اليومي في أي دولة من دولنا العربية والإسلامية، والعودة إلى الحوار لحل جميع المشكلات السياسية والاقتصادية. فهناك حلول سلمية لكل المشكلات السياسية، والحروب تزيد المشكلات تفاقماً وتضاعف الأحقاد وتنكأ الجروح وتنبش التاريخ.
أما بالحوار والتصالح والتسامح والتشارك فيمكن التوصل إلى حلول مرضية نسبياً، قد لا تكون مثالية لكنها أفضل من الحرب والدمار. فعلى مدار التاريخ، وخاصة تاريخنا الحديث، لم تسفر الحروب عن شيء إلا الموت والدمار وزيادة الجهل والتخلف والفقر، وتراجع التنمية، وسيادة الاستبداد والتعصب الديني.
إسلامويات كثيرة

◗ هل ثمة إسلام سياسي واحد؟ أم «اسلامات» سياسية وأين هو الانسان في هذا الإسلام؟
– طبعاً هناك إسلامات سياسية وإسلامات جهادية عديدة. فهناك الإسلام السياسي السني والإسلام السياسي الشيعي. هناك الإسلام الجهادي أو السلفية الجهادية، وهناك الإخوان المسلمون. هناك المؤمنون بولاية الفقيه والمؤمنون بولاية الأمة على نفسها. حتى ضمن السلفية هناك تيارات، من سلفية علمية وسلفية وجهادية. لكن أغلب هذه الحركات الإسلامية والجهادية تسعى إلى الهدف نفسه وهو إقامة الحكم الإسلامي، سواء سمّوه بالجمهورية الإسلامية تارة، أو الخلافة الإسلامية تارة أخرى.
أما الإنسان فهو ضحية هذه النظريات الإسلاموية التي تبعدنا عن الدولة المدنية الحديثة وعن دولة المواطنة والحريات والديموقراطية، وتحول بيننا وبين التنمية الاقتصادية، والتقدم الحضاري.

منابع التشدد الديني

◗ ما رأيك في المقولة الرائجة بأن الفقر والجهل هما مصدر التيارات الإسلامية المتشددة بينما رأينا ان المتشددين الوافدين من الغرب عاشوا في بيئات ميسورة نسبياً؟
-لا يمكن حصر أسباب صعود التطرف الديني لدى بعض التيارات الإسلامية والسلفية بسبب واحد. فهناك عوامل عدة ساهمت في صعود الخطاب الديني المتشدد، ويمكن تعداد أبرز هذه العوامل والأسباب باختصار. لا شك أن سياسات الاستعمار الغربي في المنطقة وقيام إسرائيل في المنطقة العربية وعدوانها على الشعب الفلسطيني والشعوب العربية الأخرى، وفشل الدول العربية في تحرير فلسطين ورد الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان والجولان وسيناء والقدس والضفة الغربية وقطاع غزة، كل ذلك ولّد بيئة غاضبة ومحبطة تحمّل الغرب مسؤولية نتائج وآثار هذه السياسات من جهة، وكذلك تحمّل بعض الأنظمة العربية نتائج فشل سياساتها في التصدي للاحتلال والتوسع الإسرائيليين وتضييع فلسطين، والتبعية للسياسات الأميركية في المنطقة.
هذه البيئات العربية والإسلامية كانت حاضرة لتبني أفكار راديكالية جديدة مختلفة عن الأيديولوجيات القومية واليسارية التي حملتها الأنظمة العربية وفشلت في إحداث تنميات حقيقية وتحديث فعلي وجوهري أو في تحقيق استقلال وسيادة وتحرير للأمة العربية.
ونحن نعرف أن حركة الإخوان المسلمين فاعلة منذ العام 1928 ولما تراجعت، وهي كانت أساس الصحوة الإسلامية أو لنقل صعود الإحياء الإسلامي أو الإسلام السياسي.
وبرغم مرور حركة الإخوان المسلمين في مصر بتراجعات وانكفاء نتيجة قمع النظام لها مرة، أو مهادنتها له مرة أخرى، إلا أنها تمكنت من تعبئة الملايين في مصر والمنطقة بأفكار الشيخ حسن البنا وسيد قطب، خاصة أن أفكار الأخير كانت تدعو إلى جاهلية المجتمعات المسلمة وتكفير الأنظمة وتقويضها وقيام حاكمية الله، وهي تجلّت في تنظيمات إسلامية أكثر تشدداً كالجماعة الإسلامية وحركة التكفير والهجرة والجهاد الإسلامي، بينما ساهمت أفكار أبي الأعلى المودودي وتنظيمه «الجماعة الإسلامية» في سيادة الأفكار نفسها في باكستان ومحيطها، فضلاً عن تأثيرها في العالم العربي والإسلامي الأوسع. وجاء انتصار الثورة الإسلامية في إيران مع الإمام الخميني ودعوته الحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي إلى الثورة على الأنظمة الفاسدة والتابعة للغرب من جهة، وإلى مواجهة أميركا والغرب وإسرائيل من جهة أخرى.
هذه الأيديولوجيا الثورية الإسلامية ألهبت حركات الإحياء الإسلامي في العالمين العربي والإسلامي، وترافق ذلك مع الغزو السوفيتي لأفغانستان والرد الأميركي- الباكستاني- الخليجي بدعم المجاهدين العرب والمسلمين ضد السوفيت.
الحراك الأصولي الجهادي أسفر عن اندماج الجهاديين السلفيين كأسامة بن لادن مع الإسلاميين الجهاديين المصريين والعرب كأيمن الظواهري في ما عرف لاحقاً بـتنظيم «القاعدة». وطبعاً القصة معروفة كيف تطور عمل القاعدة وخرج من رحمها تنظيم «داعش» الذي أخذ الأيديولوجية السلفية الجهادية المتطرفة من «القاعدة» والأساليب الوحشية من بقايا ضباط نظام صدام حسين. طبعاً يلعب الفقر والجهل دوراً أساسياً في توفير بيئات حاضنة للتطرف، فيما لعبت كذلك أزمة الهوية العربية والإسلامية والمخاوف من فقدانها بسبب التغريب والتحديث دوراً في تعبئة بعض المسلمين الخائفين على الإسلام، فارتدوا إلى السلفية الطهرانية التي تدعو إلى العودة إلى إسلام السلف الصالح الخالي من الشوائب والتحريف والبدع، وهي مدرسة ترفض التأويل العقلي وتصر على التفسير الحرفي الظاهري للنصوص. وأعتقد أن التأثير الفكري للسلفية الجهادية له أكبر التأثير في الشباب الذين يأتون إلى سوريا والعراق وليبيا وسيناء وبلاد المغرب العربي وغيرها للقتال ضد من يعتبرونها أنظمة أو شعوبا كافرة. وهكذا فإن هؤلاء الشباب الميسوري الحال، أو ربما المتعلمين قد يتأثرون بهذه الأفكار نتيجة فهم فاسد وخاطئ للإسلام تارة، أو شعورهم بإحباط وتهميش وضياع الهوية بفعل سياسات العولمة في الغرب تارة أخرى.

غياب الحرية

يقول مزاحم: على الرغم من محاولات التحديث الظاهري التي قامت بها بعض الأنظمة خلال نحو 60 عاماً بعد الاستقلال، فانها لم تتمكن من ولوج طريق الحداثة بمعناها الحقيقي المرتكز على بنى مفاهيمية ثقافية.
وإذا أخذنا أمثلة على ذلك الفشل، ما يجري في تونس وسوريا والعراق، وهي دول حكمتها أنظمة زعمت أنها علمانية وتقدمية، نراها اليوم غارقة في صراعات مذهبية ودينية، وذلك بسبب غياب المفاهيم الحداثية الحقيقية القائمة على الحرية والديموقراطية والتعددية والشفافية والمحاسبة.
وكما يقول الفيلسوف كانط عن الشروط المطلوبة للتنوير «إن لا شيء مطلوبًا سوى الحرية، أي تلك التي تُقبِل على استخدام علني للعقل في كل الميادين». أي إذا وجدت الحرية تحرر العقل. وهذه هي بداية الطريق إلى الحداثة.
وأوروبا لم تصل إلى الحداثة في خلال قرن فقط، بل بدأت رحلتها نحوها عبر خمسة عقود منذ القرن الخامس عشر، فترافقت عوامل عدة فكرية ودينية وعلمية واقتصادية وسياسية أدت إلى الحداثة، بدءاً من صناعة المطبعة ومروراً بفصل الدولة عن الكنيسة، وصولاً إلى الثورات العلمية والسياسية والاجتماعية.

المصدر: صحيفة القبس الكويتية

Optimized by Optimole