نظرية الثورة عند حنّة أرندت

Spread the love

بقلم: د. هيثم مزاحم* —

المفهوم الحديث للثورة، بحسب حنة أرندت، يرتبط “ارتباطاً لا انفصام له بالفكرة التي تقول إن مسار التاريخ قد بدأ من جديد فجأة، وبأن قصة جديدة تماماً، قصة لم تروَ سابقاً ولم تعرف قط، هي على وشك أن تظهر”.

hanna

الكتاب: في الثورة —
المؤلف: حنّة أرندت – –
ترجمة: عطا عبد الوهاب، ومراجعة رامز بورسلان – –
الناشر: المنظمة العربية للترجمة ومركز دراسات الوحدة العربية — بيروت – – 2014 — 447 صفحة.

قراءة: د. هيثم مزاحم* — كتاب “في الثورة” للباحثة والفيلسوفة الألمانية – الأميركية حنّة أرندت، يتحدث عن الثورة بشكل عام، عن ماهيتها وأفكارها ونتائجها، وعن الثورتين الفرنسية والأميركية والفرق بينهما. يحاول الكتاب الذي نشر لأول مرة عام 1963 تشريح ظاهرة الثورة تشريحاً علمياً دقيقاً واستعراضها باعتبارها إحدى الظواهر التي حددت ملامح القرن العشرين. وفيه تنظر أرندت فيالمبادئ التي تقع في أساس الثورات جميعها بدءاً من الأمثلة الكبرى الأولى في أميركا وفرنسا، مروراً بكيفية تطوّر نظرية الثورة وممارستها، ووصولاً إلى توقعات التغيير في العلاقة بين الحرب والثورة وما ينتج عن هذا التغيّر على صعيد العلاقات الدولية.

في معنى “الثورة” Revolution
كلمة ثورة Revolution كانت تعني في الأصل أمراً مختلفاً باللغة اللاتينية. أصل الكلمة قد نشأ في علم الفلك واستخدم على سبيل التشبيه في السياسة. في تعريفها للثورة تشير حنّة أرندت إلى أنه مصطلح قديم نسبياً ولم يكتسب معناه الجديد إلا ببطء وتؤدة. تقول إن الكلمة (revolution) يعود استخدامها الأصلي لدورة الفلك، أي إلى دورات الكواكب التي لا يمكن تغييرها أو تبديلها أو حتى التأثير عليها، وعندما نقلت إلى المجال السياسي، كان معناها تعاقب الحكومات والدول في دورة لا يمكن للبشر تبديلها وتغييرها. وحين نزلت كلمة “الثورة” من السماء لأول مرة وأدخلت في الاستعمال لتصف ما حدث على الأرض بين بني البشر الفانين، فقد بدت بوضوح كمجاز أو استعارة، وهي تحمل الفكرة التي تفيد بحركة أزلية متكررة باستمرار لتقلّبات المصير الإنساني صعوداً وهبوطاً، والتي شُبهت بالشروق والغروب للشمس والقمر والنجوم منذ الأزل. وعندما نجد أن الكلمة لأول مرة في القرن السابع عشر تعني مصطلحاً سياسياً، فإن المحتوى المجازي كان أقرب للمعنى الأصلي لها، ذلك أنها استخدمت لحركة تدور عائدة إلى نقطة ما، محددة مسبقاً، فترتد إلى نظام مسبق التكوين.
فكلمة الثورة كانت تعني في الأصل إعادة السلطة، فثورات القرنين السابع عشر والثامن عشر والتي تبدو لنا ذات روح جديدة، روح العصر الحديث، إنما كانت ترمي إلى إعادة السلطة إلى أصحابها. وحتى عندما ثار كرومويل وذبح ملك إنجلترا، لم تسمّ هذه الحادثة بثورة، بل كانت استعادة الملكية هي التي سميّت ثورة.

مصطلح الثورة
لا بدّ من العودة إلى اللحظة الأولى التي استخدمت فيه كلمة “ثورة” بهذا الإسم. في 14 يوليو 1789 سقط سجن الباستيل في باريس. وحين سمع الملك الفرنسي لويس السادس عشر من رسوله ليانكورت بسقوط الباستيل وتحرير بضعة سجناء منه، وتمرد القوات الملكية قبل وقوع الهجوم الشعبي، قال الملك في وجه رسوله “إنه تمرد”، فصححه ليانكورت قائلاً: “كلا يا صاحب الجلالة، إنها ثورة!” حين قال لويس السادس عشر إن اقتحام الباستيل هو تمرد، كان يؤكد على سلطته وعلى الوسائل المختلفة بين يديه لمواجهة المؤامرة والتحدّي الواقع على سلطانه.
تقول حنة أرندت: “إننا هنا نسمع الكلمة وهي لم تزل بالمعنى المجازي القديم وهو معناها الذي يفيد بأنها من السماوات إلى الأرض، وفقاً للمجاز القديم، ولكننا لأول مرة، نجد أن التأكيد قد انتقل كلياً من شرعية حركة دائرية متكررة إلى الأمر الذي لا يقاوم”. وتتساءل بشأن جواب ليانكورت قائلة: “ما الذي علينا أن نراه أو نسمعه عند الإصغاء لذلك الحوار الغريب، والذي ظن ليانكورت أنه يتعذر تغييره وهو خارج عن سلطة ملك، نعرف نحن، أنه لا يقاوم ويتعذر تغييره؟”.
الجواب بسيط يمكننا أن نسمع ونرى حشود الناس في مسيرتها وكيف اقتحمت شوارع باريس، وكذلك هيجان الأهالي في المدن الكبرى وانتفاضة الشعب من أجل الحرية. اعتبرت الثورة، كسيل، كتيار جارف، كأمر لا يقاوم، بألسنة الفاعلين فيها، الذين لم يعتبروا أنفسهم فاعلين حقاً. كان الفاعلون أنفسهم يشعرون أن هناك ثمة قوة أعظم من قوة الاستبداد تقف بين المرء وحريته سميّت لاحقاً باسم “الضرورة التاريخية”.

الحرية والتحرّر
المفهوم الحديث للثورة، بحسب حنة أرندت، يرتبط “ارتباطاً لا انفصام له بالفكرة التي تقول إن مسار التاريخ قد بدأ من جديد فجأة، وبأن قصة جديدة تماماً، قصة لم تروَ سابقاً ولم تعرف قط، هي على وشك أن تظهر”. هذا المفهوم لم يكن معروفاً قبل اندلاع الثورتين العظيمتين الفرنسية والأميركية في نهاية القرن الثامن عشر. أما عقدة هذه الحكاية الجديدة فهو ظهور الحرية. وقد عبّر عن ذلك أحد منظري الثورة الفرنسية، جان أنطوان نيكولا دو كاريتا كوندورسيه، بقوله: إن كلمة ثورة “لا تنطبق إلا على الثورات التي يكون هدفها الحرية”.
تقول أرندت: “إن من الأمور الجوهرية جداً إذاً، في أي فهم للثورات في العصر الحديث أن تتزامن فكرة الحرية مع التجربة لبداية جديدة. وبما أن الفكرة الحاضرة للعالم الحر هي أن الحرية، وليست العدالة والعظمة، تمثّل المعيار الأعلى للحكم على الهيئات السياسية، فإنه ليس فهمنا للثورة وحده، بل مفهومنا كذلك للحرية الذي هو ثوري الأصل، هما اللذان عليهما يتوقف قبولنا ورفضنا لذلك التزامن”.
وتنفي أرندت إمكانية تشبيه الثورات ــ بتعريف أفلاطون لها ــ بأنها تحوّل شبه طبيعي في شكل من أشكال الحكومة إلى شكل آخر. وهي ليست مجرّد تغيير، بل هي بداية جديدة لتاريخ لم يكن معروفاً قبل الثورتين الأميركية والفرنسية. كانت العصور القديمة على معرفة بالتغيير السياسي والعنف الذي يصاحب التغيير، لكنها لم تكن ترى أن هذا التغيير والعنف من شأنهما أن يأتيا بشيء جديد تماماً.
وترى أرندت أن الشيء الحديث، والمميّز والجديد في الثورتين الأميركية والفرنسية هو “ظهور الحرية”، ولا يمكن التفكير في أي ثورة من دون الانطلاق من هذا التزامن بين بدء تجربة جديدة وبين الحرية. وهي تفرّق بين “الحرية” و”التحرر”. فهما ليسا مثل بعضهما. فالتحرّر (liberty) قد يكون هو شرط الحرية (Freedom)، ولكنه لا يقود إليها آلياً. وفكرة الحرية التي ينطوي عليها التحرّر لا يمكن أن تكون إلا سلبية. فحتى النية بالتحرّر لا تتشابه مع الرغبة في الحرية.
والحرية المقصودة هي الحرية السياسية، وهي ما قصده كوندورسيه والثوريون الفرنسيون حين زعموا أن الثورة تهدف إلى الحرية وأن مولد الحرية شكّل بداية لحكاية جديدة تماماً، فعلينا أن نلاحظ أولاً أنهم ما كان بوسعهم أن يفكروا فقط بتلك الحريات التي نربطها اليوم بالحكومة الدستورية، وهي الحريات التي تدعى الحقوق المدنية. ذلك أن ما من حق من تلك الحقوق كان نظرياً أو عملياً نتيجة للثورة، ولا حتى حق المشاركة في الحكومة الذي يتطلبه دفع الضرائب.
هذه الحرية هي حصيلة الحقوق الأساسية الثلاثة، التي منها تتفرع كل الحقوق: الحياة، الحرية، الملكية. وأغلب الثورات جاءت من أجل استرداد هذه الحقوق، والاسترداد هنا يأتي بمعنى أنها حقوق تولد مع المرء. إن الذي نتج عن الثورة ليس الحياة والحرية والملكية ذاتها بل كونها من حقوق المرء التي لا يمكن تحويلها إلى غيره. فالحرية لا تعني سوى التحرّر من الكبح الذي لا مبرّر له، أي القدرة على التنقل والتجمع للمطالبة بالحقوق، والتحرّر من الحاجة والخوف. إن كل هذه الحريات هي نتائج للتحرّر، لكنها ليست المحتوى الحقيقي للحرية، والذي هو المشاركة في الشؤون العامة أو الدخول في الميدان العام. والثورة هدفت إلى ضمان الحقوق المدنية وكذلك إلى التحرّر من الحكومات التي تجاوزت سلطاتها وانتهكت الحقوق القديمة والثابتة.
يقول الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو في مقدمة “العقد الاجتماعي”: “يولد الانسان حراً، فيوجد مقيّداً في كل مكان”.
هذه الرؤية للحقوق، وأنها مرتبطة بالولادة، وأن الناس قد ولدوا متساوين فأصبحوا غير متساوين بسبب المؤسسات الاجتماعية والسياسية التي صنعها الإنسان هي فكرة حديثة. فالمساواة في الدولة – المدينة الإغريقية لم تكن من صفات البشر حازوها بسبب الولادة بل بسبب المواطنة. فهي قامت على فكرة أن الناس غير متساوين، وأنهم حتى يتساوون، فهم بحاجة إلى مؤسسات سياسية وقانونية تقوم بتنظيم ذلك. فهي مساواة أمام القانون وهي بين نظراء.
إذاً التحرّر(Liberty) هو استعادة الحقوق الأساسية الثلاث، الحياة والحرية والملكية، بينما الحرية(freedom)، هي المشاركة في الشؤون العامة، أي في العمل العام والميدان السياسي، وهي هنا إيجابية. في حين أن التحرّر هو التخلّص من الاضطهاد، أي أنه سلبي.
والثورة ــ بحسب أرندت ــ تشتعل شرارتها الأولى بالعنف. ولكن العنف لا يكفي لوصف ظاهرة الثورة، وإنما التغيير هو الوصف الأجدر بها؛ ولا يمكننا الحديث عن الثورة إلا عندما يحدث التغيير ويكون بمعنى بداية جديدة، وإلا حين يستخدم العنف لتكوين شكل مختلف للحكومة لتأليف كيان سياسي جديد، وإلا حين يهدف التحرّر من الاضطهاد إلى تكوين الحرية. والروح الثورية ليست شيئاً سوى التوق إلى التحرّر وإلى بناء بيت جديد حيث يمكن أن تستوطنه الحرية.

الثورة والتمرد
تميّز أرندت بين الثورة والعصيان والتمرد فتذكر أن هاتين الكلمتين الأخيرتين لم تشيرا قط إلى التحرير كما تفهمه الثورات، كما لا تشيران أبداً إلى تأسيس حرية جديدة. كل ظهور جديد للناس، كل فكرة جديدة تحدث تأثيراً مدوياً تحتاج إلى كلمة جديدة، سواء جرت صياغة كلمة جديدة للتعبير عن التجربة الجديدة، أو تم استخدام كلمة قديمة وجرى إعطاؤها معنى جديداً تماماً.
كانت الكلمات التي تخطر على البال لوصف الثورة هي العصيان Rebellion أو التمرد Revolt. ومعناهما قد تحدد ومعروف منذ العصور الوسطى المتأخرة. ولكن هاتين الكلمتين لم تشيرا أبداً إلى تأسيس حرية جديدة. كانت النظرية في القرون الوسطى تعرف العصيان المشروع، والنهوض ضد السلطة القائمة، وتعرف التحدي والتمرد. ولكن الهدف من كل هذا لم يكن اعتراضاً على السلطة أو النظام القائم، بل كان دائماً تبادلاً مع الشخص الذي في السلطة، كتبادل المغتصب بالملك الشرعي أو تبادل المستبد الذي أساء استخدام سلطته بالحاكم القانوني.
وعلى الرغم من وجود “كلمات كثيرة في اللغة السياسية ما قبل الحديثة لوصف انتفاضات الرعايا ضد حاكم من الحكام غير أنه لا توجد كلمة تصف تغييراً راديكالياً… بحيث يصبح الرعايا أنفسهم هم الحكام”. كانت الانتفاضات القديمة، إن حدثت، تستبدل حاكماً سيئاً، بحاكم جيد، لكن لم تقد يوماً لأن يتحوّل العامة أنفسهم إلى حكام. كان الشعب في السابق يستطيع تحديد من الذي لن يحكمه، لكنه أبداً لم يحدد من الذي سيحكمه.
تقول أرندت إن ما يجب أن يعيه القائمون بالثورة هو حقيقة أن الثورات أكثر من تمردات ناجحة، فليس لدينا ما يبرّر تسمية كل انقلاب يجري بأنه ثورة ولا أن نلتمس ثورة في كل حرب أهلية تحدث. كما تميّز الباحثة بين الثورة الحقيقية والانقلابات وثورات القصور حيث تنتقل السلطة في هذه الأخيرة من رجل إلى آخر ومن زمرة إلى أخرى، وهي لم تكن تثير الكثير من المخاوف لأن التغيير الذي تجريه يكون محدوداً في نطاق الحكومة وليس فيه إلا الحد الأدنى من الاضطراب للناس.
فالقرون الوسطى عرفت العصيان والتمرد، لكنها لم تعرف أبداً الثورة. وميكيافيلي، لم يستخدم هذه الكلمة قط. وعلى الرغم من الاضطرابات التي كانت تحدث في وقته في الدول- المدن الإيطالية، إلا أن أياً منها لم يكن ثورة، بمعنى التحرّر المتجه نحو تأسيس الحرية. إن تلك الاضطرابات كانت تشير على العكس، إلى نهاية عصر الدول- المدن، لا إلى بداية جديدة. ولمعرفة بداية ظاهرة تاريخية مثل الثورة، فإن أحد الطرق المؤدية إلى ذلك هو معرفة اللحظة التي تم توليد كلمة تشير إليها، سواء كانت كلمة جديدة، أو توليد معنى حديث لكلمة قديمة.
إن الحروب والثورات قد حددت ملامح القرن العشرين، كما لو أن الأحداث لم تفعل سوى الإسراع في تحقيق نبوءة لينين المبكرة. والعلاقة بين الحرب والثورة ليست ظاهرة جديدة، بل هي قديمة قدم الثورات ذاتها، والتي كانت إما مسبوقة ومصحوبة بحرب للتحرير كالثورة الأميركية، وإما أدت إلى حروب دفاعية وعدوانية كالثورة الفرنسية. ومع أنه من الضروري التمييز نظرياً وعملياً بين الحرب والثورة، على الرغم من العلاقة المتبادلة الوثيقة بينهما، فإنه يجب علينا ملاحظة أن الثورات والحروب لا يمكن تصوّرهما خارج ميدان العنف، وهذا وحده كافٍ لوضعهما كليهما بعيدين عن الظواهر السياسية الأخرى. ومن أسباب الميل المشؤوم الذي أظهرته الثورات لاندلاع الحروب، هو أن العنف نوع من أنواع القواسم المشتركة بينهما. إن صلة مشكلة البداية بظاهرة الثورة هي صلة واضحة. وهذه البداية لا بد أن تكون متصلة اتصالاً وثيقاً بالعنف، منذ بدايات التاريخ، كما يرويها التراث التوراتي والكلاسيكي: مثل قابيل قتل هابيل. وظهر المعتقد القائل: في البدء كانت جريمة، وما عبارة “حال الطبيعة” سوى صياغة جديدة مخففة نظرياً لهذا المعتقد.
تقول أرندت إن الثورة بداية جديدة عنيفة، وإن كل عناصر البدء والجدة لم تتوافر لا في أذهان القائمين عليها، ولا في المعنى الأصلي للكلمة ولا في استعمالها المجازي الأول في اللغة السياسية. فالرجال الذين قاموا بالثورتين الفرنسية والأميركية، لم تكُ فكرة الجدة ماثلة في رؤوسهم.
إن إعطاء القيمة للجديد، بما هو جديد، والبحث عن الجدّة لذاتها، لم يكن محبباً في الماضي كما هو في أيامنا. إن رجال الثورات، لم يكونوا يبحثون عن أكثر من “إعادة الأمور إلى نصابها”، أي محاولة العودة إلى الحالة التي سبقت الملكية المطلقة ومساوئها. إن تحوّل مسار الثورة من كونها مجرّد “استعادة”، إلى خلق جديد، إلى بداية جديدة، إلى قصة لم تكتب بعد، حدث في نقطة في الزمن لم يعد باستطاعة الثوريين العودة إلى الوراء، أي أنها حصلت على الرغم منهم.
فرجال الثورة الأميركية كانوا يفكرون باستعادة الحريات القديمة ونظرياتهم الخاصة بالدستور البريطاني وما فيها من حقوق الإنسان، حتى انتهت أشكال الحكومة الاستعمارية بإعلان الاستقلال. فالثورة لم تكن مقصودة حتى أن بنيامين فرانكلين كشف أنه لم يكن هناك أحد يرغب بالانفصال عن بريطانيا أو يعتقد أن ذلك سيكون نافعاً لأميركا. وكلام المؤرخ الفرنسي أليكسي دو توكفيل عن الثورة الفرنسية بأن المرء يعتقد أن هدف الثورة القادمة لم يكن الإطاحة بالنظام القديم بل استعادته.

الثورة والمسألة الاجتماعية
تقول أرندت إن لا أحد يمكنه أن ينكر الدور الكبير الذي أدته القضية الاجتماعية في الثورات كلها. فمن لا يذكر أن أرسطو، حين بدأ يفسّر تعريف أفلاطون كان قد اكتشف ماهية ما نسمّيه اليوم الواقع الاقتصادي – قلب الحكومة من قبل الأغنياء لتأسيس حكومة أوليغاركية من قلة من المستغلين، أو قلب الحكومة من الفقراء لإقامة ديموقراطية. وتضيف أن العلاقة بين الثروة والحكم في أي قطر من الأقطار، والإدراك بأن أشكال الحكم مرتبطة بتوزيع الثروة، وأن الشبهة بأن السلطة السياسية قد تتبع ببساطة السلطة الاقتصادية، وأن المصلحة قد تكون القوة الدافعة وراء الخصام السياسي بكل أشكاله، كل هذه الأمور ليست بالطبع من اختراع كارل ماركس، ولا من اختراع هارينغتون الذي قال “إن السلطان هو الملكية، سواء أكانت عقارية أو شخصية”. ولا هي من اختراع روهان الذي قال “إن الملوك يقودون الناس، والمصلحة تقود الملوك”. فأرسطو كان أول من قال: “إن المصلحة التي هي مفيدة لشخص أو مجموعة من الناس، هي الحاكم الأعلى في الأمور السياسية، وينبغي أن تكون كذلك”.
وترى أرندت أن الانقلابات والانتفاضات التي حفّزتها المصلحة، والتي كان ينبغي أن تكون عنيفة ودموية جداً إلى حين إقامة نظام جديد، قد اعتمدت على التمييز بين الفقراء والأغنياء، والذي كان بذاته أمراً طبيعياً ولا مناص منه في الكيان السياسي. فالمسألة الاجتماعية إنما بدأت تؤدي دوراً ثورياً في العصر الحديث، وليس قبله، وذلك عندما بدأ الناس يشككون في أن الفقر هو مسألة طبيعية كامنة في الظرف الإنساني، ويشككون في أن التمييز بين القلة التي نجحت بحكم الظروف أو القوة أو الغش بتحرير نفسها من أصفاد الفقر، وبين الكثرة العاملة والمصابة بالفقر هو تمييز محتّم وأزلي. إن هذا التشكك أو الاعتقاد بأن الحياة على الأرض يمكن أن تنعم بالوفرة الغزيرة بدلاً من أن تلعن بالندرة النزيرة، هو تشكك جرى قبل العهد الثوري، وهو أميركي الأصل، فقد ترعرع خلال التجربة الاستعمارية الأميركية.
إذا إنه استيطان أميركا الذي أعد للثورات بالمعنى الحديث القائل بالتغيير الكامل للمجتمع، وذلك عندما كتب جون أدمز قبل اندلاع الثورة الأميركية قائلاً: “إني أرى أن استيطان أميركا واستقرارها هو بمثابة فاتحة لمخطط عظيم بعناية إلهية وذلك لتنوير الجاهلين ولانعتاق المستعبدين من البشر في ارجاء الأرض كلها”.
إن أميركا قد أضحت رمزاً لمجتمع لا فقر فيه قبل أن يكتشف العصر الحديث، بتطوّره التقني الفريد، وسائل إلغاء ذلك الشقاء المهين الناجم عن الحاجة المحض التي كانت تعتبر دائماً أزلية. فتأسيس تلك المستوطنات في تلك الأراضي ذات الوفرة، قد جسّد أمام أعين الأوروبيين حقيقة واقعة لمجتمعات لا فقر فيها. هذه المساواة التي تحققت بشكل طبيعي وعضوي في العالم الجديد، بدا أن تحقيقها في العالم القديم لم يعد ممكناً دون العنف والثورة الدامية. إن الوصول بنسيج المجتمع إلى المرحلة التي وصلت إليها أميركا قبل الثورة الأميركية، لهو الأمل الذي حرّك كل الثوريين لاحقاً، لا النظام السياسي وتغييره الذي حدث بعد هذه الثورة.
لقد غدت القارة الجديدة مأوى الفقراء ومقر اجتماعهم، إذ شدتهم الخيوط الحريرية لحكومة معتدلة، وهم يعيشون في ظل ظروف مريحة أزيلت منها مقولة إن “الفقر المطلق أسوأ من الموت”، بحسب كريفيكور الذي كان معارضاً شديداً للثورة الأميركية التي اعتبرها نوعاً من المؤامرة من شخصيات كبيرة ضد طبقة الأفراد العاديين. لهذا السبب توصّل بعض المؤرخين والثوريين إلى نتيجة قائلة: أنه لم تحدث ثورة في أميركا. وهذا الرأي هو الذي تحاربه أرندت، بطريقة مباشرة. وتقول إن كل المقدمات التي منها يتم الوصول إلى نتيجة عدم حدوث ثورة أميركية، إنما وضحتها حقيقة الثورة نفسها، ذلك “أن الحقائق معاندة، إنها لا تختفي حين يرفض المؤرخون وعلماء الاجتماع أن يتعلموا منها”.

*د. هيثم مزاحم رئيس مركز بيروت لدراسات الشرق الأوسط، باحث في الشؤون العربية والإسلامية والدولية، له مقالات ودراسات في صحف ومواقع ودوريات عربية وأجنبية، نشر عدداً من الكتب وشارك في عشرة كتب عن الحركات الإسلامية والجهادية.

المصدر: الميادين نت

Optimized by Optimole