مسلسلات البيئة الشامية … لا، ليست نحن!

Spread the love

ليس في أعمال البيئة الشّاميّة إلا الغضب والإهانة والقتل والذكوريّة، ولا شيء يجمعها بأخلاقنا الدينيّة ومجتمعنا العربي.

بقلم: طارق قبلان* | تحظى الأعمال التلفزيونية التي تتناول البيئة الشامية، وتبثّها الشاشات المحلية والفضائيّات العربيّة، بنسبة كبيرة من المُتابعة في أوساط الجمهور، بالرّغم من ضعف المستوى الإبداعيّ في تلك الأعمال، إذ تأتي عادية ومُقتصرِة على ترسيمة تكاد تكون مُكرّرة، من دون أيّ تجديد في زاوية النّظر والصياغة والإخراج وحتّى الممثلين، في وقتٍ يدور فيه جدلٌ حول حقيقة انعكاس البيئة الشامية في الأعمال الدراميّة التي تحمل إسمها.

تُقوم بنية العمل على حارة شبه مُنعزِلة بالفعل، مُكتفية بناسها وحياتها، يتزعّمها رجلٌ شديد صارِم، يُحيط به “الكْبَاريِّة”، وفي عدادهم الشيخ، ولا يغيب عن المشهد الجاسوسُ العامِل لصالح المُحتلّ الفرنسي. وعلى هامش حياة الحارة ثّمة “ثوّار” مناوئون للمُحتلّ الفرنسيّ في أغلب الأحيان.

زعيم الحارة
الزعيم صاحب الكلمة الفَصْل في شؤون الحارة حيناً، لكنّه مغلوب على أمره حيناً آخر. وهو صاحب المال الكثير في أحيانٍ كثيرةٍ فيما يُصبح البعض أغنى منه حين يُراد للزّعيم أن يُهضم أو أن يَلجأ إلى خيار غير صائِب، كما هو الحكيم إلا أن يُراد إيقاعه في مشكلات لا يجب أن يتحمّل مسؤوليتها، بالرّغم ممّا يفترضه الكاتب ابتداءً من حكمة وثروة وقوّة.

يحتكر زعيم الحارة السّلطة والثروة في العادة، ويُشكّل مع الأعضاوات طبقة من الأرستقراطيين والبرجوازيين المحليّين، ويمنّ على مَن يشاء بالمساعدات المختلفة، خصوصاً الطعام والشراب، وربّما أغدقَ على المحظوظين المال لتغطية تكاليف الزواج. لكنّه في أحيان ينزلق وراء مُحاباة أو قرابة أو اشتباه بما يُناقِض زعامته وقدرته على الحُكم أو الاستشراف أو الحَزْم.

لذلك لا يبدو الزعيم عموماً ذا سلوك متوازِنٍ على الدوام، فقد يبدر منه الغضب والمواقف المُتشنّجة تجاه أحد أفراد الحارة على خلفيّات مُتنوّعة، فيما قد يبدو في بعض الأحيان مُغفّلاً لا بَداهة لديه ولا منطق يقيه الهفوات والسّقطات القاتِلة التي لا يُصلحها إلا مُخرج العمل بطريقةٍ قسريّةٍ وبتطوّرٍ دراميّ فاشِل! لكنّ الزعيم يبقى بالرغم من كلّ شيء زعيماً مُبايَعاً بالروح والدّماء لأنّ الراجِح أنّ الزعامة والعمَادة ومراتب السلطة تُشكّل حالة محورية في العقل العربيّ حتّى لدى أولئك الذين نالوا حظّاً من حياة الحَداثة وتربيتها.

الكْبَاريّة
كْبَاريّات الحارة أو “الأعضاوات” هم الذين يُشكّلون المجلس المحليّ البطريركيّ في مجتمع الحارة التقليديّ المُحافِظ، وهم من أصحاب المِهَن كالحلاّق وبائع الخضراوات ومالِك القهوة، وصاحب الحمَّام…ومُهمّتهم – وفق الظاهر – تتمثّل في ترديد قول الزّعيم واستعظام ما قال وما فعل، ثمّ دعوة النّاس إلى الذهاب في سُبُلهم وترك المُعالجات في المجال العام للزعيم ومَن ينتخب من رجال الحارة…

شيخ الحارة
أمّا شيخ الحارة في الأعمال الشاميّة فوديعٌ، ولا نعرف مقدار طيبته؛ فحياته مغمورة وغير واضحة المعالم، ولا نجده في عملٍ واحدٍ وسط عائلته الصّغيرة أو الممتدّة، ولا يأتي إلا على “الندهة” و”الفزعة”، خصوصاً إذا جاء النداء من الزّعيم، فيُهرع الشيخ ملبيّاً، ثاني عطفيه، مهرولاً…

يدخل شيخ الحارة ومُرشدها الشرعي والروحي في المؤسّسة الحاكِمة لا موازياً للدنيويّ الزمنيّ وإطاره السياسيّ والإداريّ بل تابعاً ضعيفاً، لا سلطان له ولا للكلمة التي يحمل أمانتها، ولا دور يؤدّيه ـ على ما يبدو ـ فهو من النوع الحياديّ الذي لا يُضيره في المبدأ أن يدع لقيصر ما له وما لله أيضاً، إذ نجده في عددٍ من المواقع من دون حضور بيِّن، حيث لا يُحسِن التّعبير عن نفسه أو عن الحُكم الشرعيّ للواقعة التي يناقشها كبار الحارة، وربّما التزم الصّمت وهو يرى الزعيم يرمي حكمه غير السّديد، حتى ليكاد يقتصر دوره على الحوقلة والترجيع عند كلّ أمرّ بسيطٍ استعظمه أو جَلَلٍ استحق كلمة التقوى، لكنّه “بما استُحفظ من كتاب الله” لا يملك رأياً سديداً، ولا قولاً رشيداً، ولا كلمة فصلاً، إلا بعد أن يُتحفنا الزعيم – السّفيه الأرعن بغضبته وعصبيّته وتهديدات القتل لردع الخصم أو غسل الشرف لشُبهة أو وَهْم أو فساد في فَهْم الحُكم الشرعي، من دون إيضاح من رجل الدين “الهلفوت”…

فسقف الشيخ كلام الزعيم، وسقف الزعيم رتيب المخفر في مفارقة لصورة الزعيم المؤسطرة في الأعمال الشامية!

فإن سأل سائِل عن العالِم فلن يجد صفاته وميزاته في شيخ الحارة الشاميّة، فالذي يؤتى ولا يأتي عالم لا ينتمي إلى عالم هذا النوع من الأعمال.

الداية
ثم تأتي الداية المُختصّة بعُقم النساء والرجال والثرثارة، فتظهر خبيرة في فنون الطبّ والمُداواة والتحاليل المخبرية، إذ تُجري الكشوفات المختلفة، وتصف الأدوية الشافية، وتُحدّد بشكل “متطوّر” الشخص المُبتلى بالعقم، سواء أكان الزوج أم الزوجة.

ثمّ هي ثرثارة، مولَعة بالغيبة والنميمة والأمراض الأخلاقية التي حذّر منها الدين والتقاليد العربية، بل قد تُشارك في بعض الإجراءات المُنافية لمهنتها الشريفة، فتسبّب في الأذى لمَن ائتمنها على أسرار جسده أو علاقته أو بيته…والأسباب الداعية إلى ذلك كثيرة، والتبريرات كثيرة، وإن لم تك مُقنعة!

مسلسلات البيئة الشامية … لا، ليست نحن!

الجاسوس
والجاسوس في حارات الشام المُتخيّلة ذو حضور طاغٍ، ويحضر فجأة من دون استئذان أو خلفيّة تُبرّرها الأحداث وتطوّرها، بالرّغم من أنّ مجتمع الحارة ضيّق ومحافِظ، ثمّ لا يُسأل عن أصل أو فصل بل يحظى برعاية واستيعاب وإدماج، ويتنافس الكْبَاريّة على تقديم الخير له، لتكون المعلومات في متناوله من دون أيّ جهد كبير….ولا شيء يسترعي الانتباه لدى جماعة من أصحاب الذكاء المُنخفِض الذين يشكّون في بعضهم البعض ولا يشكّون بالوافِد الذي دخل حيَّزهم الخاصّ، ولم يختبروه في موقف أو عمل، ثم يُبسطون له في المقال والمال والأسماء.

المقاومون
أما المقاومون فحاضرون في مكانٍ ما من الرّيف لا يُعرَف إن كان بعيداً أم قريباً من الحارة، التي يُفترض أن تكون حيًّا مدينيّاً، لكنها تبدو في بعض الأحيان حيّزاً ريفياً، ويعتاشون على إعانات أهل الحارة…..تمرّ كلمة فلسطين في حواراتهم من دون معنى، ويتناقشون أمور الحارة، ولا نجد إلا توعّد الفرنساوي بعملٍ تقوم له الدنيا ولا تقعد، لكنّه لا يأتي!

إقرأ أيضاً : أفضل المسلسلات الأجنبية في التّاريخ بين يديك…..

العامّة من النّاس
أمّا العامّة فلا يجدون إلا الانصياع لأوامر الزعيم وحاشيته، ولو صدرت أوامره عن سوء تقدير وتسرّع وشيء من الحقد الذي لا يبدو جليّاً في أغلب الأحيان بل تغلّفه المصلحة العامة.
وتدور الأحداث في فضاء تحدّه أسوار الحارة وبابها الذي يُشكّل سبيلها إلى العالم الخارجي وشريانها الحيويّ، وإن لم يؤمّن لها الحماية في كثيرٍ من الأحيان إذ تبدو مُختَرقة وعُرضَة للسرقة والاعتداء…

باب الحارة
ويقدّم باب الحارة هذا الحرص البطريركيّ على التحكّم وحماية ما يُعتَبر من المقدّسات كأبناءِ الحارة وحيواتِهم الداخلية، لكنّه يفشل في أغلب الأحيان والأوقات في حماية ذلك بالرغم من محاولات الضبط اليائسة.
إنّه الباب الذي يحمي الفضاء الداخلي للحارة ومجتمعها، ويُشارك في ضبط الحركة والعادات والأمن الداخليّ، وعليه ينصبّ جهد الحاراتيين حمايةً ورعايةً. لذلك نجد “الزعيم” يُكرّم حارس البوابة في الحارة الشاميّة بالمال أو الثناء الجميل، ويُشدّد عليه في كلّ مرّةٍ أن يُبقي عينيه يقظتين أثناء نوبة الحراسة. لكنّ ذا الحظّ العاثِر يفشل في كلّ مرةٍ في إنفاذ مهمته العظيمة والمُقدّسة فـ”بياكل الضرب”، وربّما جُرِّد هذا الحارس “الهُمام” من ثيابه لتُصبح الحارة مكشوفة الرأس والظهر والعورة، وربما يُقتل. والعجيب أنّ تشديد الحراسة على بوابة الحارة المُنتهَكة حرمتها، في كلّ مرّة، لا يتطلّب من الزعيم “الفطحل” سوى تشديد الكلام على الحارس الفرد لا سواه، من دون زيادةٍ في عددٍ أو عتادٍ. ويبقى الحارس الحلقة الأضعف في الطّوق الأمنيّ، بالرّغم من أنّ الزعيم هو السلطة وصاحب الرأي والقيادة والقدرات، لكن لا جرم عليه ولا غرم. وعلى صِغر الحارة لا يستطيع الزعيم ذو الشنبات أو العقيد وزبانيتهما تأمين سلامة الحارة ولا يتادولون أيّة معلومة تبيّن مسار اللصوص وكيفية اختراقهم للحارة، لا بل الزعيم أشبه ما يكون بالسَّفيه في كلّ مرة يبحث فيها عن حلّ لردع المُغتصِب الخارج على القانون، فيأخذ الأمر منه زمناً حتى يُدير الفكرة في رأسه ويُمخمخ فيها، فيما مجلس أعضاوات الحارة من الحلاق والإسكافي و… يوافقه وينقلب على الرأي الصائب من دون ملامة أو عُذر، فتغرق الحارة على مدى عشرات الحلقات في دورةٍ من الضَحالة والفقر الفكري والكتابي والدرامي والإخراجيّ، حتى يكاد مسلسل البيئة الشامية يكون مُتخصِّصاً في تبليد الذهن وتفكيك العلاقات الدلالية، فيفقد اللفظ معناه، والحركة هدفها، والدلالة ترابطها، ليخدم العمل الفني اللامعنى، وليس يُدرينا إن كان اللامعنى هو المقصود تحديداً!

ما السبب في تحقّق المتابعة إذاً؟
قد يكون السبب الأساس هو الجانب التقليدي الذي يُميّز كثيراً من حياة البيئة الشاميّة، وهو ما ينسجم مع عادات المحافظة التي تُشكّل ركاماً دينياً لا حياة دينيّة، في الوقت الذي يختلط فيه الأمر على الجمهور؛ هذا مع إشاحتنا النّظر عن كلّ التفاصيل الأخرى التي تتعارض مع الواقعّية والتاريخ والقِيَم الكبرى التي ينبغي للمشاهِد أن ينهلها من الأعمال الفنيّة.

إذ يجهد المجتمع في سبيل تربية أبنائه على القِيَم والسلوك القويم ضمن مؤسّساته الاجتماعيّة والتربويّة، لكنّه يغفل عن خطورة الأثر التراكُميّ للإعلام العربيّ وما يضخّه من قِيَمٍ وسلوك في أكثر من مناسبة ومنها خلال مواسمه الرمضانيّة على النقيض من أهدافه. فليس في أعمال البيئة الشّاميّة إلا الغضب والإهانة والقتل والذكوريّة والعنف المُتفلّت في الاتجاهات المختلفة…فلا شيء مهمّاً يجمع هذه الأعمال بالأخلاق الدينيّة والمجتمع العربيّ.

*كاتب لبناني.

المصدر: الميادين نت

Optimized by Optimole