مباط عال: انتخاب مدير عام للوكالة الدولية للطاقة الذرية: امتحان للأزمة النووية الإيرانية

Spread the love

إفرايم أسكولاي وإميلي لانداو – باحثان في معهد دراسات الأمن القومي

البيان الرسمي الذي أصدرته الوكالة الدولية للطاقة الذرية يوم 22 تموز الجاري أعلن وفاة المدير العام للوكالة، يوكيا أمانو. هذا الإعلان جاء في اليوم نفسه الذي كان من المفترض أن يعلن فيه أمانو أنه سيخلي منصبه قبل الموعد المحدد، في آذار/مارس 2020. يمكن الافتراض أن الخبر بشأن الحاجة إلى بديل كان يحلق في الهواء، غير أن محور الزمن في تعيين مدير عام جديد للوكالة الدولية قد تقلص جدياً، بصورة مفاجئة. وطبقاً لتقارير إعلامية، فقد بدأت المداولات بين الدول الأعضاء في الوكالة الدولية بشأن الشخصية التي ستخلف أمانو في هذا المنصب. تحليلنا هنا سيتركز على الدور الذي أداه أمانو في قضية المشروع النووي الإيراني وأدائه في هذا الموضوع، كما سنقترح معايير للمدير العام الجديد للوكالة الدولية، غايتها تحقيق الحد الأقصى من الإنجازات للوكالة.

يبدو أن الملف الإيراني هو المهمة الأكثر أهمية الملقاة اليوم على المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية. في ظل الأزمة الحالية الخاصة بالاتفاق النووي الإيراني والتوتر في العلاقات بين إيران والولايات المتحدة، يصبح منصب المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية أكثر أهمية من أي وقت مضى. ستتوفر للمدير العام الجديد للوكالة القدرة على التأثير فيما إذا كان التوتر الحالي سيُحلّ بطرق سلمية أم سيستمر الوضع في التدهور والتصعيد نحو أزمة دبلوماسية، أو حتى عسكرية. وأكثر من هذا، قد تكون تقارير المدير العام للوكالة الدولية عاملاً حاسماً في القرار ما إذا كانت إيران ستواصل السعي نحو امتلاك سلاح نووي، أم سيكون في الإمكان منعها بصورة فعالة من مواصلة العمل لتحقيق مطامحها في امتلاك قدرة نووية عسكرية.
الوكالة الدولية للطاقة الذرية هي المسؤولة عن تنفيذ الرقابة بموجب “اتفاق الضمانات” (Safeguards Agreement) مع إيران، وبموجب “خطة العمل المشتركة الشاملة” (JCPOA، أو: الاتفاق النووي). يتعين على المدير العام للوكالة الدولية تقديم تقارير فصلية إلى “مجلس الأمناء” (Board of Governors) في الوكالة وإلى مجلس الأمن الدولي. المهمات الرئيسية الملقاة على عاتق المفتشين هي التحقق من الالتزام بتنفيذ جميع النشاطات المعلنة في المشروع النووي الإيراني، والتبليغ عن جميع المواد. كما ينبغي لهم أيضاً التحقق من عدم حدوث أي خرق للقيود التي فُرضت على إيران بشأن القدرات التقنية والمواد المستخدَمة. ويتوجب عليهم، أيضاً، الفحص والتأكد من عدم وجود أي نشاط غير مسموح به يتصل بخطط محتملة لتطوير سلاح نووي. يتم إدراج نتائج أعمال الفحص والتقصي هذه ضمن التقارير الفصلية التي يقدمها المدير العام للوكالة الدولية، والتي يفترض بها أن تعطي صورة معبّرة عن وضع المشروع النووي الإيراني وعن عمل المفتشين الدوليين. كما يفترض أن تعرض هذه التقارير، بالتفصيل، أية مشكلة تعترض عمل المفتشين، بالإضافة إلى الجهود التي بُذلت لحلها وتجاوزها.
لم يجرِ تنفيذ هذه المهمات، للأسف الشديد، سوى بصورة جزئية فقط. لا خلاف على أن التفتيش والرقابة على المنشآت النووية المعلنة، وعلى المواد والنشاطات المعلنة في إيران يجريان بصورة مهنية. لكن المشاكل التي تظهر تتعلق بالبحث عن منشآت، ونشاطات مواد غير معلنة، وبالتحقق من عدم تنفيذ أية أعمال ذات علاقة بتطوير سلاح نووي. تستطيع الوكالة الدولية للطاقة الذرية العمل على هاتين المسألتين، بموجب التفويض المعطى لها، لكن يتضح أن الوكالة لا تقوم بذلك. بموجب “اتفاق الضمانات الشامل” (Comprehensive Safeguards Agreement) ما بين الوكالة وإيران، من حق الوكالة أن تطلب إجراء “رقابة خاصة”، إذا ما توصلت إلى استنتاج بأنها تحتاج إلى معلومات إضافية لاستيضاح وتوضيح وضع غير عادي. وعلاوة على ذلك، فقد وافقت إيران، بموجب الاتفاق أيضاً، على تطبيق “البروتوكول الإضافي” (Additional Protocol) بصورة موقتة. وبالإضافة إلى هذه الوثائق، يشمل الاتفاق النووي أيضاً تعليمات إجرائية تفصيلية تمنح المفتشين صلاحيات، إذا ما تم استخدامها فسيكون باستطاعتها المساعدة في حل القضيتين المطروحتين على الطاولة الآن. غير أن هذه التعليمات الإجرائية لم توضع موضع التطبيق إطلاقاً وبقيت المسألتان الخطِرتان من دون حل. لهذا السبب، تستطيع إيران، بينما هي تتمتع بحصانة نسبية، إخفاء نشاطات تقوم بها ومواد ومنشآت تستخدمها، بما في ذلك معالجة مواد نووية وتطوير منظومة تفجير نووي.
تجنُّب الوكالة الدولية للطاقة الذرية التعمق في ماضي إيران – وفي حاضرها أيضاً، كما يبدو – في كل ما يتعلق بنشاطات تطوير السلاح النووي، ليس نتاج نقص في المعلومات. فثمة وفرة كبيرة من المعلومات بين يدي الوكالة الدولية، بدءاً بمصادرها المعلوماتية الخاصة بها، والتي لم يتم استغلالها (وخصوصاً في منشأة بارتشن التي لم تخضع لتفتيش معاد، على الرغم من العثور على مواد مشتبه بها في عينات من الأرض جُمعت منها في أيلول/ سبتمبر 2015)، بينما كانت الذروة في الأرشيف النووي الذي كشفت إسرائيل النقاب عنه ويشمل معلومات وفيرة عن المنشآت، والعلماء، والتجهيزات والنشاطات المتعلقة بالمشروع الإيراني لإنتاج خمس قنابل نووية. من شأن التحقيق المعمق في المعلومات الأرشيفية – واستناداً إلى التفتيش أيضاً – أن يوصل إلى الاستنتاج بأن إيران لا تزال تقوم بنشاطات مرتبطة بتطوير السلاح النووي. لكن الوكالة الدولية كانت تعارض، حتى الآن، استغلال هذه الثروة المعلوماتية الهائلة التي تحوزها لأغراض التفتيش الذي تقوم به.
مشكلة أُخرى هي تقارير المدير العام للوكالة الدولية إلى مجلس الأمناء ومجلس الأمن الدولي، والتي يبدو أنها تعكس تجنُّب أمانو الدخول في أي خلاف، ورغبته في عدم الخوض في تفصيلات تتعلق بنواقص نظام التفتيش وتقصيره. المدير العام للوكالة هو الذي يوقّع التقارير الفصلية، وهي تعكس وجهة نظره وتقديراته، استناداً إلى الأعمال الميدانية والتقديرات التي يقوم بها ويضعها طاقمه. وقد استخدم أمانو نفسه ذريعة السرية التي جرى التعهد لإيران بالمحافظة عليها في علاقاتها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بموجب الاتفاق، من أجل تبرير افتقار التقارير إلى معلومات مهمة ـ وهي ذريعة لا أساس لها في أنظمة الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
على الرغم من أن أمانو بدأ يزاول مهام منصبه، في سنة 2009، بأسلوب مهني بعيد عن الميول السياسية التي أبداها المدير العام السابق للوكالة، محمد البرادعي، إلّا إنه بدأ هو أيضاً في نهاية المطاف، وحتى انتهاء ولايته، باتخاذ قرارات غير تقنية خالصة. كان البرادعي قد منع شمل الملحق الكامل بشأن “الأبعاد العسكرية المحتملة” (PMD) للمشروع النووي الإيراني في التقارير الفصلية التي كان يقدمها، وذلك لأسباب واعتبارات سياسية، بينها الاعتبار القائل إن الملحق قد يعطي إسرائيل حجة لشن الهجوم. بعد سنة 2015، أظهر أمانو أنه ملتزم بالتحقق من امتثال إيران للتقييدات التي حددها الاتفاق النووي، أكثر من التزامه بفحص ما إذا كانت تسعى لنشاط عسكري يتنافى مع عضويتها في معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية (NPT). هذه ليست من ضمن الاعتبارات التي يفترض بمدير عام لمنظمة تقنية أن يدرسها ويأخذها في الحسبان. كما لم يمارس “مجلس الأمناء” أيضاً ضغوطاً على أمانو لدفعه إلى اتخاذ موقف أكثر فاعلية في البحث عن خروقات إيرانية محتملة، أو عن أدلة على نشاطات تسليحية.
في ضوء هذا كله، ما هي الاعتبارات التي يُفترض أن تُقرّ في انتخاب مدير جديد للوكالة الدولية؟ إذا ما صرفنا النظر عن المؤهلات الإدارية، الضرورية طبعاً لدى من يقف على رأس منظمة كبيرة ومعقدة كهذه، فليس من الممكن عدم التذكير بأن جميع رؤساء الوكالة، منذ سنة 1981، كانوا أصحاب مهن تفتقر إلى الخلفية التقنية. ويبدو أن مجالات اهتمامهم كانت تميل أكثر نحو عالم السياسة والدبلوماسية. صحيح أن منصب مدير عام الوكالة هو منصب سياسي وتقني في الوقت نفسه، لكن في حالة إيران، يجب أن يكون الجانب التقني ذا أفضلية. في أداء أمانو، حظي الحفاظ على الاتفاق النووي بالأفضلية العليا، أي أن مهمة التحقق من أن إيران تلتزم بالتعهدات النووية القليلة التي أخذتها على عاتقها في إطار الاتفاق النووي هي التي حظيت بأفضلية أولى، على حساب الفحص المعمق للأدلة والقرائن التي تثبت استمرارها في جهود التسلح النووي.
وأكثر من هذا، من المفترض أن يقوم المدير العام للوكالة بالتبليغ عن أية صعوبات أو معوقات تظهر في عمليات الرقابة والتفتيش، بصورة كاملة ودقيقة، كي تكون الصورة التي تتلقاها الهيئات المخولة صلاحية وضع وإقرار سياسات الوكالة الدولية (مجلس الأمناء والمؤتمر العام) صورة كاملة ودقيقة، بما يمكّنها بالتالي من التطرق إلى الجانب السياسي من المعادلة. ومع ذلك، ليس أقل أهمية من هذا الدور الذي يقوم به “مجلس الأمناء” في نقل رسالة عاجلة وملحّة إلى المدير العام للوكالة. فلو أن مجلس الأمناء نقل إلى أمانو رسالة حازمة بشأن الأرشيف النووي، لكان ثمة ما يدعو إلى الاعتقاد بأنه كان سيتحرك بصورة أسرع. في نهاية المطاف، وعلى الرغم أن الأرشيف ليس ضمن صلاحيات مدير عام الوكالة، إلّا إنه يجب إعادة النظر مجدداً في مسألة المحافظة على السرية التي تم التعهد بها لإيران في إطار الاتفاق النووي، فيما يتعلق بعلاقاتها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ذلك بأن النقص الكبير في المعلومات الذي تعانيه التقارير العلنية الصادرة عن الوكالة ينتقص كثيراً من جودة ومضمون النقاش العام المتعلق بإيران والمشروع النووي.

ما من شك في أن الإيرانيين كانوا يعتبرون أن أمانو مفيد لقضيتهم، إلى درجة ـ بحسب ما أفادت تقارير الصحافة الإيرانية ـ أن الشائعات في إيران تحدثت عن أن إسرائيل والولايات المتحدة هما اللتان اغتالتاه. من الواضح، أيضاً، أن الحديث يجري عن لحظة حاسمة جداً، بل فارقة، في مسألة المشروع النووي الإيراني. وعليه، سيكون المدير العام الجديد للوكالة الدولية ملزماً بالأخذ بالحسبان كل الدلائل والإثباتات على أن إيران لم تلتزم بصورة كاملة بجميع تعهداتها في المجال النووي، حتى لو كان معنى ذلك حدوث صدام حاد بين الوكالة الدولية وإيران. أمّا فيما يتعلق بانتماء المدير العام الجديد القومي، فما من شك في أنه سيكون موضع نقاش بشأن وريث أمانو، لكن لا يجوز لهذا الاعتبار أن يغطي على انتخاب الشخص المهني الأفضل لهذا المنصب المهم والحساس.
المصدر: مجلة مباط عال اسرائيلية – عن نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية