سوسن تعشق أشجار الزيتون

Spread the love

بقلم: د. فياض الفياض —

الْيَوْم هو الأحد صباحاً من الأيام الأخيرة لشهر كانون الأول، قٌرع باب المنزل قرعات متتالية.
كان الوالد قد خرج لتوه الى السوق ليتزود ببعض المواد الغذائية الضرورية فالرغيف الابيضً لليوم الأسود.
سارعت الأم لفتح الباب الذي اندفعت منه السوسنة الصغيرة وهي مخطوفة اللون لاهثة.
ماما .. ماما .. لقد طلبت منا المديرة مغادرة المدرسة حالاً الى بيوتنا …
ما الأمر يا سوسن ؟؟ أراك خائفة .!!
لا يا ماما لست خائفة لكني رأيتهم يقتحمون سُوَر المدرسة بأم عيني .. نعم ..لقد رأيتهم .. كانوا يمتشقون البنادق، يرتدون الأحذية الضخمة والملابس الزيتونية اللون ويهجمون على الصفوف كالذئاب الجائعة.
ولكن ماذا حصل يا سوسن ؟؟ حدثيني يا ابنتي …
منذ بدأت البنات بالتجمع في ساحة المدرسة، علت الأناشيد والزغاريد، قرعت المديرة الجرس بنفسها وأمرت الجميع الإسراع الى الغرف حيث دخلت البنات وهُن يلوّحن بأيديهن برقم سبعة.
بعد دقائق هجموا علينا كالوحوش الضارية، جوبهوا بوابل من الحجارة لكن الرصاص وقنابل الغاز كانت أسرع وأقوى.
رأيت بأم عيني كيف سقطت ثلاث طالبات من بنات الصف السادس والدم يتدفق من أجسادهن.
لقد انهالوا بالهراوات على رؤوس البنات الأخريات فشجّوا رؤوسهن، أما انا فقد استلقيت على الأرض مع أخريات وأتقينا الضربات بأيدينا وأجسامنا.
بذلت أم سوسن جهداً كبيراً للمحافظة على رباطة جأشها وأخذت تمسح الدموع التي فقدت السيطرة عليها بذراع ردائها بينما كانت يداها تتلمسان كتف سوسن المصاب وهي تردد بصوت مسموع:
الويل للمجرمين القتلة، لقد فقدوا عقولهم وإنسانيتهم. يجدر بهم أن يدركوا قبل غيرهم أن لابد لليل من آخر.
تناولت أم سوسن الحقيبة المدرسية من ابنتها وطبعت على خديها قبلات حارة، هدأت من روعها وقدمت لها كوب ماء وأخذت تفهمها أن هذا الأمر طبيعي في مثل هذه ظروفنا الحالية .. ساعدت الأم صغيرتها لخلع حذائها ثم اقتادتها الى غرفة النوم.
رفعت الغطاء المسدل من على الفراش وطلبت من سوسن أن تندس تحت الغطاء، بعد دقائق كانت سوسن تغط في سبات عميق مستسلمة للأحلام التي أعادتها ثانية الى ساحة المعركة في فناء مدرستها.
بعدما أفاقت سوسن من نومها أخذت تروي لأمها ما رأته من أحلام في منامها وقالت:
رأيت ثلاث برك من الدم وقد أخذت تنمو وتنمو ممتصة الدماء المتجمعة لترتفع معانقة سماء المدرسة لتظلل الجميع بظلها الظليل، وأغصانها محملة بثمر جميل متلآلىء بأربعة ألوان هي الأسود والأبيض والأخضر والأحمر كالمصابيح التي تزيّن شجرة عيد الميلاد.
كانت مكتوبة على جذوع تلك الأشجار ثلاثة أسماء تشع منها أشعة ذهبية ساطعة فكأنها عين الشمس أو البدر في ظلام الليل الدامس.
أقسم لك يا ماما لقد رأيت كل ذلك وقرأت الأسماء الثلاثة … فداء .. كريمة ..أمل … لقد تمنيت لو تنمو الى جوار الشجرات الثلاث شجرة رابعة تحمل اسمي …
هذا ما حدثته سوسن لوالدتها عندما فتحت عينيها لتجد والدتها تقف فوق رأسها وهي تُمسح بيدها الدافئة الحنون خد سوسن الغض الجميل.
احتضنت سوسن يد والدتها وأخذت تردد الأسماء الثلاثة إياها: فداء .. كريمة .. أمل …
بينما تتدحرج من عينيها دمعات حزينة.
انتفضت سوسن واقفة ويداها ممدودتان الى أعلى وهي ترسم بأصابعها رقم سبعة مرددة النشيد الذي كانت تردده الطالبات في المدرسة:
فلسطين يفدي حماك الشباب
فإما الحياة وإما الردى …
احتضنت أم سوسن ابنتها مقبلة جبينها وخديها وهي تقول لها:
أني فخورة بك يا سوسن، بارك الله بك يا ابنتي بك وبأمثالك سينتصر شعبنا .. لامحالة.

قصة قصيرة نشرت في جريدة الاتحاد – حيفا عام 1988.

Optimized by Optimole