حول «رسائل إخوان الصفا وخِلان الوفا»

Spread the love

ikhwan-safa

بقلم: محمد عبدالفتاح السروري — يشير تنوع رسائل إخوان الصفا وشموليتها إلى أنها من تصنيف مجموعة متعاونة متشاورة، لا فردٍ واحد. وربما لولا أن عاصرهم أبو حيان التوحيدي (المتوفى 414 هجرية) ما عُرفت هذه الجماعة. ويؤثر عن التوحيدي قوله عنهم «إنهم وضعوا بينهم مذهباً زعموا أنه قرَّبهم إلى الفوز برضوان الله، وذلك أنهم قالوا إن الشريعة قد دُنست بالجهالات، واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى تطهيرها إلا بالفلسفة، لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية، وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية مع الشريعة، فقد حصل الكمال». وصنَّف إخوان الصفا نحو خمسين رسالة، أفردوا لها فهرساً، وكتموا فيها أسماءهم، وبثوها في أسواق الوراقة.
وهناك رأيان عن «إخوان الصفا وخِلان الوفا»، متباعدان أشد البعد، الأول يُعظم ما ورد في الرسائل على اعتبار أنه فكر علمي واقعي جاء خارج زمن تصنيفها، وأنهم أهل تنظيم وعمل حزبي يعمل على إسقاط دولة الخلافة. وأصحاب هذا الرأي بنوه على عباراتٍ متفرقة أو مقولاتٍ متناثرة في الرسائل أو ما شاع عنهم بين الأوساط الثقافية بأنهم مجددون إصلاحيون، كانوا ضد السائد الفقهي لذا أخفوا أسماءهم خشية من فتك السلطة القائمة آنذاك بهم. ولكن إخوان الصفا أنفسهم ينفون الخوف من السلطة، وقد وردَ في أحد نصوصهم: «واعلم أيها الأخ الرحيم، أنّا لا نكتم أسرارنا عن الناس خوفاً من سطوة ملوك ذوي السلطنة الأرضية، ولا حذراً من شغب جمهور العوام، ولكن صيانة لمواهبِ الله عزّ وجلّ لنا».
أما الرأي الثاني، فيمثله أبو حامد الغزالي (الخصم الشهير للفلاسفة) حيث أجملَ ما جاء في الرسائل بالجهالة، وما سماه باستدراج الباطل، وبأنهم تشدقوا بالفلسفة. لقد بالغ هذا الاتجاه في معاداتهم، ولم يعتبر لهم شيئاً في العلم ولا في الإيمان. وبطبيعة الحال، فإن أصحاب الرأيين غير منصفين، فكل منهما يريد تحقيق فكرته تجاههم، فمن وقف ضد التصورات الدينية يأخذهم على أنهم أهل العلم والمنطق، ومن وقف ضد الفلسفة والمنطق والعقل في شكلٍ عام جعلهم أعداءً للدين، وأن ما ورد في رسائلهم ما هو إلا حشو فلسفي. وتبدو ليبرالية إخوان الصفا – وفق مفاهييم عصرنا – مبكرة في مسألة المذاهب أولاً وفي الثقافة ثانياً، فقد حسموا رأيهم في عدم انتمائهم لأي مذهبٍ ونظروا في كتب الأديان والفلاسفة كافة، قائلين في إحدى الوصايا لمن يقرأ رسائلهم ويتبع طريقها، «إننا لا نعادي علماً من العلوم، ولا نتعصب على مذهبٍ من المذاهب، ولا نهجر كتاباً من كتب الحكماء والفلاسفة مما وضعوه وألَّفوه في فنون العلم، وما استخرجوه بعقولهم وتفحصهم من لطيف المعاني. وأما معتمدنا ومعولنا وبناء أمرنا، فعلى كتب الأنبياء (صلوات الله عليهم أجمعين)، وما جاؤوا به من التنزيل، وما ألقت إليهم الملائكة من الوحي».
وقالوا في شرح طبيعة فكرهم: «وبالجملة ينبغي لإخواننا، أيَّدهم الله تعالى، ألا يعادوا علماً من العلوم وألا يهجروا كتاباً من الكتب، وألا يتعصبوا على مذهبٍ من المذاهب. لأن رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهب كلها، ويجمع العلوم جميعها، وذلك هو النظر في جميع الموجودات بأسرها سواء الحسية والعقلية، من أولها إلى آخرها ظاهرها وباطنها، جليها وخفيها بعين الحقيقة، من حيث هي كلها من مبدأ واحدٍ وعلّة واحدة، وعالم واحد ونفسٍ واحدة، مُحيطة جواهرها المختلفة، وأجناسها المتباينة وأنواعها المفننة، وجزئياتها المتغيرة».
يُعلن الإخوان في رسائلهم، مبدأ التسامح بين الأديان والمذاهب، «من الناس من يرى ويعتقد في دينه ومذهبه الرحمة والشفقة للناس كلهم، ويرثى للمذنبين ويستغفر لهم، ويتحنن (يُظهر الحنان) على كل ذي روح من الحيوان، ويريد الصلاح للكل، وهذا مذهب الأبرار والزهّاد والصالحين من المؤمنين وهكذا مذهبنا». ويتبرأ إخوان الصفا من النظرة الضيقة للأمور، «وليس من مذهب إخوان الصفا، أيَّدهم الله بروحٍ منه، حيث كانوا في البلاد، بل نظرُهم كلي وبحثهم عموميّ، وعلمهم جامع، ومعرفتهم شاملة».
ولم يذكر إخوان الصفا عدد (الصفر) في ما ذكروا من الأعداد ومراتبها، إذ إنهم لم يحتاجوا الإشارة إليه لأنهم اعتبروا الواحد أصل الأعداد وأن الصفر لذاته لا قيمة له ولا يرمز إلى شيء من العالم مثل بقية الأعداد، وفق تصنيفهم. وعلمُ الهندسة له قصب السبق عند إخوان الصفا، وقدموه في رسالة الـ (جومطريا) بنوعين، العقلية والحسية. ففي الحسية، تُعرف المقادير وكل ما يُري بالبصر من الحجوم والأشكال التي تُدرك بالحواس، أما العقلية فتعني بالخطوط والجسوم، ذوات الأبعاد والمقادير والأوزان التي تُدرك بالعقل دون الحواس.
وذكر إخوان الصفا المقادير التي كانت تُمسح بها الأراضي الزراعية آنذاك وهي الأشل (سلسلة أو حبل تستخدم لقياس الطول) والباب (العصا أو الساق وهي عُشر الأشل) والذراع والقبضة والإصبع وغير ذلك، ومثلما أن الواحد في الحساب هو أصل الأعداد، فإن النقطة في الهندسة الحسية، هي أصل الخط، فكل خط لا بد أن يبدأ بنقطةٍ ومجموعة النقاط تُشكل الخط، وعددها يحدد طوله ولها أجزاء للنقطة الحسية أما النقطة العقلية فلا تتجزأ. كذلك، الخط هو أصل السطح ومن السطح يتألف الجسم، بمعنى أن السطح هو أصل الجسم المتألف من مجموعة سطوحٍ، فبعد تراكم السطوح يظهر الجسم للحس.
ونختم حديثنا عن إخوان الصفا وتتبعنا لبعض رسائلهم في رسالة «الطريق إلى الله». فالطريق إلى الله عندهم هو الغاية والقصد وهو تحرر النفس من البند أي الموت. ولكن الموت عندهم هو بداية حياةٍ أخرى. وفي معظم رسائلهم، يشدد إخوان الصفا على أن مهمة المعرفة والعلم هي الوصول إلى الله، وهذا لا يحصل إلا بعد أن يعرف الإنسان نفسه ويسعى إلى تحقيق الخير حيث يحتاج السائر في هذا الطريق إلى تمثل أفكارٍ متعالية عن النوازع البشرية والأهداف الدنيوية. ويستشف من أهدافهم في كتابة الرسائل في الأساس قولهم «إن الطريق إلى الله يعني تحقيق العدالة والحصول على ذروة الحكمة، بعد الإلمام بالعلوم والمعارف التي تنقل الإنسان من عالمه الأدنى المُعاش إلى العالم المثالي في الآخرة ولا يقدر على ذلك سوى الأصفياء الحكماء من البشر وهم إخوان الصفا وخلان الوفا». وهكذا «لا يمكن الوصول إلى الله (آخر مرتبة من مراتب الإنسانية) إلا بعد الفكاك من عالم الجهل ولا يتأتى ذلك إلا عبر صفاء النفس واستقامة الطريق، نقاء النفس بالتخلص من دونية الجسد». ويذكر إخوان الصفا أن الخط المستقيم هو أقصر الخطوط للوصول، فنجدهم يستعيرون هذا المفهوم ويقولون: «إن أقرب الطرقات ما كان على خطٍ مستقيمٍ، وأسهلها مسلكاً هو الذي لا عوائق فيه». أي أن الطريق إلى الله مثلما وردَ عند إخوان الصفا إنما هو رحلة الموت، أي عالم الآخرة وصعود النفس إلى باريها، أو عودتها من حيث أتت، على اعتبار أنها جوهر روحانية سماوية، فهي ذرَّة من النفس الكلية، التي فاضت عن العقل الفعّال.
وفي الرسالة الثالثة عشرة من القسم الرياضي من رسائل إخوان الصفا أن «الإنسان قادرٌ على أن يقول خلاف ما يعلم، ولكن لا يقدر أن يعلم خلاف ما يعقل، فلا ينبغي أن ينزل الحكم على قول القائلين ولكن على حُكم العقل.

المصدر: صحيفة الحياة

Optimized by Optimole