المودودي وحاكمية الله

Spread the love

ليس لفرد أو أسرة أو طبقة أو حزب أو لسائر القاطنين في الدولة نصيب من الحاكمية، فإن الحاكم الحقيقي هو الله، والسلطة الحقيقية مختصة بذاته. الحاكم الحقيقي هو الله لكن كيف الله يحكم؟

بقلم: د. هيثم مزاحم – عرف تاريخنا الإسلامي المعاصر لأول مرة نظرية الحاكمية على يد المنظّر الإسلامي أبي الأعلى المودودي (1903-1979)، مؤسس “الجماعة الإسلامية” في الهند قبل تقسيمها ونشأة باكستان وبنغلاديش لاحقاً. يقول المودودي عن حاكمية الله: “إن الحاكمية في الإسلام خالصة لله وحده، فالقرآن يشرح عقيدة التوحيد شرحا يُبيِّن أن الله وحده لا شريك له، ليس بالمعنى الديني فحسب، بل بالمعنى السياسي والقانوني كذلك، كما أن وجهة نظر العقيدة الإسلامية تقول: إن الحق تعالى وحده هو الحاكم بذاته وأصله، وإن حكم سواه موهوب وممنوح، وإن الإنسان لا حظ له من الحاكمية إطلاقاً”.

يوضح المودودي أن “خلافة الإنسان عن الله في الأرض لا تُعطي الحق للخليفة في العمل بما يشير به هواه وما تقضي به مشيئة شخصه، لأن عمله ومهمته تنفيذ مشيئة المالك ورغبته… فليس لأي فرد ذرة من سلطات الحكم (…) وأي شخص -أو جماعة- يدَّعي لنفسه أو لغيره حاكمية كلية أو جزئية في ظل هذا النظام الكوني المركزي، الذي تدبّر كل السلطات فيه ذات واحدة هو -ولا ريب- سادر في الإفك والبهتان.. فالله ليس مجرد خالق فقط، وإنما هو حاكم كذلك وآمر، وهو قد خلق الخلق ولم يهب أحدا حق تنفيذ حكمه فيهم”.

ويرى المودودي أن “الأساس الذي أرتكزت عليه دعامة النظرية السياسية في الإسلام، أن تنزع جميع سلطات الأمر والتشريع من أيدي البشر، منفردين ومجتمعين، ولا يؤذن لأحد منهم أن ينفذ أمره في بشر مثله فيطيعوه، أو ليسنّ قانوناً لهم ينقادوا له ويتبعوه، فإن ذلك أمر مختص بالله وحده، لا يشاركه فيه أحد غيره”.

أما الخصائص الأولية للدولة الإسلامية –بحسب رؤية المودودي– فهي ثلاث خصائص هي:

1- ليس لفرد أو أسرة أو طبقة أو حزب أو لسائر القاطنين في الدولة نصيب من الحاكمية، فإن الحاكم الحقيقي هو الله، والسلطة الحقيقية مختصة بذاته تعالى وحده، والذين من دونه في هذه المعمورة إنما هم رعايا في سلطانه العظيم.

2- ليس لأحد، من دون الله، شيء من أمر التشريع، والمسلمون جميعاً، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، لا يستطيعون أن يشرّعوا قانوناً.

3- إن الدولة الإسلامية لا يؤسس بنيانها إلا على ذلك القانون الذي جاء به النبي من عند ربّه، مهما تغيرت الظروف والأحوال”.

تطلق الحاكمية عند المودودي على السلطة العليا والسلطة المطلقة، فهي مساوية للألوهية، وهو يقول: “إن الإسلام يستعمل دائماً لفظ الخلافة في الحديث عن الذين يقومون بتنفيذ القانون الإلهي في الأرض، بدل لفظ الحاكمية”، مستشهداً بآية “وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم” (سورة النور، الآية 55). ليخلص إلى أن لفظ “إله” واصطلاح “الحاكمية” هما اسمان لحقيقة واحدة.

يقول المودودي: “إن الحق تعالى وحده هو الحاكم بذاته وأصله، وإن حكم سواه موهوب وممنوح”. وهو بذلك يميّز بين حكم الله وحكم الإنسان بأن الأول “حاكم بذاته وأصله” والثاني حاكم بحكم موهوب وممنوح من الله. ويقر المودودي بأن في خلافة الإنسان عن الله معنى الحاكمية، فيقول: “وفي الخلافة معنى الحاكمية والسلطان، باعتبار أنها خلافة إلهية ونيابة عن الحاكم الأعلى”، وهذه الخلافة هي التي عبّر عنها القرآن الكريم بـ”الأمانة” في سورة الأحزاب (الآية 72)، بقوله: “إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا”. ويشرح المودودي أن المقصود بالأمانة في هذه الآية هو حرية الاختيار والمسؤولية والحساب، وأن لفظ الأمانة يوضح مفهوم الخلافة ومعناها، وأن كلا اللفظين يحدد وضع الإنسان الصحيح وحيثيته الأصلية بالنسبة لنظام العالم، فهو حاكم الأرض، لكن حكمه لها ليس بذاته وأصله، وإنما هو حكم مفوّض إليه.

حاكمية الله بالمعنى السياسي والقانوني

إذن، حدد المودودي أن حكم الإنسان للأرض بالتفويض من الله والخلافة عنه، ليقول في مكان آخر: “إن الإسلام قد أقر نيابة الشعب واستخلافه عن الله في ظل سيادة الله وحاكميته”، أي إن الله قد خوّل المسلمين، في الحكومة الإسلامية، “حاكمية شعبية مقيّدة”. فكما أن هناك حاكمية إلهية عليا هي لله بذاته وأصله، فهناك “حاكمية شعبية للإنسان، باعتباره خليفة عن الله، بها يكون هذا الإنسان “حاكم الأرض” نيابة وتفويضاً عن الله، الحاكم الأعلى.

وهكذا نجد أن المودودي قد فسّر كلمة الإله بأنه الحاكم، والألوهية بالحاكمية، والعبودية بأنها الطاعة لحكم الله، وقال: “الله له الحكم والسلطة، والخلق ليس لهم إلا الطاعة المطلقة، ومن يدّعِ أن له حرية في أن يحكم أو يصدر قوانين يخضع لها البشر فهو كافر؛ لأنه ينازع الألوهية في أخص خصائصها وهي الحاكمية، ومن يطع من يحكم ويضع القوانين الحاكمة فهو أيضاً مشرك؛ لأنه اتخذ من دون الله إلهاً آخر”.

“يربط المودودي بين الجاهلية المعاصرة كواقع تعيشه الأمة اليوم، وبين حاكمية االله كمنهج يجب أن تستعيده الأمة مستقبلاً. إلا أنه يشحن مفهوم حاكمية الله بمحتوى نظري سيترك أثره علـى كـل الحركـات الإسلامية مستقبلاً. فهو يعتبر أن الدولة الإسلامية يجب أن تقوم على أساس واحد وهو “حاكمية الله الواحـد الأحـد، وإن نظريتها الأساسية هي أن الأرض كلها لله، وهو ربها والمتصرف في شؤونها. فالأمر والحكم والتـشريع كلهـا مختصة بالله وحده، وليس لفرد أو أسرة أو طبقة أو شعب، بل ولا للنوع البشري كافة شيء من سـلطة الأمـر والتشريع. فلا مجال في حظيرة الإسلام ودائرة نفوذه إلا لدولة يقوم فيها المرء بوظيفـة خليفـة الله”.

ويغلـق المودودي جميع الأبواب بوجه الاجتهاد، فيقرر أنه يجب أن تنزع جميع سلطات الأمر والتشريع من أيدي البشر “منفردين ومجتمعين” لأن ذلك أمر مختص بالله “فلا يؤذن لأحد أن ينفذ أمره في بشر فيطيعوه أو ليسن قانونـًا لهم فينقادوا له ويتبعوه”. وتؤدي هذه الرؤية إلى اعتبار الخلافة الإسلامية “خلافة إلهية” يقوم بها الإمـام بوظيفـة خليفة الله، إذ يرفض المودودي إطلاق وصف الديمقراطية على نظام الدولة الإسلامية، بل يعتبر أن كلمـة “الحكومـة الإلهية” أو “الثيوقراطية” أصدق تعبيراً.

المصدر: موقع ميدل ايست أونلاين – جزء من دراسة د. هيثم مزاحم المعنونة “نظرية الحاكمية بين سيد قطب وعلي خامنئي”، التي نشرت ضمن الكتاب 124 (مايو/أيار2017) ‘إيران والإخوان الشيعة القطبيون’ الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي.

Optimized by Optimole