المدن بلا بحار لا يعوّل عليها

Spread the love

بقلم: ريما شهاب* | هو يوم جمعة من صيف هذا العام المشؤوم 2020، ها أنا أهرب من كل ما يحيطني من تفاصيل اليوميات المتعبة التي نواجهها منذ نهاية العام الماضي في هذا البلد الذي كتب عليه بسبب جغرافيته تاريخاً من الفوضى وحاضراً أسوأ من ذلك.
هربت لأجلس بمواجهة مع الأزرق، شاطئ بيروت الذي يحاول دوماً تخفيف وطأة المكان ومنحه القليل من الدفء والأمل، أجلس في مسبح اللونغ بيتش الذي كنت أرتاده منذ طفولتي وأيام المدرسة.
عادت بي ذاكرتي إلى العام 1993 اليوم الذي أنهيت فيه امتحانات شهادة البريفيه وهربت بعدها مع صديقتين لي إلى هنا لنستمتع قليلاَ بعد أيام طويلة من الدراسة.
كنا في تلك الأيام قد اجتزنا من وقت قصير ما سمي بحرب أهلية وكنا في ريعان العمر ونشعر أن الآتي أجمل وأن الحرب أصبحت خلفنا وذكرى ماضية.
ومضت الأيام وأنهينا دراستنا الجامعية وكلّ منا أصبحت في بلد مختلف، رنا ذهبت للعمل في فيينا وتزوجت وبقيت هناك، ثريا تزوجت ورحلت إلى فرنسا. أما أنا فبقيت هنا وكان خياري البقاء، كنت دائمة الحنين لبيروت وتفاصيل ذكرياتي وكنت متفائلة وأقول إن ما مرّ علينا هو الأسوأ وقد انتهى.
لم أتوقع أبداً أن يكون الحاضر أسوأ من تلك الحرب.
لم أتمنَ الرحيل من هنا أو السكن في بلاد أخرى، كانت رائحة كل شيء في الذاكرة تدعوني للبقاء، الماضي … الأجداد… أبي… طفولتي… عائلتي… أصدقائي… المنزل… شبابي…زواريب بيروت… ليالي الجنوب…الشعر… الموسيقى… الأمسيات… كل شيء يحملني على الصمود.
أما اليوم فشعور غريب يجتاحني كإنذار بأنني أحتاج لنوع من الانفصال القصير عن المكان الذي بات ضاغطاً من كل النواحي. وبما أن الانفصال ليس بشيء سهل التحقيق، ها أنا أهرب إلى البحر لأفرغ بعض الحمولة وأسحب من زرقته وصفائه بعض الطاقة والهدوء والأمل، فالبحر دواء والمدن بلا بحار لا يعوّل عليها.

*كاتبة لبنانية.

ريما شهاب

Optimized by Optimole