الحياة المرنة: فن التعايش مع الخطر!

كورونا
Spread the love

بقلم: د.صلاح عثمان/

«الأمن في الغالب خرافة؛ فلا وجود له في الطبيعة، ولا ينعم به بنو البشر ككل. تجنب الخطر ليس أكثر أمانًا على المدى الطويل من التعرض المباشر له، الحياة إما مغامرة جريئة، أو لا شيء»!

مقولة للأديبة الأمريكية «هيلين كيلر» Helen Adams Keller (1880 – 1968)، تُقتبس عادةً في سياقات برامج التنمية البشرية؛ فلأن تُواجه الخطر وأنت حُر ٌخيرٌ لك من أن تلتمس الأمن وأنت ترزح تحت وطأة العبودية؛ ولأن تتجاوز مخاوفك التي تُحذرك من الخطر أكرم لك من أن تستسلم لحياتك البائسة عاجزًا!
لكن المقولة – كغيرها من كثرة من المقولات – لم تعد تحفيزية كما قد يُوحي محتواها، بل باتت بمثابة قاعدة سياسية وإدارية هدفها الأول والأخير إعادة صياغة العقد الاجتماعي Social Contract المتعارف عليه لقرونٍ طويلة خلت: من ضمان الحرية والأمن وحل المشكلات الحياتية العالقة إلى الحكم والهيمنة والرقابة دون ضمانات، وهو ما تجلى بوضوح في التعاطي السياسي مع أزمة كورونا على امتداد العالم منذ اندلاعها في ديسمبر من العام الماضي؛ حيث تراوحت ردود الأفعال الحكومية من إنكار للوباء في البداية، إلى تبادل الاتهامات حول مصدره، إلى رفض تحمل المسؤولية إزاء الأعداد المتزايدة من الإصابات، إلى استغلال الأزمة اقتصاديًا باستبعاد كبار السن والمصابين بأمراض مزمنة من معادلة الوجود من جهة، وفرض المزيد من الضرائب والتبرعات الجبرية من جهة أخرى، ووصولاً إلى عدم الاكتراث الرواقي المتمثل في إنهاء حالة الإغلاق وترك الشعوب تواجه مصيرها المحتوم!

كان هذا هو المشهد السائد في كثرة من الدول، باستثناء بعض النماذج المضيئة في الدول قليلة السكان مثل نيوزيلندا والدول الاسكندنافية، أما على المستوى العام فقد أدى فيروس كوفيد-19 إلى انبثاق وضعٍ جديد لحياة بلا ضمانات حكومية؛ حياة يغشاها مصدر تهديد مستمر وخطر متصاعد على الشعوب أن تتصالح وتتعايش معه؛ فما بين التفشي المتكرر للوباء – أي وباء – بشكلٍ صارخ، والعواقب المُدمرة لتغير مُناخي لا مناص منه، يتلاشى الفارق بين العالمين الطبيعي والاجتماعي، لأن التغيرات البيئية والأوبئة من شأنها أن تؤكد حالة الضعف الكامنة في الفرد، بصرف النظر عن الطبقة الاجتماعية والوضع الوظيفي واللون والدين والجنس!

هذا ما تنبه له الإنجليزيان «براد إيفانز» Brad Evans و«جوليان ريد» Julian Reid في كتابهما المشترك الصادر سنة 2014 تحت عنوان «الحياة المرنة: فن العيش في خطر» Resilient Life: The Art of Living Dangerously، حيث قدَّما رسمًا تفصيليًا لخرائط التغير في السياسات الليبرالية، فإذا كانت الليبرالية مبنية تقليديًا على الوعد بالأمن، فإن الليبرالية الجديدة في طريقها إلى التخلي التام عن المثل الأعلى للأمن، وتبني مفهوم الخطر كشرط ضروري للحياة. ومع تكاثر وتصاعد الأخطار تنتبه الشعوب بشكلٍ متزايد لضرورة العيش في كنف أنظمة معقدة وديناميكية لا تُقدم أي احتمال للسيطرة، وتستبدل خيالاً كارثيًا يُعزز انعدام الأمن بحُلم الأمن الدائم، ومن ثم تُصبح المرونة Resilience – كقًدرة على التكيف واستيعاب التهديدات – هدفًا والتزامًا! إنه مشروعٌ أيديولوجي ضخم، ينطوي على تجريد الإنسان من أي إيمان بقدرته على تجاوز مجرد الحقيقة البيولوجية للوجود، والتكيف مع المخاطر الوجودية بالطريقة ذاتها التي تتكيف بها الأنظمة الحية مع مخاطر بيئتها.

تُعلمنا المرونة أن «نعيش في حالة رُعب دائمة، لكنها طبيعية، تغشانا فيها رهبةٌ متحجرة». وفي سياق الأحداث الحالية التي يمر بها العالم، تُعد المرونة بمثابة أيديولوجيا جديدة لقوة رأس المال والدولة؛ فلا حديث عن القضاء على الفقر، بل عن كيفية جعل الفقراء قادرين على التعايش مع هذا الواقع الحتمي؛ ولا حديث عن إجراءات فعَّالة لمواجهة أزمة المُناخ والقضاء على الاحتباس الحراري، بل عن كيفية التعاطي مع تغييرات مُناخية قاتلة ومؤكدة؛ ولا يتعلق الأمر بالقدرة على قتل الفيروس لأن الفيروسات لا تموت ولا تنتهي، ولكن عن كيفية تكيف الناس معها بتحسين المناعة ذاتيًا! لذا، يشير «إيفانز» و«ريد» إلى أن «المرونة» هي التجسيد المؤكد للفكر الليبرالي الجديد، لأنها تتوافق مع المبادئ التوجيهية لهذا الفكر دون التشكيك في المواقف السياسية الواهنة!

بعبارة أخرى، السياسة اليوم تتعلق بالموت أكثر مما تتعلق بالحياة، وبالبقاء أكثر من اليوتوبيا. وغدًا ستتمحور السياسة حول التسييس المشروع للموت؛ حول اختيار من سيبقى على قيد الحياة ومن سيصبح مستغنى عنه كجزء من «فائض السكان» Surplus Population. يمكننا أن نتوقع بعد انتهاء أزمة كورونا أن السياسة لن تتعلق بالرفاهية والرخاء، بل بالبقاء في إطار معادلة الإقصاء المشروع، وقد يكون المُبرر أن الموارد المحدودة لا تترك لنا خيارًا سوى الجمع بين الاستهلاك Consumption والاستبعاد Exclusion!

إن الممارسات السياسية الكامنة في الديمقراطيات الليبرالية، الواردة في الدستور، تكتسب شرعية جديدة اليوم، فعلى سبيل المثال، كانت الثقة أمرًا أساسيًا للديمقراطيات، ولكن الحذر اليوم والتباعد الاجتماعي والشك المتبادل هي استراتيجيات مشروعة للبقاء. لقد باتت الثقة تعني المخاطرة وليس الكرامة، وأصبح الشك سبيلاً للبقاء دون أن يعني الاستبعاد. «الآخر» لم يعد فئة سياسية، بل ممارسة اجتماعية ضرورية طبيعية أيضًا. وفي هذا الترتيب الجديد للعلاقات والمعاني، سيكون العنف الناجم عن كراهية الأجانب تفشيًا طبيعيًا، شأنه شأن الوباء، وليس استراتيجية سياسية واعية للذات.

ولا عجب أن تتلقف هذه السياسة حكومات وأنظمة تتشدق كذبًا بالديموقراطية، وينخر الفساد في بنيانها، ولا يعنيها سوى اللقطة الموحية بالإنجاز الكاذب! عليك في ظل هذه الأنظمة أن تتعايش مع الفقر والفساد والجهل والمرض كمخاطر طبيعية وحتمية لا مفر منها؛ بقاؤك مرهونٌ بقدرتك على التكيف معها، وحياتك موقوفة على مدى قوة التصالح مع أوبئة العقل والجسد. وحتى على المستوى الإداري المؤسسي بدرجاته المتفاوتة، عليك أن تُصافح مشكلاتك بمفردك، وأن تُهزم عقليًا ومنطقيًا دون أن تنبس ببنت شفة! عليك أن تُهزم يوميًا؛ تنام وتستيقظ وتبدأ من جديد كأن شيئًا لم يكن! وعلى الإجمال، عليك تُدرك الرهانات السياسية والفلسفية للواقع الجديد؛ أن تكون مرنًا بتغيير نفسك بحيث تتعايش مع الوضع القائم يدلاً من تغيير هذا الأخير؛ أن تُدرك أن الأبعاد الروحية للحياة باتت أقرب إلى التصالح والتواؤم مع الموت منها إلى الفن والجمال، وأن تتقبل العدمية كفلسفة أثيرة للدولة ورأس المال، فالمرونة المنشودة عدمية، وهي ليست فقط تحطيمًا للذات الواعية، بل هي مُنعطفٌ حياتي يُشجع على قبول إرادة سياسية تؤدي إلى اللاشيء!

Optimized by Optimole