الانطواء في الثقافة.. انحدار إلى وادٍ سحيق

Spread the love

د. عزّ الدّين عناية _ أستاذ تونسي في جامعة روما/

شكَّل مَبحث سوسيولوجيا الأدب أحد المَباحث التحليليّة المهمّة في حقل الدراسات الأدبيّة في الغرب، عماده في ذلك أطروحات لفيف من الكتّاب، من أبرزهم جورج لوكاش وفالتر بنيامين وتيودور أدورنو وأنطونيو غرامشي وكريستوفر كودويل. وقد عُدّ هؤلاء الكتّاب من الآباء المؤسّسين لهذا التخصّص، لما تميَّز به جلّهم من منزعٍ نقديّ، حوّلوا من خلاله حقلاً إبداعيّاً إلى مجالٍ قابل للفحص والتحليل.

وعلى غرار تمدُّدِ المَدخل السوسيولوجيّ لِيشمل بالدراسة والبحث وقائع ذات طابعٍ مُفارِق مثل الظواهر الدينيّة، بمنأى عن صدْقها أو زيْفها، توجَّهَ مبحثُ سوسيولوجيا الأدب إلى تتبُّعِ مكوِّنات الحقل الأدبي، بحثًا عن إرساء جملة من المعايير والضوابط التي تحكُم سَيْرَ العمليّة الإبداعيّة، بعيدا عن الحُكم على جماليّتها أو فحواها. ولم يكُن التفحُّص متوجِّهاً إلى المنتوج الإبداعي في ذاته والحكم على جماليّته، بل مُعالجته كواقِعة فينومينولوجيّة ترصد المؤلِّف والمؤلَّف والمتلقّي.

الغيتو الأدبيّ

في فترة يشهد فيها المنتوج الروائي العربي فَورة لافتة، يبدو مجال الأدب في أمسّ الحاجة إلى تفحّصٍ عماده أدوات عالِم الاجتماع، يعضد دَور الناقد الأدبي، بما يسلِّط الضوء على خبايا العمل الأدبي. وإن اختلفت المقارَبتان السوسيولوجيّة والنقديّة من حيث تناوُل المنتوج الإبداعي، فإنّ تكاملاً جليّاً بينهما، يذكِّر بتكامُل مقاربَتيْ التيولوجي والفينومينولوجي في تتبُّع الظواهر الدينيّة، أحدهما من الداخل والآخر من الخارج.

وفي ظلّ الأجواء العربيّة الرّاهنة الواقعة تحت ضغط الاستنفار الهائل، ثمّة حالة من الانطواء مُملاة على المُبدِع الأدبي تجرّه جرّاً نحو عالَم رموزه الضيّق، مشفوعة بانزواءٍ داخل حيِّزٍ جغرافي جهوي مُصطَنَع، ما أَفرز حالات اختناقٍ أدبيّة فعليّة. ولا شكّ أنّ ظاهرة الانطواء في الثقافة تأتي انعكاساً لأُفقٍ ضيّق يفتقد إلى رحابة الرؤية، يوشك فيه المناخ السائد أن يحوِّل الكاتِب إلى لسانٍ طائفي، لا يرى العالَم سوى من داخل دروب آلامه وأزماته. والخطورة أنّ ضيق الرؤية يولّد قيماً عقيمة، تعجز عن التعايُش مع الواقع الزاخر بالتنوُّع. فينحرف معها الفكر وتتحوّل فيها الثقافة إلى نُباح أيديولوجي داخل أسوار الغيتو، ويتراجَع المضمون الخُلقي للأدب، ليس بالمعنى الوعظي الساذج بل بمعناه السامي المُتعالي. وحين يهجر الكاتِب القيَم النبيلة والهموم الجماعيّة والحسّ الإنساني المُشترَك، من الهيِّن أن ينحدرَ الفكرُ نحو تغذية الانزواء، في مجتمع تخلّى عن قضاياه المصيريّة وصار يركن في مُعالجتها إلى أسلوبٍ مشوَّه مُغترِب. لذلك مع الانعزال الثقافي ثمّة خطورة لتحويل الأجناس الأدبيّة، والأدوات الثقافيّة، والمَنابر الإعلاميّة، إلى مقبرة للثقافة لا تنتج سوى أشباحٍ مشحونة بنرجسيّة مَرَضيّة. وبغرقِ الكاتِب في زهو الفئة المُختارة، يوشك أن ينقطع حبل التواصل مع الناس، ليغدو الخطاب ضيّقاً حرِجاً فاقداً لبُعده المُنفتِح الحاضِن للجميع. فيتحوَّل الأدبُ إلى ريبورتاجٍ أنثروبولوجي باهت يفتقر إلى القيَم المُشترَكة.

من هنا يبدو دَور المثقّف الحقّ في إخراجِ الرؤى والمَشاعِر والأذواق من ضيق المحدود إلى رحابة اللّامحدود، وعرْضِ طروحاتٍ مستجدّة في رؤية الذّات والعالَم؛ إذ يقَع الكاتِب أحياناً في شراك الانغلاق بدعوى الدّفاع عن الخصوصيّة والانتصار للهويّة، وهو في الحقيقة يُعلي من جدران الانزواء بما يقلِّص من قنوات التواصل مع المُغايِر والمُختلف، في ظرفٍ يستدعي أن يكون تواصُل المَشاعر والأفكار حاضراً بين المثقّف وسائر الخلق ضمن رؤية كونيّة شاملة. ولذلك لا يَكتب الكاتِب إلى قَومه وعشيرته، أو نحلته، حين يَكتب، بل يَكتب إلى عالَمٍ أرحب، وإنْ طرحَ مُشكلاتِ أفرادٍ أو قضايا فئاتٍ هُم مِن ذويه وأهله وأبناء جلدته، ومن هنا وجب التنبُّه إلى جدل العالَم الأصغر مع العالَم الأكبر. فمن ضمن هذا السياق يأتي إلحاح أنطونيو غرامشي على بناء قاعدة عامّة تكون بمثابة طوق النجاة للصلة الرابطة بين الثقافة والمجتمع.

صخرة الأيديولوجيا الجاثمة

لا مناصّ في ظلّ أوضاع القبض المُنافية للبسط، في المَشاعر والرؤى، من التدحرُج إلى هوّة الانحصار اللّغوي المتجلّي في تكريس العاميّة وإعلاء شأن الدّارجة تحت مُبرّرات عدّة، لتنتهي العمليّة إلى “قتلٍ رحيمٍ” للإبداع الأدبي. وفي الواقعَين الفرنسي والإيطالي الطافحَين باللّهجات واللّغات، كلّ عمليّة كِتابة خارج اللّسانَين الأوسع انتشاراً بين الناس، أي الفرنسيّة والإيطاليّة، هي تفريط في مزايا اللّغة الجامِعة التي هي ثروة عامّة ومُتاحَة للجميع.

وعلى العموم تخلق الثقافة المُنغلِقة رؤىً مُضلِّلة، معبِّرة عن شريحة متحكّمة تبحث عن ترويج أنماطها وقيَمها، متغاضيةً عن الثقافة العامّة وعن القضايا الجماعيّة؛ حيث يصرّ الفكر الانعزالي في فرْض رؤاه على الجموع ويُمعِن في إنسائهم همومهم الحقيقيّة، حتّى يُخرِج الجموعَ من قضاياهم ليتبنّوا قضايا غيرهم. فيرطن الحشدُ بلسانٍ غير لسانه، ويحلم أحلاماً غير أحلامه، وهو مستوى متطوِّر من الاغتراب في الوعي واللّاوعي. وعندها لا يجد المرء ذاته في ما تُنتجه الثقافة، فيستهلك أمراً واقعاً، بعيداً عن آماله وتطلّعاته، إنّها ورطة مجتمع متجليّة في أفراده.

ومن البديهي أن تكون الساحة الثقافيّة مجالاً للصراع الأيديولوجي، تسعى فيها قوى الهَيمنة للتحكُّم، عبر موجِّهيها ومموِّليها وداعميها. من هنا تبدو هشاشة الأديب وسهولة استقطابه. والكاتِب العربي كلّما حاول نسْج علاقة سامية مع واقعه، جابَهَ صخرة الأيديولوجيا جاثمةً في طريقه. وبموجب هذا المأزق يأتي تفكيك جغرافيّة السلطة سبيلاً لموْضَعة الأدب داخل إطاره الاجتماعي الديمقراطي. هذا الوضع مُدعاة للتساؤل عن واقع الأدب العربي ومَصائره، وقد بات أقلّ الآداب حضوراً على الساحة العالَميّة، ليس لقلّة الترجمة – كما يروَّج عادةً – وما يصحب ذلك من تحمّسٍ صبيانيّ لنقله إلى لغات أخرى، ولكنْ لأنّ الأدب العربي صار خفيفاً أجوف بعْدَ أن ضلّ طريقه، لا هو شرقي ولا هو غربي، لا هو تراثي ولا هو حداثي، كما عبَّر لي ناقدٌ غربي متمرِّس بالآداب العالَميّة. وبوصف الرواية جنساً إبداعيّاً يُحدّثنا من داخل المجتمع، تَجِد النصَّ الحانق والمتمرِّد يعرض مجتمعه للغرب، الذي بات مرآة العالَم، في قالب فضيحة، تلبّي حاجات المِخيال الإيزوتيكي ونزواته؛ إذ يسكن في الكاتِب المُتواضِع هاجسُ العالَميّةِ التي عمادها التشهير، وذلك على حساب كيانه. فيتوهَّم كثيرون كتابة النصّ الظاهرة والرواية الحدث، مع أنّ دَور الأديب ليس في نبْش الواقع وتعريته فحسب، بل في العمل على تغييره وتحويره أيضاً.

واللّافت ألاّ عاصمَ لكِبار الكتّاب أيضاً من الوقوع والسقوط، فتجد منهم مَن ينقلب على عقبَيه مُنحدِراً إلى وادٍ سحيق؛ ولكنّ ذلك لا ينزع عنهم قدراتهم الإبداعيّة. الكاتِب الإيطالي المُعاصِر كلاوديو ماغريس عبَّر عن هذه المتاهة بقوله: “العديد من كِبار الكتّاب في القرن العشرين انحازوا إلى الفاشيّة أو النازيّة أو الشيوعيّة، وكانوا من المغرَمين بستالين، ومع ذلك يشدّنا كلفٌ إليهم، ونتفهَّم المَسار المتعرِّج والمؤلِم غالباً، الذي جرَّهم إلى التماهي مع الداء يحسبونه دواء. نواصل التعلُّم منهم إنسانيّة عميقة، لم يطمسها تيههم الأيديولوجي، لكنّهم في مجال السياسة لا يفقهون سوى النزر القليل”.

فتنة الأدب بين الانزواء والتسويق

لا يُمكن أن يغدو العملُ الروائي داعية انغلاق، أيّاً كان نَوعه، فالأدب يأبى أن يصير بياناً سياسيّاً أو دينيّاً أو فئويّاً لارتباطه بالحياة. وإن أطلَّت السياسة من العمل الأدبي فليس ذلك أمراً مُعيباً، إذ المتَّهم هو التحزُّب المقيت، وقياساً على ذلك، ليست الطائفة مُدانة بل الانغلاق على الطائفة. لأنّ الأدب ينبغي أن يبقى رحلةً ممتدّة بين كتابة يُدافع فيها الكاتِب عن قيَمه الخاصّة وآلهته الخاصّة، وأخرى يصغي فيها إلى شياطينه ويُردِّد ما توحي به إليه من زخرف القول، حتّى حين يقول أشياءً تسفِّه قِيَمه، كما أشار إلى ذلك سابق الذكر ماغريس.

وبالمثل تتهدَّد الأدب عاهة أخرى لا تقلّ خطورة عن الانغلاق الرؤيوي، وإن اتَّخذت طابع الانفتاح والانتشار، تتمثَّل في حالة تسليع الإبداع الروائي ورسْمَلته داخل دَورةٍ ربحيّة موسَّعة، ولم تقتصر العمليّة على النصّ، بل تعدّته إلى استثماره من ضمن الصناعة السينمائيّة والفنيّة، مُستحوذةً على أبعاده كافّة. فقد باتت عناصر الصناعة الثقافيّة في الغرب بيَد شركات احتكاريّة، لا تنشد تطوير الوعي وترشيده، بل تهدف إلى تحفيز الاستهلاك وتوسيع شبكة الترويج. والخطورة العمليّة تبقى كامِنة في تسطيح الوعي لدى المُستهلِك، والانحراف به نحو رؤى ومَواقِف أيديولوجيّة. وما تدخُّل المُحرِّر في دُور النشر الكبرى في العمل الأدبي قبل تسليعه، بالتهذيب و”الريتوش” حتّى يُلائِم السوق، سوى خروج بعمليّة المُراجَعة من أُفقٍ جمالي إلى فعْلٍ تجاري؛ وذلك لما للمُحرِّر من درايةٍ بأذواق المُستهلِكين وأنواعهم وأعمارهم. يأتي ذلك من ضمن دَمْغَجَةٍ مقصودة، تستهدف ضبط الأذواق والتصوّرات. وربّما يكتب الكاتِب أحياناً من دون وعي بأحابيل السوق، وأن يُشترى إبداع الكاتِب قبل إنتاجه في الغرب، إنّها ذروة التحكُّم بلاوعي الكاتِب اليوم. إنّه إخضاعٌ للأديب والمُبدِع إلى قانون السوق وجعْلهما في ارتباطٍ مصيري معه.

أتجوّلُ في حيّ “سان لورانسو” في روما، المعروف بدِفئه الإنساني، وتواضُع محلّاته، وبساطة ناسه، أجدُ مَكتباته “الحمراء” و”الشعبيّة” خاوية مقفرة، روّادها قلّة، في حين تعجّ كبريات المَكتبات في غيره من الأحياء الراقية بالمُستهلِكين بما يُشبه روّاد “السوبر ماركت” و”المول” في تبضّعهم، فيتملّكني خوفٌ على الوعي البشري في الشرق وفي الغرب.

Optimized by Optimole