الأسطول الروسي يغيّر المعادلة الجيوستراتيجية في المتوسط

Spread the love
حاملة طائرات روسية
حاملة طائرات روسية

بقلم: نزار عبد القادر* — نقلت وكالة «تاس» الروسية في 21 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري أن حاملة الطائرات (الوحيدة) التي تملكها روسيا (الأميرال كوزناتسوف) غادرت قاعدتها القطبية مع سبع سفن مرافقة متجهة إلى شرق البحر المتوسط. تعتبر هذه الرحلة جزءاً من استراتيجية الرئيس فلاديمير بوتين لتأكيد دور موسكو كقوة عظمى من جهة، والاستفادة من قدراتها النارية في الحرب السورية التي قرر خوضها قبل أكثر من عام من أجل الحفاظ على نظام بشار الأسد.
من المتوقع أن تنضم الحاملة والسفن المرافقة خلال أيام إلى الأسطول الروسي الذي استحضر من البحر الأسود إلى شرق المتوسط من أجل مؤازرة ودعم القوات الروسية التي تعمل من قاعدتي حميميم وطرطوس. واللافت أيضاً أن بعض المراكب المرافقة للحاملة مزودة صواريخ جوالة من طراز «كاليبر»، التي سبق للقيادة الروسية أن استعملتها من بحر قزوين لقصف مجموعة من الأهداف داخل سورية. السؤال المطروح الآن يتركز على مدى حاجة روسيا لاستعمال حاملة الطائرات من أجل دعم عملياتها الجوية في سورية.
وفي رأي خبراء أنه كان في إمكان بوتين إرسال المزيد من المقاتلات المتطورة إلى سورية للاشتراك في عمليات حلب وفي الشمال السوري بدل تحريك الحاملة مع مجموعة السفن المرافقة. من المعروف أيضاً أن الكلفة المترتبة على هذه العملية البحرية مرتفعة جداً بالمقارنة مع زيادة عدد الطائرات العاملة من قاعدة حميميم السورية. إن اللجوء لاستعمال حاملة الطائرات لا يعدو كونه «عرضاً للقوة» أراده بوتين لتغيير المعادلة الجيواستراتيجية في شرق المتوسط وذر الرماد في عيون الولايات المتحدة وحلفائها في حلف شمال الأطلسي. يمكن للقيادة الروسية خلال أيام معدودة استعمال الطائرات الأربعين الموجودة على الحاملة من طراز SU33 و MIG29 بالإضافة إلى صواريخ كاليبر التي تحملها السفن المرافقة ومن بينها الطراد بطرس الأكبر في عملياتها في سورية، خصوصاً في مدينة حلب.
ويبدو أن اللجوء إلى استعمال القوات البحرية بهذه الكثافة في مسرح العمليات السوري قد جاء على خلفية الحفاظ على التوازنات بين القيادات العسكرية الروسية البرية والجوية والبحرية. تعتبر هذه المناورة البحرية بمثابة تعويض معنوي للقيادة البحرية بعد أن اقتصرت العمليات العسكرية في الشيشان وجورجيا وأوكرانيا على القوات البرية والجوية.
ويعود تنامي الوجود البحري الروسي في شرق المتوسط إلى عام 2013 أي قبل سنتين من اتخاذ بوتين قرار المشاركة في الحرب السورية في أيلول (سبتمبر) 2015، وفي وقت سابق للأحداث في شرق أوكرانيا واحتلال شبه جزيرة القرم وإلحاقها بروسيا. ويأتي هذا التنامي للقوة البحرية الروسية في البحر المتوسط وفي مناطق أخرى كالمحيط الهادي، ضمن سياق السياسة الدفاعية الروسية الجديدة بالعودة إلى توزيع القوات البحرية على غرار ما كان معمولاً به خلال فترة الحرب الباردة. هناك مؤشرات عدة على وجود قرار روسي لاستعادة دور القوة العظمى، إذ تفيد بعض التقارير عن قرار بتسريع العمل لتحديث سفن الأسطول وتسليحها بصوارخ بحر- بحر متطورة من طراز زيكرون 3/ M22 وبصواريخ كاليبر البعيدة المدى، بالإضافة إلى نموذج بحري جديد من صواريخ S400 المضادة للطائرات والصواريخ.
يأتي تنامي الوجود البحري الروسي قبالة السواحل السورية بعد توقيع اتفاقية بين موسكو ودمشق تجيز لروسيا استعمال قاعدة حميميم الجوية كما تجيز تحويل القاعدة البحرية في طرطوس إلى قاعدة دائمة للأسطول الروسي. ولا بد من الإشارة إلى وجود قوات برية روسية يقدر عديدها بـ 2000 جندي معظمهم من القوات الخاصة الروسية. سيشكّل هذا الحشد الروسي بعد انضمام حاملة الطائرات والسفن المرافقة إلى الأسطول الذي استقدم من البحر الأسود، الذي يضم عدداً من الغواصات النووية، قوة بحرية كبرى قادرة على منع الأسطول الأميركي وقوات حلف الأطلسي البحرية من الإبحار قبالة السواحل السورية. وتشكل شبكة الدفاع الجوي من صواريخ أس 400 التي نصبتها موسكو على الساحل السوري قوة مساعدة من أجل منع أي اختراق جوي غربي للأراضي السورية.
صحيح أن الولايات المتحدة وحلفاءها يملكون قدرات جوية وبحرية متطورة، ولديهم أيضاً تجاربهم العملانية والتكتيكية لمواجهة مثل هذا الحشد البحري والجوي الروسي، لكن هذا لا يعني أبداً أن الدول الغربية لديها النية أو أنها ستركب المغامرة لمواجهة الأسطول الروسي والعمل على إفشال مهمته في سورية والتي تتركز وفق تقديراتهم على تحقيق انتصار عسكري محدود في حلب.
لا بد هنا من الإشارة إلى أن الجهود العسكرية الغربية تتركّز في هذا الوقت في جبهتين: الأولى، استكمال الحرب ضد الإرهاب من خلال العمل على تحرير الموصل وبعدها الرقة من سيطرة «الدولة الإسلامية». والثانية، حشد القوى العسكرية اللازمة في بولندا وجمهوريات البلطيق لمنع روسيا من تنفيذ أي هجوم مباغت على هذه الدول على غرار ما حدث في أوكرانيا.
لم يعد البحر المتوسط في ظل هذا الحشد الروسي البحري «بحيرة غربية»، ولم تعد الأساطيل الأميركية والفرنسية والبريطانية قادرة على فرض سيطرتها المطلقة على شرقه أو جنوبه أو غربه، حيث تبحث روسيا ومعها الصين عن قواعد بحرية وتسهيلات جوية لدى بعض الدول المتوسطية وفي مقدّمها مصر.
وتحوّل البحر المتوسط إلى مسرح واسع للتنافس الجيواستراتيجي بين روسيا والدول الغربية، حيث تشكل سورية نقطة المركز للصراع، مع اختلاف ظاهر في تحديد الأهداف والأولويات بين روسيا والدول الغربية. فالغرب يؤكد منذ عام 2014 أن أهدافه الاستراتيجية تتركّز على الحرب ضد الإرهاب وتفكيك «الخلافة الإسلامية»، بينما تؤكد روسيا أن هدفها الحرب على الإرهاب، في الوقت الذي تسعى جدياً إلى إنقاذ نظام بشار الأسد وإبقائه في السلطة كحليف دائم.
صحيح أن الأزمة السورية باتت تشكل عين الإعصار بالنسبة إلى روسيا، ولكن، لا بد من النظر إلى الخريطة الأوسع للصراع بينها وبين الغرب، وهذا ما يدفع المراقبين إلى اعتبار الدور الروسي في سورية والحشد البحري في المتوسط التفافاً على حلف شمال الأطلسي وفتحاً للجبهة الجنوبية ضده، وبالتالي إحراج الولايات المتحدة في علاقاتها مع حلفائها الشرق أوسطيين.
ويبدو أن التاريخ يعيد نفسه إذ بدأت روسيا محادثات مع مصر لاستعمال بعض القواعد الجوية والبحرية هناك، في محاولة لاستعادة البنية الإستراتيجية التي كانت قائمة في ظل الاتحاد السوفياتي. ومن الواضح أن روسيا تهدف من نشر أسطولها في المتوسط وإقامة قواعد جديدة له إلى توسيع دائرة نفوذها في المتوسط والشرق الأوسط، باعتمادها مقاربة «ديبلوماسية البوارج الحربية» التي سبق أن استعملتها الدول الغربية خلال القرنين الماضيين.
لكن يجب أن لا يحجب البحث في الاستراتيجية الروسية الجديدة عن أنظارنا الأهداف المباشرة التي تسعى روسيا إلى تحقيقها من خلال هذا الحشد الكبير، فالواقع الراهن على الأرض السورية يؤكد أن موسكو تريد أن تحسم معركة استعادة حلب إلى كنف النظام السوري بأسرع وقت ممكن، وأن هذه العملية تتطلب المزيد من القاذفات والوسائل النارية المدمرة، والتي تفوق قدرات القوى الموجودة الآن في قاعدة حميميم. يمكن الطائرات الموجودة على حاملة الطائرات تأمين المزيد من الطلعات الجوية والقدرات التدميرية لإقناع فصائل المعارضة المسلحة في شرق حلب بقبول الشروط الروسية لمغادرة المدينة، أو تدمير هذه الأحياء كلياً في حال رفضها الانصياع لمشيئة موسكو.
يدرك الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة أن روسيا باتت تمسك بالوضع العسكري في سورية، وذلك بعد أن هيأت البنية العسكرية الاستراتيجية التي تؤمن لها حرية المناورة والعمل من دون خشية من تدخّل غربي في مسرح العمليات في حلب أو ضد المنشآت العسكرية التابعة للنظام السوري، على غرار ما أوحت به المعلومات التي أوردتها وسائل الإعلام الأميركية عن تقليب أوباما مع طاقم الأمن القومي الأميركي الخيارات التي يمكن اعتمادها للتأثير في مسار الأزمة السورية.

* باحث لبناني في الشؤون الاستراتيجية

المصدر: صحيفة الحياة

Optimized by Optimole