أطروحة القرآن في الأمن الاجتماعي والسياسي(فساد الاعتقاد وشروط السلامة)

Spread the love

شجون عربية _

بقلم: فرح موسى/
لا شك في أن القرآن الكريم يعطي حيزًا واسعًا في آياته المباركة لموضوعات الأمن والأمانة والإيمان،لكونها كلها تعود إلى أصل لغوي واحد وهو الفعل(أمن)،وهذا ما يبين حقيقة تفاعل هذه العناوين لجهة ما لها من تحققات خارجية؛ذلك أن كل مفردة من هذه المفردات تعكس حقيقة الأخرى إن لم تكن شرطاً في وجودها،وقد بين النحاة واهل البلاغة هذا المعنى،بقولهم أن المشترك اللفظي في اللغة ينبع من الإشتراك في المعني،أو يفظي إلى معان مشتركة.وهكذا ،فإن مدلولات هذه المفردات تتداخل لتشكل منظومة واحدة في فضاء دلالي واحد،ويكفي الباحث تدبرًا أن يعلم أن من أسماء الله تعالى،المؤمن،كما قال تعالى:”السلام المؤمن المهيمن..”،فهو الذي يعطي الأمان لعباده،وقد جاء في الحديث عن رسول الله ص أنه قال:إن اسم المؤمن مشتق من اسمه تعالى،فسماه مؤمناً،فهو مني وأنا منه،كما جاء في مضمون الحديث.وبما أن الله هو الذي يعطي الأمان فقد فعل ذلك متفضلًا ومنعمًا،بعد الهبوط الأدمي،فقال تعالى:”فإما يأتينكم مني هدًى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.”.وفي آيات أخرى لا يجوع ولا يعرى ولا يظمأ،فهذا كله من الوعود الإلهية لعباده فيما لو اتبعّوا الهدى،وعقلوا عن ربهم،وكانوا عند شهاداتهم لله تعالى،فهو الذي أعطى الإيمان لعباده ليكونوا قائمين بالحق،ومؤدين للغاية التي خلقوا من أجلها،أن يكونوا عابدين عارفين،كما قال تعالى:”وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون.”.وانطلاقًا من هذا التأسيس لمعنى الأمن،نعرض لأهم موقف قرآني عرضت له الآيات المباركة،وهو موقف يتعلق بحقيقة ما يحتاج إليه الإنسان من أمن وأمان ليكون مستقرًا في حياته الفردية والإجتماعية،فالقرآن كما يعلم أهل التدبر ينطوي على منظومات دقيقة في معنى الأمن،سواء في دائرة النفس الإنسانية وحمايتها،أو في دائرة العقل،أو في دائرة المال،أو في دائرة السعادة الدنيوية،تمهيدًا للسعادة في الدار الأخرة،هذا فضلاً عما لحظته الآيات في نطاق الأمن الفردي والإجتماعي،وبهذا اللحاظ يمكن النظر الى ما مّن الله به على أهل مكة من نعمة الأمن والأمان،حيث قال تعالى:”فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وأمنهم من خوف..”.إن مسألة الأمن في الرؤية القرآنية ترتبط بخلافة الإنسان لما يعنيه الأمن من تجوهر في تأدية العباد لأدوارهم في خلافة الأرض،إذ من دونه تستحيل الحياة،وتنعدم فرص الحياة والكدح إلى الله تعالى.ولعل مفاد آيات الأمن في معنى ولاية الأمر ناظر إلى حقيقة أن هذه الولاية تشكل شرطًا وجوديًا في تحقيق التكاليف الإلهية؛وإلا فما هي ضرورة أن تدعو الآيات القرآنية إلى رد الأمور في الأمن والخوف الى الرسول وأولي الأمر لو لم يكن لهذه الولاية أثراً جوهريًا في استقرار حركة العباد وكدحهم الى الله تعالى.الله يقول:”إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه الى الرسول والى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم..”.فالآية صريحة في جعل الولاية والأمن على ترابط وثيق لتحقيق الاستقرار الاجتماعي،وهذا ما لم يتعقله المسلمون في تاريخهم،أو تعقلوه وانقلبوا عليه طلباً للدنيا،وكانت النتيجة الخروج مجددًا الى الظلمات بما كسبته أيدي الناس،فاستحال الأمن وانعدمت الحياة السعيدة التي كان يفترض على الإنسان المحافظة عليها كي لا يظمأ ولا يعرى،ولا يخاف ولا يحزن.فالأمة الإسلامية أصيبت بكل هذا،لكونها اختارت غير الهدى الإلهي،وهذا مما لا نحتاج الى الدليل للبرهنة عليه،ويكفينا أن نضرب بطرفنا حيث شئنا،فهل نجد،كما يقول الإمام علي ع،إلا فقيرًا يكابد فقراً وغنيًا بدّل نعمة الله كفرًا،ومتمردًا كأن بأذنه عن سمع المواعظ وقرًا..!؟هذا هو حال الأمة التي تاهت عن ذكر ربها فلم لم تستوِ على خير أبداً،فضاعت مقداساتها وغربت عن ذاتها حتى باتت شر أمة بما لحق بها من هوان بعدما بعثت خير أمة !إن ما يعنينا في هذه المداخلة في معنى شروط السلامة لكل أمة هو أن يعلم من يختار سبيل الله وهديه،أن الأمن والأمان مشروط بطاعة الله تعالى،فإذا انعدمت الطاعة ولم تجتنب الكبائر فلن يكون الأمن عطاءً إلهيًا ،لأن الأمن في الأساس ليس منحة ولا هو جائزة لمن يرى في نفسه استحقاقًا،وإنما هو فعل التزام وتقوى وإخلاص في العبادة،ولهذا نحن نرى أن مفاد قوله تعالى:”الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون.”.فهذا القول ليس كما ذهب الى تفسيره الكثيرون أنه مع الشرك بالله لا بد أن ينعدم الأمن تعويلًا منهم على تفسير رسول الله ص له بأن الظلم المقصود في الآية هو الشرك،كما جاء في قوله تعالى:”إن الشرك لظلم عظيم.”.فالآية،كما نرى،مفيدة لهذه الدلالة حتمًا،ولكنها لا تستثني الكبائر التي يتسبب بها العباد لأنفسهم،وتؤدي بهم الى البلاء وانعدام الأمن،حيث قال تعالى:”إن تجنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم…”.نعم ،إن سياق الآيات جاء في الشرك وفي كلام النبي إبراهيم ع في هداية قومه،لكن ذلك لا يعنى أن الآية مخصوصة بالشرك بما يعنيه من صنمية وجاهلية بأن يتخذ العباد شريكًا لله وحسب،بل من معاني الآية آيضًا أن لا نلبس إيماننا بظلم بأن لا نتخذ من الأصنام البشرية ألهة كما نفعل في حياتنا المعاصرة،حيث إننا لا زلنا نتابع المسير على خطى أجلاف مكة المساكين الذين زادتهم الأمم كفرًا ونفاقًا وجاهلية،إذ لم يبق طاغوت إلا وعبده الناس وقدموا له القرابين.نعم هم مساكين إزاء ما هم عليه الناس اليوم من أديان ومذاهب وعبادات تشرك بالله تعالى،ولهذا انعدم الأمن واستحالت الحياةالى جحيم!فالشرك لا يكون باتخاذ الصنم الحجرى أو الخشبي وسيلة للتقرب زلفى فقط ،بل يكون بكل صنم بشري أيضًا يتخذ الناس منه إلهاً.وهنا نجزم القول صادقين،إن الناس قديمًا كانوا إذا سمعوا ذكر الله يشمئزون،وإذا ذكر الذين من دونه ،من سلاطين وأموال يستبشرون،فإننا نسأل،هل تغير هذا الحال للناس في عصرنا الحاضر في كثير من نواحي حياتهم؟؟،فهم لا يستبشرون إلا بمن يعطيهم فرص الدنيا،ويلبسون إيمانهم بظلم،وهذا ما أدى الى اضطراب حال الناس دينًا ودنيا فكانوا مصداقًا لقول الإمام علي ع:”شر البلاد بلد لا أمن فيه ولا خصب.”،وهذا ما توعد الله به العباد،أن يكون الخوف بديلًا للأمن مع كل ما يمكن أن يستتبعه من بلاءات،كما قال تعالى:”ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات..”.فالآية تقدم الخوف على غيره مما قد يصيب الناس من البلاءات على شركهم ،سواء الخفي أو الجلي..وإذا كان الخوف يشكل بداية لكل تحول اجتماعي فلينتظر الناس أذاً ما هم صائرون إليه من بلاءات إلا أن يعودوا الى هدي ربهم ليكون لهم ما وعدهم من الأمن والأمان،فهذا شرط وجودي لحلول النعم،وما دامت الأمم قد سلكت طرق الخوف باختياراتها البالية والباطلة،فإن ما هو منتظر ليس أكثر مما هو مستحق لها من العذاب.فالشرك ليس صنمية حجر أو خشب وحسب،بل تحول ليكون صنمية بشرية ومالية وسلطوية تعبد من دون الله تعالى،وهذا ما أدى الى أن تكون الأمم على خوف وبلاء،فضلًا عما لحق به من ضلالة في الدين والدنيا.والسلام.