أسرار الانقلابات العسكرية في سوريا (1949 – 1969)

Spread the love

بقلم: د.محمد عبدالرحمن عريف* — إنها الدولة السورية، في كنف الانتداب الفرنسي 1925، واستمرّ حتى تأسيس الجمهورية السورية الأولى عام 1930، خلفًا للاتحاد الفيدرالي السوري. شملت حدود الدولة، حدود دولة دمشق ودولة حلب بما فيها مقاطعة الجزيرة، دون حكومتي اللاذقية والسويداء. وأديرت مباشرة من قبل رؤساء وحكومات معينين من قبل المفوض الفرنسي السامي.
توالى عليها حكم ثلاث رؤساء، حملوا لقب “رئيس الدولة” هم صبحي بركات، وأحمد نامي، وتاج الدين الحسني. وما إن أتمّ المفوض الفرنسي رحلته وعاد إلى مركزه في بيروت، حتى أعلن في 5 كانون الأول/ ديسمبر 1924 حل الاتحاد السوري وقيام وحدة سورية بين مقاطعتي دمشق وحلب، اعتبارًا من أول كانون الثاني/ يناير1925.
بالحديث عن الجمهورية السورية المستقلة في 1946، بعد سنوات من الحكم الفرنسي بعد الحرب العالمية الثانية، على الرغم من أن الحكم الديمقراطي انتهى بانقلاب بدعم من الولايات المتحدة في آزار/ مارس 1949، تلاه انقلابين آخرين في نفس العام. شهدت انتفاضة شعبية ضد الحكم العسكري في 1954 نقل الجيش السلطة إلى المدنيين. ومن 1958 إلى 1961، حل اتحاد قصير مع مصر محل النظام البرلماني السوري بحكومة رئاسية مركزية.
في هذا السياق يأتي كتاب “أيام عشتها 1949 – 1969/ الانقلابات العسكرية وأسرارها في سورية” لمحمد معروف أحد الرجالات العسكرية التي شاركت وخططت لأكثر من انقلاب ليقدم شهادته على مرحلة امتدت من انقلاب الزعيم عام 1949. في مستهل كتابه يحاول الكاتب توضيح بعض النقاط وتسجيل بعض الملاحظات المتعلقة بالمعلومات التي يقدمها في هذا الكتاب عن تلك المرحلة الزاخرة بالاضطراب السياسي الذي عاشته سوريا بما فيها مصدر المعلومات وكيفية تقديمها للقارئ، فهو يعتمد على الذاكرة وعلى ما سبق ما دونه في دفاتره معتمدًا في ذلك على ما قرأه أو سمعه دون أن يكون في نيته القيام بعلمية توثيق لتلك الوقائع والأحداث التي شارك فيها أو عاشها عن قرب، إذ تأتي هذه الشهادة نابعة من شعوره بغنى تلك المرحلة التي يسرد تفاصيلها من خلال موقعه فيها كمشارك وعلمه بما كان يجري من انقلابات وتحولات وتحالفات سرعان ما كانت تختفي لتظهر مكانها تحالفات جديدة تقود البلاد إلى انقلاب جديد على رفاق الأمس، ما جعل الأحداث تتداخل وتتميز باستمراريتها، لكنه رغم ذلك يشير إلى أن ما يكتبه ليس مذكرات بل هي ذكريات يقدِّمها بعين الشاهد ويدّونها في إطار سياقها التاريخي.
يفتتح الكتاب بالحديث عن نشأته الأولى وصولًا إلى التحاقه بالكلية الحربية والمناطق التي خدم فيها أثناء الانتداب الفرنسي على سوريا، ومن ثم التحاقه بالجيش الوطني. كما يقدِّم تعريفًا بعدد من الشخصيات السورية الفاعلة التي كانت تمثل رموزًا شعبية في مناطقها، وتلعب دورًا هامًا في مناطقها، ومن أهمها شخصية سليمان المرشد التي قيل عنها الكثير إذ يحاول الكشف عن ملابسات حركته وعلاقته بالفرنسيين واعتقاله والحكم عليه بالإعدام.
عن المشهد العسكري يكشف الكاتب أن موقعه كضابط فيما كان يعرف بالشعبة الثانية (المخابرات العسكرية) قد سمح له بالاطلاع على كل ما كان يجري من فتن، وما يدبر من مؤامرات لاسيما الفتنة بين آل الأطرش وآل العسلي من جهة والحركة الشعبية من جهة ثانية في جبل الدروز، ثم يتحدث عن حرب فلسطين التي شارك فيها وكان شاهدا عليها بدءًا من تمسك الملك عبدالله في الأردن بأن يكون قائدًا للجيش العربي، ومرورًا بالمعارك التي كانت تجري على مختلف الجبهات والدور الذي لعبته بريطانيا وأمريكا في إنقاذ العصابات الصهيونية من الهزيمة، إلى جانب ندرة السلاح التي خلقت واقعًا من عدم التوازن في القوى العسكرية على الأرض.
إن أول ما يكشف عنه في تاريخ الانقلابات في سوريا هو العلاقة المضطربة بين الطبقة السياسية والبرلمانية والمؤسسة العسكرية إذ يتهم بعض رموز القيادات الأولى بالتعالي والإساءة إلى القيادة العسكرية ما جعلها تتدخل عبر الانقلابات لإعادة الاعتبار لتلك القيادة كما حدث في انقلاب حسني الزعيم مثلا. ولئن كان فهم تلك المرحلة يستدعي رسم صورة وافية للمشهد السياسي في سوريا فإنه يحاول تسليط الأضواء على واقع الأحزاب الرئيسية قبل الاستقلال وبعده كالكتلة الوطنية وحزب الشعب المنشق عن الكتلة وحزب البعث والحزب السوري القومي في حين يغفل الحديث عن الحزب الشيوعي وحركة الأخوان المسلمين. وربما كان من أسباب هذا التجاهل غياب دورهم عن حركة الانقلابات التي كانت تتم آنذاك.
يركز الكاتب في هذا السياق على الدور الخطير والأساسي الذي لعبه أكرم الحوراني في صنع تلك الانقلابات الذي كما يصفه سرعان ما كان يتحول إلى معارض للانقلاب بعد أن كان يقف وراءه، الأمر الذي يجعله يقدّم صورة سلبية لشخصيته الغريبة سواء من خلال ما يسوقه من وقائع أو يقدّمه من أراء لشخصيات سياسية معاصرة له. كذلك يقدّم شخصية حسني الزعيم بوصفها شخصية شاذة وتسلطية ليس لها أي عقيدة سياسية.
نعم تبقى السلطة مصدر إغراء لكثير من السياسيين والعسكريين على حد سواء، حيث تعددت طرق الوصول إليها، كما تعددت طرق الاحتفاظ بها، وتجاوز القوانين من أجل الإبقاء عليها في أيادي أشخاص معينين، وقد كانت الانقلابات العسكرية إحدى أقصر الطرق للاستيلاء على السلطة من قبل العسكريين والسياسيين بعد أن يهيئوا الأجواء لذلك، كون الانقلاب يعتمد على عنصر المفاجأة وعلى العمليات السريعة والمحدودة نسبيًا، وعدم توسيع دائرة المواجهة المسلحة، وإبقائها ضمن إطار محدود، وغالبًا يعتمد على دعم خارجي من خلال الاعتراف بشرعيته وجعله أمرًا واقعًا، من خلال تغيير نظام الحكم السائد في البلاد عن طريق إطاحة الجيش بالحاكم، ليتولى القائد العام للجيش الحكم لتحقيق هدف ما، ربما يرتبط بتحقيق العدل والمساواة، وربما مجرد طمع في الحكم.
في الوسط من ذلك وفي القلب كانت سوريا من إحدى تلك الدول التي شهدت انقلابات عسكرية متتالية في تاريخها الحديث هزت استقرارها السياسي، حيث في كل مرة يستولي فيها الجيش على الحكم، وتكون الأسباب في معظم الحالات لأطماع شخصية تتعلق برغبة العسكريين بالاستيلاء على الحكم، غير أن المبررات التي كانوا يقدمونها تتمحور في معظمها حول فساد السلطة، وأوضاع البلاد المتدهورة، لذلك يضطر الجيش إلى تسلم زمام الحكم مؤقتًا في البلاد حرصًا على استقلالها وتهيئة حكم ديمقراطي صحيح، نظرًا لأنهم القوة الوحيدة في الدولة التي تمتلك التنظيم والأسلحة والعتاد، بالإضافة إلى ولائهم المنقطع النظير للمؤسسة العسكرية .
كانت بدأية تلك الانقلابات بانقلاب حسني الزعيم في 29 آزار/ مارس 1949. فاتحة سلسلة من الانقلابات العسكرية وهيمنة الجيش على الحياة السياسية. ويعتبر انقلاب الزعيم أول انقلاب في الشرق الأوسط وفي الوطن العربي أيضًا، وفاتحة تدخل الجيوش العربية في سياسة بلادها الداخلية؛ وقد وصفه فارس الخوري بكونه “أعظم كارثة حلّت بالبلاد منذ حكم تركيا الفتاة”. وقد تولت بموجبه، القيادة العسكرية بقيادة حسني الزعيم كلا السلطتين التشريعية والتنفيذية، ثم تولاها هو شخصيًا فيما بعد، كما تولى رئاسة الحكومة التي شكلها وفق مرسوم رئاسي، واحتفظ بحقيبتي الداخلية والدفاع، ثم أجرى في 26 حزيران/ يونيو 1949 استفتاءً شعبيًا كان الأول من نوعه في الشرق الأوسط، وفاز به بنسبة 99.9%، وعهد رئاسة الحكومة إلى محسن البرازي. من ثم حدث انقلاب سامي الحناوي في 14 آب/ أغسطس 1949، تولى فيه الزعيم سامي الحناوي السلطة بعد أن نفذ حكم الاعدام بالرئيس حسني الزعيم ورئيس وزرائه محسن البرازي. ثم عهد سامي الحناوي، إلى هاشم الأتاسي بتشكيل الحكومة الجديدة وسلمه الصلاحيات التشريعية والتنفيذية في نفس يوم الانقلاب، وذلك وفق مرسوم أصدره سامي الحناوي، ومن ثم عهد إليه برئاسة الجمهورية بشكل مؤقت ريثما تجرى انتخابات رئاسية وتشريعية حرة.
لم يدم انقلاب سامي الحناوي طويلًا، حتى قام الشيشكلي يوم 19 كانون الأول/ ديسمبر 1949 بانقلاب جديد، وظل الرئيس هاشم أتاسي في رئاسة البلاد فيما يعرف بالحكم المزدوج حتى 28 تشرين الثاني/ نوفمبر 1951، حيث نفذ الانقلاب الرابع ليستلم أديب الحكم مباشرة بعد أن اتهم هاشم أتاسي وحزبه (حزب الشعب) بالخيانة ومحاولة عودة الملكية للبلاد.
يبقى أن ما يلفت النظر بغض النظر عن وجهة النظر الشخصية في الشخصيات والمواقف والأحداث التي يرويها المؤلف أن مرحلة الانقلابات التي يتناولها تتجاهل مرحلة الانقلابات الحاسمة في تاريخ سوريا بدءا من انقلاب اللجنة العسكرية للبعث بالتعاون مع الضباط الناصريين في 1963 ومن ثم انقلاب اللجنة على الناصريين وتصفيتهم، إلى جانب انقلاب 1966 وتفرد صلاح جديد وحافظ الأسد بالسلطة وبعده بأربع سنوات انقلاب الأخير على جديد ووضع نهاية لتاريخ الانقلابات في سوريا. وهكذا أدخلت الانقلابات العسكرية سوريا في لعبة العسكر ومصالحهم وارتباطاتهم الإقليمية والدولية، حيث لم تعرف سوريا الاستقرار السياسي منذ ذلك الحين حتى جاء انقلاب حافظ الأسد واستولى على السلطة واستطاع أن يحيل سوريا الى ملكية خاصة بعد أن تمكن من تصفية كل من يشك بعدم ولائه، معتمدًا على كل من جهاز الجيش والأمن في تنفيذ سياسته، وعلى التوافق مع المصالح الدولية والإقليمية.

*كاتب وباحث مصري.

Optimized by Optimole