هل هناك حظ؟

Spread the love

بقلم: سلام قاسم* — يقف الحظّ العاثر أمام الكثير من الأشخاص فيبعدهم عن تحقيق آمالهم وأحلامهم بعد أن خطّطوا لها وقتاً طويلاً، وبعد جهدٍ وتعبٍ متواصل تأتي الصّدفة لتهدم كلّ شيءٍ قاموا ببنائه، ومع ذلك هناك الكثير من النّاس الذين لا يؤمنون بهذا الكلام، ويعتبرون الحظّ مجرّد عذرٍ يتمسّك به أصحابه كي يبرّروا أخطاءهم وفشلهم في تحقيق الأمنيات.
تعبّر التقاليد السائدة في أي بلد عن ثقافة الناس ومعتقداتهم في ذلك البلد. ومن أجل إصلاح الأجواء الثقافية والمنهج الفكري السائد في أي مجتمع يجب القيام أولاً بإصلاح التقاليد والعادات السائدة لدى الناس في ذلك البلد؛ إذ لو تم القيام بهذا العمل فإن ذلك سيؤثر تلقائياً في مستوى أفكارهم ومعتقداتهم.
ولا شك في أن كلمة «الحظ» هي كلمة خرافية في ثقافتنا، تنتشر بمساعدة وسائل الإعلام، والبرامج الرياضية، ولعب الأطفال المتنوعة، وغيرها، وستبرز تأثيراتها الفكرية والعقائدية الناجمة عنها في الأجيال اللاحقة بشكل أكبر؛ بلحاظ الأجواء الثقافية السائدة في عالمنا المعاصر ومجتمعنا.
وهناك اعتقاد راسخ لدى الكثير من أفراد المجتمع اليوم بوجود الحظ، معتبرين إياه جزءاً من سبل النجاح ويعتقدون بأن الحظ يؤدي إلى تغيير حياة الكثير من الأفراد، وأنه السبب وراء الإخفاقات أو النجاحات غير المتوقعة.
الحظ كلمة فرنسية (Chance) بمعنى البخت، والنصيب، والنجم، والطالع، والإمكان، والمجال واستخدمت في اللغة الفارسية وأدبها الكثير من المصطلحات اللغوية التي تعبّر بشكلٍ ما عن مدى استخدام كلمة الحظ والنصيب.
والحظ اصطلاحاً: عبارة عن جملة من الآثار التي تحصل للفرد في الخير أو الشر، أو هو الحادثة الواقعة على أثر أسباب وعلل غير معلومة وغير متوقعة.
طبقاً للتعاليم الدينية لا تقع أية حادثة في هذا الكون عن طريق الصدفة، وكل شيء فيه يقع ضمن نظام دقيق متقن، وقائم على أساس سلسلة من علله. ولكن بما أن السبب الحقيقي للحوادث مخفيّ في أكثر الأحيان بالنسبة للإنسان يذهب الإنسان إلى الاعتقاد بالصدفة والحظ، ويصار إلى اللجوء لحسن الحظ أو سوء الحظ؛ في حين لو أزيح الستار عن سلسلة العلل فسيرى الجميع أن كل شيء لم يكن صدفة، ولا تقع أية حادثة في الحياة الدنيا على أساس الحظ والبخت والطالع. وإذا حصل أن نُسب أمرٌ ما إلى الحظ والطالع فإنه يعبّر عن جهل الإنسان بالحقائق الخفيّة الموجودة وراء الكواليس، والتي لا يستطيع الأفراد العاديون مشاهدتها بالعين المجردة، وإن كانت هذه الخفايا مكشوفة عياناً لأهل المعرفة والربانيين.
إنه لا يوجد في الإسلام شيء باسم الحظ، ولكن هناك حقيقة أخرى لعلها تعطي حلاًّ لبعض الإبهامات التي تكتنف مسألة الاعتقاد بالحظ؛ لأنه يحدث في بعض الأحيان أن فرداً يريد ـ على سبيل المثال ـ أن يؤدي عملاً معيناً يستغرق أياماً عدة، ولكن نجد أن الأمور تتضافر وتتيسر خلال فترة قصيرة، وبشكل متصل، بحيث إن كلّ مَنْ يطّلع عليها سيربطها بالحظ بشكل لا إرادي، ويقول: «يا له من رجل محظوظ!». أو في بعض الأحيان تُحلّ مشاكل الإنسان بشكل يسير وسلس تباعاً، وبأقل المتاعب، أو يحصل العكس من ذلك، بحيث تتوالى المشاكل، وتبرز الكثير من التعقيدات، في الأعمال ومجريات الحياة اليومية، بحيث لا يطلقون عليها أية تسمية أخرى غير الحظ. وهنا يأتي السؤال: لو لم يكن ذلك من الحظ فما هي التسمية المناسبة التي يمكن أن نطلقها على هذه الحالات؟ نقول في الإجابة عن ذلك: لا شكّ أن هذه الحالات قد حصلت في حياة الكثير من الأفراد، وهي تعبّر عن حقيقة أخرى غير الحظ، تُدعى التوفيق وعدم التوفيق.

أسباب التمسك بالحظ:
ـ عدم الإلمام بالحقائق: من أهم أسباب الإيمان بالحظ والخرافات بشكل عام هو جهل الناس وعدم إلمامهم بالحقائق؛ إذ إن الكثير من الانتهازيين قاموا على مر التاريخ باستغلال الناس عقائدياً ومالياً، مستفيدين من هذا العامل، لو فكرنا ملياً عندما يقع حادث اصطدام لسيارة لوجدنا أن ذلك كان ضمن الخطة والهدف، والقول بالصدفة ناجم عن جهلنا بالأمر، فعندما نجهل شيئاً ما نقول: “إنه صدفة”. إن القول بنسبية الصدفة يعني أن هذه الحادثة تعتبر صدفة بالنسبة إلى الشخص الذي يجهل تفاصيل الأحداث والقضايا، وأما بالنسبة إلى المطّلع على حقيقة الأحداث وتفاصيلها، وله إلمام بجميع الأوضاع والظروف، فهي ليست صدفة بأي شكل من الأشكال.

السعي إلى عدم اتهام أنفسنا: إحدى إجابات علماء الاجتماع على السؤال القائل: لماذا يؤمن الناس بالبخت والسعد؟ قولهم: إن الإيمان بالبخت والسعد ينتشر على الأكثر بين الذي ينظرون إلى الحياة نظرة سطحية عاطفية، ويبذلون جهداً أقل من غيرهم، ومن أجل دفع التهمة عن أنفسهم يتشدّقون ببعض الحجج، من قبيل: البخت والسعد. والحقيقة أن الإيمان بالحظ هو تبرير جاهل للهروب من النظام الذي عليه الوجود، وخلق أعذار غير واقعية وغير علمية لحوادث الحياة. إن الإيمان بالحظ مجرد عذر للتغطية على حالات الكسل والفوضى وسوء الإدارة والتصرف. ووفقاً لرؤية القائلين بالحظ فإن جميع اللصوص والكسالى هم مبرّأون، ويقع الذنب على عاتق الحظ السيّئ.
وما أجمل قول أمير المؤمنين الإمام علي(ع): «إذا قويت نفس الإنسان انقطع إلى الرأي، وإذا ضعفت انقطع إلى البخت».

مشاهدة التمييز والتفرقة في المجتمع: المجتمعات التي يعاني فيها الأفراد من عدم توافر الفرص المتكافئة للتنافس والمشاركة في الحياة، يلاحظ فيها إقبال أكبر على الحظ والبخت والطالع. وكلما اهتزت قواعد العدالة الاجتماعية، واضمحلت، ولم تراعَ الاستحقاقات وحقوق الآخرين، ولعبت العلاقات الشخصية والمحسوبية والواسطة دوراً مؤثِّراً في تقسيم الأعمال، كلما تأصلت نظرية البخت والحظ وأمثالها أكثر فأكثر، وتأخذ بالانتشار؛ لأن البخت يعني في الحقيقة أنه ليس هناك أي شرط لأي شيء. وشتان بين مَنْ يعترف بتأثير السعي والجد.

الدور الإعلامي لوسائل الإعلام: ويشمل هذا الإعلام شبكة واسعة من الحملات الدعائية للبنوك، وأجهزة الهاتف المحمول، وغيرها من الشركات، وصولاً إلى استهلاك أنواع المنتجات اللبنية، وحتى السيارات والأدوات الفنية والإلكترونية الجيدة. وتؤدي هذه الإعلانات بوعودها العجيبة، وآمالها الخيالية أحياناً، إلى إشاعة روح الإيمان بالحظ بين أفراد المجتمع. كما أن هذه الإعلانات بوعودها في الحصول على مقادير كبيرة من المال فجأة، من دون «عمل»، وعلى أساس قاعدة «الحظ» فقط، إنما تعزز ثقافة الكسل والمجانية، وتوقع الحصول على المال من دون عناء، حتى أنه يصار اليوم إلى إنتاج وتوفير الكثير من لعب الأطفال وأفلام الكارتون الجميلة الساحرة من أجل ترسيخ فكرة الحظ والسعد في أذهان الأطفال.

ضعف الإيمان: وبدلاً من استخدام الجمل والعبارات التي تنمّ عن الاستسلام والضعف الفكري لدى الإنسان، وضعف إرادته، والتفاؤل المفرط، وانغماسه في عالم الأوهام والتخيلات، على الإنسان المؤمن أن يلجأ إلى استخدام بعض الألفاظ والعبارات، من قبيل: عدم وجود المصلحة، عدم النصيب والرزق، أو أن الله لم يُرِدْ ذلك، وغيرها؛ ليضفي على نفسه الهدوء والسكينة، ولا ييأس من الحياة، وأن يجعل نصب عينيه عبارة القرآن الكريم: ﴿لَّيْسَ للإِنسَانِ إِلاّ مَا سَعَى﴾.

النتائج السلبية للإيمان بالحظ:
1ـ العيش في عالم الوهم والخيال: لعلكم تعرفتم على هذا النمط من الأفراد، الذين تراهم يشاركون في كل مسابقة وسحبة يانصيب، على أمل الفوز والحصول على جوائز. والمؤسف أن هذا النمط من الأفراد كثيراً ما نلاحظهم في مجتمعنا. وسوف ينتبهون ذات يوم إلى أنهم قد أضاعوا شبابهم وحياتهم في هذه الأوهام، وخسروا الفرص الأخرى للحياة أيضاً.

2ـ اليأس والتشاؤم: تستحوذ عليه حالة التفكير السلبي، والإيمان بنظرية الجبر الخرافية، والحتمية في خصوص المآل وعاقبة الأمور، والاعتقاد بعدم إمكانية تغيير ما كتب على الجبين منذ اليوم الأول للولادة. ويحبس نفسه في سجن من هذا النمط من الأفكار، ويصرّ على الفكرة القائلة: إن حظي كان عاثراً منذ اليوم الأول، ولن يتغيّر.

3ـ ركود الذهن وضمور الطاقات: شهد التاريخ بأن الأفراد الناجحين إنما حققوا نجاحاتهم بالاستفادة من العوامل الحقيقية، من قبيل: السعي، والتخطيط، ومعرفة القابليات، وغيرها، في حين أن القدرة على تقييم العوامل الحقيقية للفشل والنجاح مأخوذة من المؤمنين بالحظ. والنتيجة عن هذه الأفكار هي ركود الفكر والذهن وتوقفهما، وهما نفس الفكر والذهن اللذين كانا قادرين على تحقيق النجاح له لو أحسن استخدامهما.

4ـ التخلف عن ركب التقدّم والتطور: وفي أي موضع يتواجد الحظ فالعمل والنجاح يغطّان في نوم عميق. والمجتمعات التي تؤمن بالحظ تخلَّفت في الجانب العملي.
رغم ان الكثيرين اعتادوا على الاعتقاد بأن هناك اشخاصاً محظوظون واخرين لا يحالفهم الحظ ابداً إلا أن العلماء يرون عكس ذلك.
فوفقاً لأكبر دراسة أجراها العلماء حتى الآن ونشرتها صحيفة «صنداي تايمز» البريطانية حول الدور الذي يلعبه الحظ في حياة البشر، فإننا نحن الذين نتحكم في مقدرات حياتنا وليس للحظ أي دور في ذلك. فقد بدأ الباحثون من معهد صحة الطفل في جامعة بريستول دراسة شملت 14 ألف طفل في محاولة لمعرفة ما إذا كانت حياتنا محكومة بالقدر أم اننا نصنع قدرنا بأنفسنا. وتقوم هذه الدراسة على اساس بيانات تم جمعها من خلال بحث أجراه معهد الآباء والأطفال الذي جنّد نساء حوامل في عام 1990 وتابع منذ ذلك الوقت أحوال الأمهات والأطفال.

اما ستيف نوفيسكي، وهو عالم نفس وبروفيسور زائر في جامعة ايموري في ولاية أتلانتا الأميركية، والذي سيلعب دوراً رئيسياً في الدراسة، فيقول إنه يعتقد أنه يعرف بالفعل الإجابة عن هذه التساؤلات. ومن تجربته وعمله على المشروع لمدة ثلاثين عاماً، فإنه يرى أن الحظ هو انتصار طبيعة على طبيعة وأن شخصيات الأشخاص تؤثر على طبيعة مواقفهم وردود أفعالهم على ما يواجههم من تحديات. وقال نوفيسكي إنه يعتقد أن الناس ينقسمون الى مجموعتين عندما يواجهون مشكلة مجموعة الداخليين ومجموعة الخارجيين.
وأولئك الذين يندرجون تحت المجموعة الأولى يحللون ويتصرفون ويتعلمون من نتائج ما يحدث لهم ويعتقدون أن هناك علاقة بينهم وبين ما يحدث لهم.
أما اولئك الذين يندرجون تحت المجموعة الثانية فيعتقدون أنهم لا يسيطرون على أقدارهم، ولذلك فهم أشخاص سلبيون فإذا سقطوا أرجعوا ذلك الى حظهم السيئ بدلاً من أن يحاولوا معرفة أسباب سقوطهم وكيفية منع حدوث ذلك في المستقبل. وهذا الأسلوب يجعلهم عرضة لمزيد من الحظ السيئ.
ويرى نوفيسكي أن المندرجين تحت مجموعة الخارجيين تتقاذفهم أمواج الحياة ويكونون أكثر عرضة للانجراف الى حياة الجريمة بشكل أكبر من المندرجين تحت مجموعة الداخليين الذين يميلون الى تحقيق إنجازات كبيرة في حياتهم.
ويعتمد مستقبل الطفل على المجموعة التي سيجد نفسه منتمياً لها. ولذلك فإن تأثير الآباء والأجداد والمدرسين يعد مهماً للغاية بالنسبة للطفل وتصرفاته.
ويرى نوفيسكي أن الأطفال من أصول غنية أكثر احتمالاً لأن يصبحوا ضمن مجموعة الخارجيين عن الأطفال من أصول فقيرة الذين يجدون أنفسهم مضطرين الى مواجهة تحديات الحياة وقسوتها حتى ينجحوا.
ورغم أن الاعتقاد في الحظ يسيطر على تصرفات معظم البشر بل إن الأمثلة الشعبية في مختلف أنحاء العالم تشير الى ذلك مثل أمثالنا الشعبية ومنها «قيراط حظ ولا فدان شطارة» و«إقنع بما قُسّم لك». إلا أن علماء النفس يتزايد اقتناعهم هذه الأيام بالدور الذي يلعبه البشر في توجيه حياتهم.
وقد أجرى الدكتور ريتشارد وايزمان، وهو عالم نفس من جامعة هارتفوردشاير، دراسة استمرت ثلاث سنوات على 400 شخص عززت ما توصل اليه نوفيسكي. فقد اكتشف أن أولئك الذين يعتبرون أنفسهم محظوظين هم أشخاص متفائلون مقبلون على الحياة ومغامرون بينما أولئك الذين يعتبرون أنفسهم سيئي الحظ فهم متشائمون ومقتنعون منذ صغر سنهم بأن مصيرهم سيكون حتماً الفشل.
فمن المهم بداية أن تدرك أن مسألة الحظ تعتمد على مدى استغلال الشخص للفرص المتاحة أمامه ومهارته في خلقها لنفسه.

* أخصائية نفسية سورية.