يوم النصر العظيم

Spread the love

شجون عربية _ بقلم: د.طارق عبود

كانت تضع الحطب في الموقد،وتفكّر في ولدها المعتقل في الخيام، تراه ماذا سيأكل اليوم،ماذا يطعمونه؟وهل يقدمون لهم الطعام أصلًا؟
لقد مرّت عشر سنوات،ولم تكحّل عينيها برؤيته. كم اشتاقت لرائحته،وتلمّس خديه ويديه ووجهه الصغير. هو ما زال وراء القضبان.كلما خطت خطوةً في البيت تذكرته. مذ وضعته الداية أم محمود على صدرها. وعندما كان طفلًا صغيرًا يحبو على يديه،ولما بلغ سنّ المراهقة،وكيف تغيّر ونضج عندما أحبّ جارتنا فاطمة،وصار يُكثِر الوقوف على مرآة الخزانة الداخلية.
هي لا تنسى كل التفاصيل التي تتعلق بولدها. في ليلة اعتقاله بعد تنفيذه عملية في السهل،كيف اقتحموا البيت وكبّلوه مخفورًا إلى المعتقل. وصلتهم معلومة من أحد العملاء في القرية عن اشتراكه في تلك العملية التي أوقعت ثلاثة قتلى وجريحين من الصهاينة المحتلين.
تراه ماذا يفعل اليوم،كيف يقضي نهاره وليله،أما زالوا يعذبونه،من يغطّيه في الليل اذا شعر بالبرد؟ يا رب! بحق أسير كربلاء الإمام زين العابدين،ادفع عنه سوء الجلادين من جيش انطوان لحد.
لقد مرّ وقت طويل ولم تمتلك الشجاعة لطبخ الكروش على الحطب،لأنّها كانت أكلة حسين المفضّلة، ولكنّ أباه طلبها منها،ولا تريد أن تكسر خاطره.آه، لو تستطيع أن ترسل له صحنًا إلى المعتقل.ناجت نفسها، ودموعها تجري على خديها.متى يا رب ينتهي هذا الظلم،ولماذا كُتِب علينا هذا الشقاء بسبب هؤلاء الوحوش؟
وهي في هذه الحالة كانت تسمع أصواتًا بعيدة منذ الصباح الباكر،لعلّها عملية أخرى لأبطال الم ق ا و م ة على أحد المواقع القريبة.
استيقظ حسين. صلّى الفجر،ولم يغمض له جفن بعدها، كان رفاقه في الزانزانة ما زالوا نائمين،هبّت نسمةً باردة، تسلّلت من الشباك الصغير.ما أجمل هذه الأيام في الجنوب،كم من ربيع لم يخرج لاستقباله صباحًا؟ وكم من من مئة من الليالي عبرت دون أن يجلس حسين تحت شجرة التين، يحمل كتابًا أو صحيفة يقرأ ما يدور في العالم من أحداث،أو يستمع إلى المذياع من راديو مونتي كارلو؟
اقتربت الساعة من السابعة صباحًا، ما زالت أصوات المدافع والرصاص تُسمعُ بعيدةً.لم يستطع في ذلك الصباح من نهار الأربعاء أن يستقر في سريره الحديدي،كان يمشي في تلك المساحة الضيقة من المعتقل.
يسمع صوت الحارس يقترب من الممر.يفتح حسين النافذة الحديدية الصغيرة،يستلم فطور الصباح المعتاد والممل. يوقظ رفاقه في الغرفة.يتناولون طعامهم. ينظرون إلى بعضهم نظرة غريبة.
الساعة تقترب من الثانية عشرة والنصف،حسين ورفاقه يتهيأون لصلاة الظهر،وصوت الرصاص لا يزال مسموعًا.
توضأت أم حسين أيضًا، ووقفت في محرابها تنتظر الآذان،ترفع يديها كما في كل صلاة الى السماء،دون أن تملّ من هذا الدعاء: يا راد يوسف إلى يعقوب،ردّ لي ولدي وكل المعتقلين إلى أهلهم. يا من هو على كل شيء قدير.
صلّت الظهر،شرعت في صلاة العصر.ثمة أصوات غريبة اليوم، الضحيج يقترب،ووقع أقدام متلاحقة ومسرعة تمر من أمام الدار.خير اللهم اجعله خير.
الأصوات تعلو أكثر فأكثر.ثمّ جلبة كبيرة تحصل. لم تعرف كيف أنهت الركعة الرابعة.خرجت الى صحن الدار بثياب الصلاة البيضاء،تسأل ماذا يحصل؟
مرّ عدد من الرجال يركضون خلف بعضهم،يلهثون من التعب.ما الذي يجري يا رب؟
أم أحمد تمر من أمام البيت،تستمهلها أم حسين:خير يا إم احمد شو فيه؟ شو صاير؟ ليش الناس عمتركض هيك؟
تجيبها أم احمد وهي تسير بأقصى ما تستطيع:ما معك خبر؟ الرجال طلعوا عالمعتقل يحرروا الشباب؟
عالمعتقل؟
يحرروا الشباب؟
لم تستوعب تلك الجملة بعد.
صرخت بأعلى صوتها:أبو حسين وينك؟ شو عمتعمل؟ اترك هالمجرفة من إيدك واركض،الرجال طالعين عالمعتقل، وانت حامللي هالمجرفة.
لم يتمالك أبو حسين أعصابه.ولم يصدّق ما تسمع أذناه.
هرول إلى الشارع والتحق بالرجال وبالنساء،كانت الوجهةُ صوب المعتقل.الرجل الستيني لم تعينه قدماه على الركض بسرعة أكبر،والروماتيزم اللعين ما زال يلازمه.
ركض بأسرع ما يستطيع.شعر أنه في لحظة بدأ يطير عن الأرض. كلما سمع همهمة أو صوتًا لا يصدّق ما يحصل، حتى يصل إلى المعتقل. آه لو كنت طيرًا. كم تمنيتُ أن أكون كذلك،ولكنني اليوم أكثر حاجة إليه من أي يوم آخر. يا رب اعطني القوة والعزم والقدرة حتى أصل الى فوق.
يمر الشباب والأطفال من أمامه مسرعين، تمنى لو يعود شابًا ليوم واحد فقط،كي يقطع هذه المسافة التي أصبحت بعيدةً أكثر من أي زمن مضى.
ها هو قد وصل إلى منتصف الطلعة.انه يقترب شيئًا فشيئًا من باب المعتقل، ولا يعرف ماذا يحدث بالضبط.لقد نال منه الروماتيزم. لم يستطع أن يُكمل ما تبقى من الأمتار.لقد وقع أرضًا.
حسين ورفاقه يسمعون الأصوات تقترب. ثمة ضجيج وصراخ ورشقات كلاشينكوف وأصوات آليات تجوب ساحة المعتقل.
قبل قليل أتى الحارس بطعام الغذاء، كان لون وجهه أصفر.سلّمهم الطعام ورحل. تستحيل الضجة فوضى. ثمّة صراخ وطرق على بوابات الحديد. ماذا يجري يا رب؟ الصوت يقترب أكثر فأكثر. أصبح صوت الرجال مسموعًا بوضوح: حطِّموا بوابات الزنازين. فتح حسين الطاقة الصغيرة. رأى عددًا من الشباب يركضون في الممرات. اقترب أحدهم من زنزانة حسين ورفاقه. بدأ بتحطيم القفل. ماذا يجري؟ صرخ منير. أجابه أحدهم: جايين نحرركم. لقد تحرّرت الخيام، وتحرّر الجنوب. وهرب المحتلون. تعلو صيحات التكبير في الغرفة، وفي الممرات، وفي المعتقل وفي الساحة.
يصل أبو حسين إلى المعتقل. يدخل بين الناس يدور حول نفسه، لا يعرف ماذا عليه أن يساعد. وما هو دوره. يجيل نظره يمنةً ويسرةً، يفتش عن ابنه حسين. يشتعل صدره شوقًا، يكاد يُغمى عليه من الفرح والدهشة.يركع على قدميه بانتظار ما يخبّئه له القدر.
بعد محاولات عديدة من الطرق على قفل الزنزانة، ينكسر القيد. يفتح الشباب الباب، يهجمون بالقلبلات على المعتقلين الخمسة في الغرفة. حسين ومنير ورفاقهما. يخرجونهم إلى الممر، قُبَلٌ وعناق وتكبير وصراخ. يتجهون بهم إلى ساحة المعتقل. يتنشّق حسين نسيم الربيع في الجنوب. يصل إلى الساحة.
أبو حسين يركّز نظره على ذلك المكان. قلبه يقول له إنّ الفرج سيأتي من تلك الزاوية. ثمة جمع من الشباب يتجهون نحو وسط ساحة المعتقل. أبو حسين ما زال يفترش الأرض. يتراءى له شاب طويل أبيض البشرة يرتدي فانيلة حمراء. يا رب.
يركض حسين نحو والده، يعرفه من بين مئات الرجال. في تلك اللحظة شعر أنّ الزمن توقّف، وكأنه يركض في حلم. لم يعلم كم من الوقت استمر حتى وصل إلى والده. ركع على قدميه. احتضنه. قبّل يديه. وأبو حسين أصبح في مكان آخر. رائحة ولده البكر جعلته يغيب عن زمنه. عانقه وشدّه إلى صدره. ورفع يديه إلى السماء والدموع تنهمر على خديه: ألف شكر لك يا الله.

Optimized by Optimole