قصة جبر المحسن

Spread the love

بقلم: د. فياض الفياض — كنت في الثانية عشرة من عمري سنة 1951، أي نفس الصيف الذي اغتيل فيه الملك عبد الله بن الحسين، ملك الأردن الأول.
كانت الظروف صعبة، ضنك وفقر وتشرد للفلسطينيين وكان الجرح ما زال أخضر لم يجف بعد. نظراً لذلك كان الجيل الأول وابناؤهم البالغون ما زالوا احياء ويعرفون كل مداخل البلاد. وحتى البيوت التي هجروا منها سنة 1948، كما ان الكثير من القرى والمدن الفلسطينية ما زالت على حالها ولم تتغير بعد.
قالت لي المرحومة والدتي في صباح أحد الأيام: ولك يا جبر الحياة صعبة زي ما أنت شايف يا ابني وأنتم كبرتم وبحاجة لمصروف ومأكل ومشرب ومدارس وملبس جيد مناسب. انت ترى يا ابني لا مصروف ولا وجه معروف كما يقال.
قلت لوالدتي: ما رأيك يا والدتي؟؟ ماذا علي أن أفعل؟ قالت: انت تعرف بيتنا جيداً في الشيخ مونس.
قلت لها: نعم أعرف كل شي.
قالت: هل تذكر البلاطات موضوعات على أرضية بيت الدرج الخارجي في منزلنا في الشيخ مونس ؟؟
قلت لها: أعرف كل شي فما المطلوب ؟؟
قالت: تحت إحدى البلاطات ربما الرابعة منها صرة ليرات ذهبية ملفوفة بفردتي جراب.
ولَك يا جبر …انت أخو أختك …!
قلت لها: لعيونك يا أمي أنا إبنك …!
قالت غداً مع الفجر جهز نفسك للمسير.
والجدير ذكره انني الأكبر بين أشقائي والأكثر وعياً!
وسأسرد عليك يا صديقي قصة رحلتي الى الشيخ مونس فأنت أقدر مني على التسجيل لتقرأها للأجيال القادمة فهي للتذكر وذكرى إن نفعت الذكرى …!
في فجر الْيَوْمَ التالي نزلت من طولكرم جنوبي محطة القطار مررت في الوادي … الوادي حتى لا يراني أفراد الجيش الأردني.
مررت من تحت جسر سكة الحديد الذي كان الجيش العراقي قد نسفه سنة 1948 أثناء تواجدهم في منطقة طولكرم. سرت من هناك الى قلنسوة أول قرية عربية في المثلث مجاورة لطولكرم، حيث فاجأت خالتي نعمة بدخولي عليها والتي بدا عليها الخوف من عيون الحكم العسكري. أخفتني تلك الليلة وجعلتني أنام في الطابون، أعطتني قطعة حصيرة مقطعة (برشه) وبطانيةً حيث نمت.
في الصباح أعطتني مئة ليرة إسرائيلية وألحت علي بالرجاء بألا أقول لأحد إن قبض علي أنني كنت عندهم، بل كنت أشحذ وهذا المبلغ من محسن لا أعرفه.
غادرت منزل خالتي بينما كان الظلام ما زال يرخي سدوله، فمررت بالقرب من بلدة الطيرة المجاورة وكانت الطريق كلها تقريباً مغطاة بالصبر الهشير ثم سرت غربي (كوميش) جنوب الطيرة ومنها الى كفر سابا حيث سمعت أصوات التفجيرات التي كان يفجر بها الجيش الإسرائيلي بعض بيوت كفار سابا القديمة وقد سمعت كلامهم لقربي منهم.
واصلت المسير غرباً الى (بيار عدس) ومنها قطعت شارع حيفا -يافا، واتجهت الى أرض عرب ابو كشك الى أن وصلت (الهدّار) وهي عبارة عن شلال صناعي لمياه نهر العوجا لإدارة مطاحن الحبوب منذ القدم، وقد سُميت بالهدار للصوت الذي يحدثه سقوط الماء المنحدر.
اتجهت الى الشيخ مونس وهي مبنية على تلة مطلة على البحر القريب منها حيث دخلت بيارة عمي (حسن المحسن)، استرحت وأكلت من ثمارها وكانت تحتوي الى جانب الحمضيات والفواكه المختلفة، شجرة القشطة وشجرة (تمر حنا) المعطرة. كانت المنطقة مليئة باليهود الذين كانوا يتكلمون لغات عدة.
استرحت في البيارة وأخذت غفوة الى أن أظلمت السماء وعاد اليهود الى البيوت، فتشت جيبي لأتحسس قصاصة الأظافر التي أحملها، سرت تحت جنح الظلام الى منزلنا ووصلت الى بيت الدرج الذي كان ما زال بلا باب كما تركناه. دخلت تحت الدرجات زحفاً على بطني وأخذت أنقر على الدرجات بالقصاصة واحدة واحدة حتى اهتديت الى الدرجة المقصودة بسبب صوتها المميز. أخذت أعالجها بواسطة موس قصاصة الأظافر حتى خلعتها. مددت يدي فلمست الجراب المخبئة به ليرات الذهب كما شرحت لي الوالدة. أخرجتها وتلمستها فأحسست الليرات جيداً وكانت الوالدة قد وضعت الجراب الأول بجراب آخر.

منزل في قرية الشيخ مونس

حملتها وتفكيري منصب على كيفية الوصول بها سالمة الى طولكرم، لنقهر بها الجوع والحرمان في سنوات التمر …!، سحبت القشاط من البنطلون، وأدخلته بالعقدة الذي لبسته على اللحم أي تحت ملابسي، في أسفل بطني. احسست بارتياح شديد وبقوة غير عادية فغسلت وجهي من الحنفية الموجودة داخل بيت الدرج وشربت حتى ارتويت. كان القاطنون الجدد يستمعون لأغنية محمد عبد الوهاب (كل البلاد عندي أوطان) من جهاز الراديو الذي تركناه. حزنت حزناً شديداً لكلمات الأغنية وعن الوطن الجديد الذي يؤويني وهولاء الأغراب يحتلون منزلنا.
تحركت بسرعة الى بيارة عمي (حسن المحسن) المجاورة ومنها تحت جنح الظلام، ومن حيث أتيت أخذت أنهب الطريق نهباً. وصلت مع الفجر خط سكة حديد طولكرم حيث توجد عربة قطار قديمة متروكة، وما أن دخلت العربة حتى قفز أمامي جندي إسرائيلي كالشيطان وقال: أنا قنطر أو بالعربي عنصر مطوع المنطقة. عندئذ رق لحالي قلب زوجته فشفعت لي وأصرت ان أضربه كفاً ممسكة بيدي. سألني الجندي ماذا تفعل هنا؟ فقلت له اني شحاذ. قال: شحاذ ؟؟، ثم أضاف: ماذا تحمل؟ قلت له معي مئة ليرة من المحسنين لأطعم اخوتي العشرة الذين يتضورون جوعاً.
وقف قنطر مطرقاً فأعاد لي المئة ليرة وقال اسمع كويس، لا تمر من هنا بل اذهب الى وادي فرعون من عند الجبيلات. إحذر أن تمر من هنا، بل إذهب الى خط طولكرم – قلقيلية خوفاً أن يراك الجيش الأردني. سرت كما قال لي الى أن وصلت وادي فرعون فأقبل شاب يصيح ويشتم ويطلب مني التوقف، ولما اقترب مني عرفته فإذ به محمود أبو الريش ولقبهم دار الطرشة وقد كانوا يقيمون في الشيخ مونس. فقلت له: ولك يا محمود الواحد بتشاطر على ابن بلدك؟ خجل مني محمود ابو الريش، وقال: أنا مش على خاطري أنظر الشاويش الأردني علي الكردي، ابو محمد من مدينة أربد الأردنية وهو في المخفر الذي قادني اليه. سألني الشاويش ابو محمد الكردي: أين كنت ؟ قلت له: ياسيدي كنت اشحذ من الجوع، قال الشاويش: كم شحذت؟
قلت له: مئة ليرة اسرائيلية خذها يا سيدي. أخذ الشاويش المئة ليرة التي بيدي وأمر محمد أبا الريش لأخذي إلى غرفة المخفر.
في الطريق قال لي أبو الريش: مجرد ما نوصل للغرفة إهرب بكل ما لديك من سرعة عندما أغمزك بعيني وهكذا كان. فقد أخذت اعدو كالمجنون رغم أن الكيس المعلقة به الليرات قد أخذ يضايقني وزاد من سرعة إطلاقه ورائي طلقة في الهواء وهو يصرخ من مكانه…!
وبقيت أركض حتى بركة آل الحاج قاسم حيث غسلت وجههي ويدي ورأسي ثم شربت واتجهت من هناك من خلال البيارات والكروم الى منزلنا الذي أصبح على مرمى حجر مني. سرت الى المحرقة (مدرسة السلام حالياً) ثم الى دار حنون (الأصمعي حالياً) الذي أصبح الآن ديوان آل سفارين، ثم الى المقبرة حتى دخلت منزلنا، وهي مجاورة لبيوت آل الكرمي وجنوب دار ابو عاصم الجلاد، قرب المقبرة الرئيسيّة في طولكرم.
صرخت أمي لما رأتني أدخل الدار وأخذت تمزق شعرها… ثم ألقت بنفسها علي وهي تبكي وتذرف الدموع وتقول: وين انت يا ابني، الحمد لله على سلامتك، يا قشلي ويا قشل رأسي كيف فرطت فيك ورميتك هالرمية.
عندئذ فككت الجراب من القشاط ناولتها إياه والكنز في داخله. سجدت أمي على الأرض وأخذت تهلل وتكبر وأغلقت أبواب الدار. عدت ما في الكيس فإذ بها 200 ليرة ذهب وتساوي أكثر من 2000 جنيه فلسطيني. قامت بإخفائها وبقينا نصرف منها سنوات طوال حتى أنهيت المدرسة الثانوية وعملت مدرساً في وكالة الغوث.
أشارت إلي والدتي بإصبعها الشاهد على فمها: أن اصمت … اصمت وأكتم السر. استغرقت مني هذه رحلة يومين بليلتين: نمت إحداهما في طابون دار خالتي في قلنسوة والأخرى جزئياً في تخشيبة بيارة عمي حسن المحسن.
أما في العودة فلم أنم إلا في دارنا في طولكرم لحرصي على الثروة التي أحملها.

أما الشاويش الأردني فقد دارت الأيام حيث تم ترفيعه إلى رتبة أعلى ونقل الى مركز طولكرم، وشاءت الأقدار أن أعلم أبناءه اللغة الإنجليزية، وما زال الكف الذي (سلخني) إياه في فرعون يرن في أذني وهو لا يعرف أن أستاذ أبنائه هو نفسه صاحب ذلك الكف في فرعون.
الشيخ موسن قرية صغيرة تقع على تلة جنوبي مدينة يافا وقريبة منها هجر أهلها سنة 1948.

ملاحظة: هذه القصة واقعية رواها لي صديقي المرحوم جبر محسن في عيادتي في طولكرم، وقد احتفظت بها الى أن جاءت ساعة طباعتها ونشرتها في كتابي (لولا فسحة الأمل) عام 2012.