قراءة في كِتاب “أفول الغرب” لحسن أوريد

Spread the love

د. إدريس لكريني _ مدير مُختبر الدراسات الدوليّة في جامعة القاضي عياض – المغرب/

على الرّغم من مرور أكثر من عقدَين ونصف العقد على التبشير الأميركيّ ببروز نِظامٍ دوليّ جديد، ما زالت المُناقشات الفكريّة والفلسفيّة جارية بصدد حقيقة هذا النظام المزعوم ومآلاته. وفي هذا السياق يندرج المؤلَّف الذي أصدره المغربيّ د. حسن أوريد والموسوم بـ “أفول الغرب”.

ينطوي المؤلَّف على قدرٍ كبير من الأهميّة بالنظر إلى التساؤلات العميقة التي يطرحها الباحث بصدد حقيقة هذا النظام الذي برز في أعقاب سقوط جدار برلين ونهاية الحرب الباردة، ومظاهره وتداعياته ومآلاته، فضلاً عن رصْد مكانة العرب والمُسلمين من ضمن هذا النظام. كما يتميَّز المؤلَّف بالكثافة في المُعطيات، فقد اعتمد الكاتِب مُقاربَةً شموليّة للموضوع، موظِّفاً في ذلك الجوانب النظريّة والتاريخيّة وعِلم السياسة والعلاقات الدوليّة، فضلاً عن استحضار مُعطياتٍ اقتصاديّة.

أوّلاً – الغرب.. بين الريادة المُتجدّدة وتحدّيات المُستقبل

في أعقاب انهيار المُعسكَر الشرقيّ ونهاية الحرب الباردة، سعت الولايات المتّحدة الأميركيّة مدعومةً بحُلفائها إلى استثمار هذه الأوضاع والتحوّلات في إرساء علاقات دوليّة مبنيَّة على توازنات ومَفاهيم جديدة تنسجم ومصالحها، حيث برزت مقولات سياسيّة و”أكاديميّة” تُفسِّر هذه المُتغيّرات وتتنبّأ بطبيعة الصراعات العالميّة المُرتقَبة؛ من قبيل مقولة “نهاية التاريخ” لـ “فرانسيس فوكوياما” و “صدام الحضارات” لـ “صامويل هانتنغتون” التي اختزلت الصراعات المُقبلة في الجوانب الدينيّة والثقافيّة.

تعدّدت التعريفات الواردة بشان النظام الدولي، كما تنوّعت أيضاً واختلفت بصدد حقيقته، ويَعتبر الباحثُ أنّ الأمرَ ما هو إلّا “كناية لانتصار الولايات المتّحدة وعنوان سؤددها، وتورية لانهزام الاتّحاد السوفييتي”. كما يعتبر أنّ “قاطرة العالَم ظلّت لأكثر من أربعة قرون مقترنة بالغرب، فهو لم يصل إلى هذا المستوى الحضاري من دون صراعات مع حضارات كانت مشعّة، قبل أن يزاحمها ويدفع بها نحو ردود الفعل، وبعدها إلى الانزواء”.

إنّ بِناء نِظامٍ دوليّ كما بشّر به الرئيس الأميركي جورج بوش الأب في بداية التسعينيّات من القرن الماضي عشيّة إرسال قوّاتٍ أميركيّة إلى الشرق الأوسط لمُواجَهة غزو العراق لدولة الكويت، لا يخلو في عالَم اليوم من تحدّيات وإشكالات، ويسرد الكاتب مجموعة من المؤشّرات في هذا الخصوص.

على المستوى التنظيري، يتوقّف المؤلِّف عند أهمّ المقولات التي أفرزتها تحوّلات ما بعد الحرب الباردة، كما هو الأمر بالنسبة إلى نهاية التاريخ، ليؤكِّد على هشاشتها، بالنّظر إلى أنّ عهد الإيديولوجيّات لم ينقضِ بعد.. ويشير إلى أنّ التطوّرات التي شهدها الغرب، رفعت من “قيمة الخبير في تدبير مؤسّسات ضخمة، على حساب العالِم والمفكّر والمثقّف، ليترسَّخ هذا الانزياح مع اللّيبراليّة الجديدة، ويُصبح العالَم العصري يقوم على لبنة التكنوقراطي كحجر الزاوية”.

وعلى المستوى الاقتصادي، يرى الباحث أنّ تحرير المُبادلات التجاريّة أفضى إلى تهديد قطاعات بأكملها في كثير من البلدان وإلى تداعيات كارثيّة، نتيجة الوصفات الجاهزة.. فيما كرَّست المُبادلات التي أفرزتها العَولمة أساليب جديدة لاستغلال الضعفاء من قِبَلِ الأقوياء.

أمّا في ما يتّصل بالمستوى السياسي، فيتوقّف الباحث عند عيوب الديمقراطيّة، حيث “يظلّ جانب المال وعلاقته بالسّياسة محجوباً ومضروباً بسورٍ صفيق من الصمت المُتآمِر” .. كما يُبرِز أيضاً الأدوار المُنحرِفة لوسائل الإعلام في العبث بهذه الديمقراطيّة.

وفي الجانب الاستراتيجي، يورِد الكاتِب الكثير من الوقائع والمؤشّرات التي تُبرِز أنّ التوجّهات الاستعماريّة للقوى الدوليّة الكبرى ما زالت قائمة، بخاصّة أنّ الكثير من النُّخب الحاكِمة لم تتحرّر بعد من ميراث الاحتلال والهَيمنة وتبعاتهما.

وعلى مستوى العلاقة بشعارات العمل الإنساني التي راجت بشكل واسع مع بداية الحديث عن النظام الدولي الجديد، نبَّه الكاتِب إلى أنّ عمليّة إعادة الأمل في الصومال تحوّلت إلى مآسٍ حقيقيّة، فيما حذَّر أيضاً من أنّ الإنسان إذا لم يقبل بحدودٍ لمجال تدخّله، فإنّه يحوم حول ذاته ليُجهِز عليها، وخصوصاً أنّ الإنسان في عالَم اليوم أصبح مُحاطاً بسَيلٍ جارف من المعلومات، من دون القدرة على التمييز بين الصالح والطالح منها.. مع انشغال شبكات الإنترنت بهاجس الإعلان، كبديل لمجّانيّة المعلومات.

لا يخفي الباحث تشاؤمه بصدد مستقبل هذا النظام، فوصول فلاديمير بوتين إلى الكرملين عام 2012، يشكّل – في اعتقاده – مُعطىً جديداً في مسرح العلاقات الدوليّة، بما يحيل إليه الأمر من رغبة في الثأر لما تعرَّضت له روسيا من إهانةٍ على الساحة الدوليّة على امتداد سنواتٍ خلت، ما يعني عَودةً إلى الحرب الباردة في صيغة جديدة؛ بل يذهب أكثر من ذلك عندما يؤكِّد أنّ ثمّة إرهاصات عميقة لعالَمٍ جديد لم تتحدّد مَعالمُه بعد، بخاصّة أنّ الغرب باعتقاده يمرّ بأزمة وجوديّة قد يتأثّر العالَم بمُجرياتها.

إنّ الحذَر الذي يُبديه الباحث بصدد مُستقبل النظام الدولي الرّاهن الذي فرضته الولايات المتّحدة من جانبٍ واحد، يجد مُبرّراته في عددٍ من المؤشّرات، ففضلاً عمّا سرده الباحث من مُعطيات، هناك الكثير من القوى الدوليّة التي بدأت تُنافِس بشكلٍ جدّي مَكانة الولايات المتّحدة، فيما تزايدَ حضور القوى الدوليّة الصاعدة، علاوة على بروز خلافات واضحة بصدد عدد من القضايا والأولويّات الإقليميّة والدوليّة بين الولايات المتّحدة من جهة، وبعض الدول الأوروبيّة كألمانيا وفرنسا من جهة أخرى.

ثانياً – العرب والمُسلمون ومُتغيّرات النّظام الدوليّ

في الوقت الذي شهد فيه الكثير من الدول تحوّلات اقتصاديّة وسياسيّة كبرى انسجاماً مع الديناميّة الدوليّة الجديدة التي أفرزتها نهاية القطبيّة الثنائيّة وصراعات الحرب الباردة في كلٍّ من أميركا اللّاتينيّة وأوروبا الشرقيّة وآسيا وإفريقيا، ظلّت المنطقة العربيّة من أكثر مناطق العالَم التي تفاعلت بصورة سلبيّة مع هذه المتغيّرات، الأمر الذي يعكسه حجم الأزمات والنزاعات التي عمّت المنطقة منذ تسعينيّات القرن الماضي (في الصومال والعراق والسودان وليبيا والأراضي العربيّة المحتلّة..).. فالعرب في نظر الكاتِب لم يستوعبوا التحوّلات الكبرى التي شهدها العالَم أخيراً، ويسوق مثالاً على ذلك، سقوط الرئيس العراقي الأسبق صدّام حسين في الفخّ بسبب “عدم الانتباه إلى قواعد اللّعبة التي تغيّرت”. ولم تفلح الولايات المتّحدة في إرساء ديمقراطيّة داخل العراق، ومن ثمّ في منطقة الشرق الأوسط، بل إنّ الوصفات التي أخذت طابع الطائفيّة والمُحاصَصة، كانت تغذّي التوتّر وتحمل بذور العنف الذي سينتهي بداعش. فيما تحوَّل العديد من أقطار المنطقة إلى دول فاشلة أو عاجزة أو دخلت في حروبٍ أهليّة.. مع ظهور قوى جديدة بمرجعيّات جديدة تباينت بين جماعات مسلَّحة ومُتطرِّفة، وخطابات عرقيّة وانتماءات جهويّة ودعوات للانفصال.

ويعرّج الكاتِب على الحراك الذي شهدته المنطقة، سواء في الشرق الأوسط أم في بلدان المغرب (شمال إفريقيا) الذي اعتبره يتهدّد المنظومات القائمة، ويضيف أنّ الأسوأ سيأتي، إذا لم يستوعب العالَم العربي التحوّل الجاري في العالَم، ولم يوظِّف إيجابيّاً الديناميّات بداخله.

يُنبّه الكاتب إلى أنّ العلاقة المُلتبِسة بين الغرب والعالَم الإسلامي تمتدّ لقرون عدّة، عكستها جملة من الأحداث والمحطّات التاريخيّة، وهو ما أعطى للحرب على الإرهاب التي تكرّست بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) بُعداً ميتافيزيقيّاً، أو مانويّاً، أي تجزيئيّاً ما بين الخير الذي يمثّله جانب، والشرّ الذي يسكن جانباً آخر.. بعدما أضحى العالَم مسكوناً بهاجس الأمن، حيث سَيطرت أولويّة مُكافَحة الإرهاب على قائمة الأجندات الدوليّة، ما جعله يلعب دَوراً في التنفيس عن تناقضات الغرب بعد تفكُّك الاتّحاد السوفييتي، بخاصّة بعد ربطه بالعالَم الإسلامي، وهو الأمر الذي ترسَّخ مع مجموعة من الأحداث الإرهابيّة التي شهدتها بعض الدول الأوروبيّة (فرنسا وإسبانيا وبريطانيا وبلجيكا..) لاحقاً.. ما يجعل الإرهاب – بنظر الكاتِب – استمراريّة لـ “الحرب الحضاريّة” بوسائل أخرى.. ، والتي تتحكّم فيها اعتبارات جغرافيّة وتاريخيّة.

في جانبٍ آخر، يؤكّد الباحث أنّ الإسلاموفوبيا هي نِتاج لأزمة داخليّة للغرب، وأنّ فَشَلَ سياسات الهجرة والإدماج، جعلَ المُسلمين والجاليات المُسلمة تعيش في ما يشبه “غيتوهات” داخل الغرب، حيث أضحى خطاب العداء للإسلام أحد مكوّنات المشهد الثقافي، بل السياسي والمُجتمعي في أوروبا، ويستفحل هذا الخطاب مع ما يغذّيه من سلوك (اعتداءات وضرب مجّاني وعنف رمزي..) مع الأزمة الاقتصاديّة وتواتُر الأعمال الإرهابيّة.

إلى جانب النظرة المُتشائمة بصدد العلاقة بين الغرب والإسلام التي يسوقها الكاتب، بناءً على مبرّرات تبدو موضوعيّة في جزءٍ كبير منها، إلّا أنّ هناك مُعطيات أخرى تفرض قراءة مُوازية، ذلك أنّ جزءاً من التوتّر القائم بين الجانبَين يجد أساسه في أنّنا بصدد غربٍ متعدّد وعالَمٍ إسلامي مُتعدّد أيضاً، يمتزج فيه الصراع بالتواصُل، ما يفرض بلْورة حوارٍ داخلي بنّاء وهادئ بين المُسلمين أنفسهم.

كما أنّ التشابُك الذي يطبع العلاقات الدوليّة، بفعل تطوُّر التكنولوجيا وتزايُد الاعتماد المُتبادَل، وتزايُد الوعي بخطورة المَخاطِر الدوليّة العابِرة للحدود كالأمراض الخطرة والإرهاب والجريمة المُنظَّمة وتلوُّث البيئة، والتي تُلقي بتداعياتها على الإنسانيّة جمعاء، ستُعزِّز من إمكانيّة التواصُل بين مُختلف الحضارات.

Optimized by Optimole