الدرسات الإسلامية: التصدع وإمكانيات إعادة البناء

Spread the love

 

د. رضوان السيّد — 

 

I

أولُ فهمٍ للإسلام اعتُبر فهماً علمياً هو الذي قدّمه أبراهام غايغر A. Geiger في أُطروحته عام 1834:Was hat der Qoran aus dem Judentume übernommen، وقد أسَّس غايغر فهمه هذا على ثلاثة أمور كلها فيلولوجية إذا صحَّ التعبير: القَصص القرآني أو قصص الانبياء والشخصيات الأُخرى، والذي اعتبره توراتياً كلَّه، والموضوعات المتعلقة بالأفكار والعقائد مثل الوحدانية واليوم الآخِر وعلاقة الله بالإنسان، والوصف المشهدي لكل المسائل بما في ذلك المفردات والمصطلحات والأساليب البيانية. وهذا الأمر أي العلاقة التبعية للقرآن بالعهد القديم والدثائر اليهودية، هو الذي ساد في الدراسات كلِّها حول القرآن في القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين. وقد انحصرت الفوارقُ بين مختلف الدارسين في أنّ البعض ذهب إلى أنّ علاقات التبعية القرآنية قائمة مع المسيحية الشرقية أو السريانية وليس مع اليهودية. بينما ذهب بعضٌ ثالث إلى أنّ تبعية القرآن مشتركة بين اليهودية والمسيحية.

وما فعله كلٌّ من Weil و Nöldeke هو المُضيُّ قُدُماً في هذا التوجُّه الفيلولوجي الغلاّب. فايل اشتغل- أخذاً من كلاسيكيات علوم القرآن- على مسألة المكي والمدني، وتطور الأساليب القرآنية بين مكة والمدينة، وفصّل نولدكه كثيراً في هذه المسألة والمسائل المشابهة وفي دراساتٍ متتابعة منذ العام 1859 وإلى العام 1910. وما تغيرت التبعيةُ كثيراً، بل الذي حصل أنّ نولدكه وهو الفيلولوجي العظيم والعالم الكبير باللغات السامية، إنما أضاف للقرآن نَسَباً لغوياً عربياً سامياً، من خلال تتبُّعه لمفردات القرآن ونحوه وصرْفه، والأصيل والطارئ على  النص استناداً دائماً إلى الفيلولوجيا، فيلولوجيا اللغات السامية، والخصائص البنيوية في العربية فيما بعد.

ومع فلهاوزن Wellhausen بدأ دخول التاريخ من نوعٍ ما على الفيلولوجيا، عندما كتب دراسةً قصيرةً عن الجماعة الإسلامية الأُولى بالمدينة. كانت سيرة ابن هشام قد نُشرت، لكنه عاد إلى مخطوطاتها أيضاً، ومع ذلك لم يخرج عن الخط الرئيسي. فالمجتمع العربي القديم كان مجتمعاً قَبَلياً وتَغْلِبُ عليه البداوةُ أيضاً. ولذلك فهو مُشابهٌ في تكوينه وتقاليده لمجتمع التوراة. وفي مقالته تلك نجد الإشارات الأُولى إلى المشابهة المتصوَّرة بين محمد النبي وموسى. وهي المشابهة التي تطورت بعد مائة عام إلى القول من جانب المراجعين الجدد بالتطابُق الذي أَوصل إليه كُتّاب السيرة في القرن الثاني الهجري بين سيرة محمد وسيرة موسى، وهي العمليةُ التي كان المقصودُ بها في نظر هؤلاء إثبات نبوة محمدٍ للتشابه الشديد بين شخصيته وشخصية موسى. وبالطبع فإنّ التفكير بشخصية النبي ما بدأ مع فلهاوزن بل سبقه. إذ ما دام القرآن مأخوذاً من العهدين ومن الدثائر اليهودية والمسيحية، فلا بد من التفكير بمن قام بهذه العملية، أي كتابة القرآن. إنما الفرق أنّ التأريخ للنبي محمد أو دراسة شخصيته والبيئات التي نشأ فيها، غلب على الكتابة فيها مستشرقو البروتستانت الذين اعتبروا تلك البيئات بيئاتٍ مسيحية. وقد نشب صراعٌ بين الطرفين بشأن تأثيرات مكة والمدينة في شخصية النبي؛ لكنْ ظلَّ المستشرقون المتأملون للقرآن ذوي أصول يهودية في الغالب- طبعاً باستثناء نولدكه-؛ بينما ظلَّ الدارسون لشخصية النبي محمد مسيحيين بروتستانت في الغالب. وفي الرُبع الأول من القرن العشرين بدأت ظاهرة النبوة تحتلُّ مكانةً متميزة باعتبارها ظاهرة يهودية؛ أمّا النبي محمدٌ بالذات، فظلَّ هناك إصرارٌ على غلبة التأثيرات المسيحية في شخصيته، رغم معايشته لليهود بيثرب بعد هجرته إليها عام 622م.

هل كانت هذه الغَلَبةُ الفيلولوجية أو غَلَبة الفيلولوجيا في دراسات القرآن فالإسلام غريبة؟ لا؛ فالفيلولوجيا كانت هي الطريقة أو المنهج في دراسات العهدين أيضاً. والقراءات الفيلولوجية الدقيقة والنقدية لنصوص العهدين من جانب الدارسين الليبراليين من اليهود والمسيحيين هي التي قادت إلى تفكيك النصين أو النصوص. والقراءاتُ هذه هي التي أدت أيضاً إلى إدخال التاريخ على الفيلولوجيا، بحيث ما عاد التاريخ تاريخاً لمفردات النصين أو النصوص، بل صار تاريخاً لبني إسرائيل وحركتهم في بلاد ما بين النهرين وفلسطين ومصر، وللجماعات المسيحية الأُولى التي ظهرت في أوساطها الأناجيل، كما ظهرت مختلف أسفار العهد القديم خلال عدة قرونٍ من حياة تلك الجماعة من الأسباط المتنقلة بالمشرق.

لقد تأخر دخول التاريخ على الدراسات القرآنية. وكان بين أسباب ذلك تلك التبعية المطلقة والمفترضة للقرآن وللنبي لليهودية والمسيحية من خلال ذلك التأمل المستديم لعلائق النص القرآني بالنصوص الدينية السابقة عليه. نحن نعرف اليوم، رغم تخرصات المراجعين الجدد أنه لا علاقة لشخصية موسى القرآنية، بشخصية النبي محمد التي تعرضها السيرة. لكنّ هذا الـ episteme كان مسيطراً وما استطاع أحدٌ الخروج عليه.

لكنْ كانت للفيلولوجيا في دراسات القرآن والإسلام والعربية، فائدةٌ أُخرى غير التدقيق في الأصول اللغوية والعقدية للنص القرآني. فقد أقبل المستشرقون الكبار والصغار على نشر مئات المخطوطات العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ وبخاصةٍ كتب اللغة والمعاجم، وكتب التاريخ، ومرةً أُخرى ما كان ذلك غريباً على المنهج التاريخاني في دراسة تاريخ حضارتي أوروبا السابقتين: اليونانية والرومانية. وصحيح أنّ الحضارتين الكلاسيكيتين البارزتين اعتبرهما الأوروبيون سلفهم الحضاري الضروري في عمليات تشكيل الهوية، وما كان القرآن ولا كان الإسلام يحتلان هذه المنزلة. لكنْ في أواخر القرن التاسع عشر كانت أُلوف المخطوطات العربية قد جُلبت إلى المكتبات الأوروبية. ولذلك، ومثلما فعلوا مع النصوص الكلاسيكية للحضارتين، أقبلوا على التعرف على الحضارات الشرقية، ومنها الحضارة العربية الإسلامية من خلال نصوصها الكثيرة جداً مقارنةً بعدد النصوص القديمة الباقية من تينك الحضارتين. وبذلك ومن خلال المخطوطات المتكاثرة والأُخرى المنشورة محقَّقة، صارت الفيلولوجيا العربية والإسلامية تاريخانية، وصار من الممكن دراسة تاريخ الإسلام وحضارته. ما انتهى الفصل بين القرآن والتاريخ. لكنّ الذي انتهى مقولةُ أنّ القرآن يمكنُ فهم تكوُّنه وانتشاره وعلاقاته بالمحيط استناداً فقط إلى الكتب السابقة على القرآن!

لقد تضمَّن النشر الكبير والكثير للنصوص العربية في اللغة والتاريخ أولاً، ثم في الثقافة الدينية ( التفسير والفقه وعلم الكلام) الإطلالَ على آفاقٍ جديدةٍ باتجاهين: الأول اعتبار وجود حضارة إسلامية، والثاني التعامُل مع هذه الحضارة بطرائق مُشابهة لما جرى التعامُلُ فيه ومعه في الحضارتين الإغريقية والرومانية. وقد تضمن ذلك أيضاً بالتبع: ضرورة البحث عن معنى وجوهر ومصائر تلك الحضارة، مثلما صار عليه الحال في البحث عن الحضارتين الهندية والصينية. وقد أعاق ذلك كلَّه بعض الشيئ ظهور اعتبار القوميات والإثنيات والعنصريات في مجال التمييز والتمايُز بين الحضارات والثقافات بالنسبة لأوروبا من جهة، وبالتالي يطّرد الماضي على الحاضر والمستقبل في القدرة على البقاء والتجدد والازدهار. ومن الواضح أنّ تقدم الاستعمار، والتنافُس بين القوى الأوروبية على تقاسُم العالم، أثّر في تفاقُم هذه التمييزات. إنما هنا أيضاً، أي في مجال اعتبار الحضارات استطاعت الفيلولوجيا التاريخانية على مشارف القرن العشرين تحقيق فقزةٍ أُخرى. وتتعلق الفقزةُ بثلاثة أمور: ظهور مقولة الديانات العالمية أو الكبرى، وظهور مقولة علم أو علوم الحضارات، وثالثاً ظهور مقولة التاريخ الثقافي وبالطبع فإنّ مقولة الديانات العالمية، أقلُّ صِلةً من المقولتين الأُخرىيين بالفيلولوجيا التاريخانية. فالدياناتُ الأسيويةُ الكبرى عُرفت نصوصُها وتُرجمت. وقد تبينت غربتُها واستقلاليتها عن اليهودية والمسيحية. فأعانت العلمانيات والتنويريات على الخروج من الانحصار والاقتصار ومسألة تعلُّق الخلاص بالمسيحية وحسب. أمّا علوم الحضارات، والتاريخ الثقافي للحضارة، فهما نتاجٌ شبه مباشر للتطورات المتقدمة في الفيلولوجيا التاريخانية. وقد ترجمتُ في العام (2016) كتاباً مهماً ومقارِناً عن الاستشراق الألماني في زمن الإمبراطورية، يقرأُ هذه التطورات تجاه الأديان والحضارات والثقافات([1])، فلا أعودُ إليه هنا، وإنما أقتصر على عرضٍ موجزٍ لمسائل الحضارة، وعلم الإسلام، والتاريخ الثقافي. لقد تحقّق هذا الإنجاز على أيدي مجموعةٍ من الكبار المتضلِّعين في الفيلولوجيا المقارِنة والتاريخ وإنسانويات النهوض الأوروبي، والمعرفة الوثيقة بالعلوم العربية والإسلامية، وتنظيمات الدين والدولة في الإسلام الوسيط.

في مجال الاستشراق المهتم والمعتني بالمجال الإسلامي؛ فإنّ بحوث وتوجهات الاتجاهات الثلاثة (الحضارة الإسلامية، وعلم الإسلام، والتاريخ الثقافي) قادتها مجموعةٌ من الكبار فيما بين يوليوس فلهاوزن وكارل هاينرش بيكر-بحسب جوزف فان أس. فقد اشتغل على الحياة الدينية والتاريخ الديني إغناتس غولدزيهر. واشتغل على تاريخ الأفكار والنُظُم ألفرد فون كريمر. واشتغل على التيارات السياسية/ الدينية، وموقع الدولة في المشروع العربي- الإسلامي يوليوس فلهاوزن. واشتغل على الحياة الثقافية القديمة والحديثة كلٌّ من مارتن وريتشارد هارتمان، واشتغل على الحياة الأدبية مارغليوث، وعلى الحياة العلمية البحتة والتطبيقية كارلو نيللينو، وعلى المصنفات الدينية والمنظومات القانونية كلٌّ من سنوك هورغرونيه وفنسنك وساخاو. وعلى التاريخ الاقتصادي والحياة الاقتصادية كارل هاينرش بيكر. وأوصل ذلك كُلُّه في العقد الثاني من القرن العشرين آدم متز إلى الكتابة في التاريخ الحضاري والثقافي، وكارل هاينرش بيكر للدعوة إلى علم الإسلام، والتاريخ الثقافي للحضارة. وهلموت ريتّر وماسينيون للعمل على الحياة الروحية في الدين والحضارة. وجوزف هل  ويورغ كريمر للعمل على استكشاف روح الحضارة.

وبقيت بالطبع الظلال القديمة والأُخرى الحادثة لهذه الأُطروحات المتقدمة. وأنا أعني بذلك استمرار الحديث عن الأُصول اليهودية والمسيحية للقرآن، والعوامل الإثنية والعنصرية والقومية في التمييز بين الحضارات والثقافات، وتبعية الحضارة الإسلامية في علمياتها وإنسانوياتها للحضارة الإغريقية والهيللينية؛ بما في ذلك تعليل الانحطاط الإسلامي على مدى ألف عام، باعتبار أنّ علته الانفصال عن المواريث الكلاسيكية، وسيطرة الاتجاهات المحافظة في المجالين الديني والثقافي.

 

 

II

من التواصل والإفادة إلى التأزم والانسداد (1895-1959):

شكّل مؤتمر المستشرقين عام 1895 فرصةً أُولى ومهمة للتواصُل بين المستشرقين الأوروبيين وذوي الثقافة والتوجهات النهضوية من العرب والمسلمين الآخرين. فقد ألقى أحمد شوقي الشاعر المصري الشهير قصيدةً عن مسار الحضارة الإسلامية، والتجربة الأندلسية، وتحدث آخرون عن إنجازات الحضارة، وعن فوائد التواصل بين الغرب والشرق. ومن الملاحظ أنّ معظم المشاركين في ذلك المؤتمر من المستشرقين الأوروبيين ما لبثوا خلال العقود الثلاثة اللاحقة أن قدموا إلى الهند ومصر والعراق وسورية، ودخلوا في مشروعاتٍ مشتركةٍ في تلك البلدان. وقد تميزت مصر في قدومهم واستقدامهم، لأنها كانت تملك مؤسسات ملائمة قائمة أو ظهرت فيما بعد،  من مثل استجلاب عشرات المستشرقين لتنظيم عملية المعجم التاريخي العربي الذي اقترحه فيشر، ثم للتدريس في الجامعة الأهلية المصرية، والأُخرى الرسمية من العام 1908 وإلى أربعينات القرن العشرين. والأهمُّ من ذلك أو على نفس الدرجة من الأهمية إقبال المصريين والعرب الآخرين والهنود على اجتراح مشروعات نشرية وحضارية وثقافية من وحي الفيلولوجيات والنهضويات والإنسانيويات الأوروبية. فمنذ أواخر القرن التاسع عشر ظهرت معاجم ودوائر معارف، وكتب قاسم أمين في تحرير المرأة، وكتب آخرون في النهضة الدستورية، وعبد الرحمن الكواكبي الحلبي ضد الاستبداد بعد مجيئه للقاهرة. وكتب جورجي زيدان عام 1913 في تاريخ المدنية الإسلامية، وفي تاريخ الآداب العربية وكتب الرافعي في أدب العرب، وإعجاز القرآن. وعلى عبد الرازق عن الإسلام وأصول الحكم. ومحمد كُرد علي الشامي عن الإسلام والحضارة العربية. واتفق طه حسين وعبد الحميد العبادي وأحمد أمين على الكتابة في تاريخ الحضارة الإسلامية؛ أحمد أمين عن الحياة العقلية والفكرية، وطه حسين عن الحياة الأدبية، والعبادي في التاريخ السياسي. وقد نفّذ أحمد أمين ما جرى الاتفاقُ عليه في فجر الإسلام، وضحى الإسلام، وظُهْر الإسلام عبر عشرين عاماً. أما المشروعان الآخران فنفّذهما تلامذتهما. فكتب شوقي ضيف التاريخ الأدبي العربي، وكتب حسن ابراهيم حسن التاريخ السياسي. ونشأت مدرستان للتحقيق العلمي للنصوص، التي ارتبطت بمشروعات ثقافية وفكرية: المدرسة التابعة لدار الكتب المصرية، والمدرسة الأُخرى بداخل الجامعة المصرية. وهكذا ساروا على خُطى علماء تحقيق النصوص من الأوروبيين، فقدموا نشرات رائعة لمشاهير المؤلفات القديمة، من مثل الأغاني والنجوم الزاهرة، والعقد الفريد وصبح الأعشى، وعشرات الدواوين الشعرية القديمة ومؤلفات الجاحظ. وارتبطت النشريات- كما سبق القول- بمشروعات ثقافية كبرى، وفكرية كبرى، شأن ما كان يجري لدى الأوروبيين من ميولٍ لليونان أو الرومان أو الحضارات الأسيوية أو الساميات أو العكس؛ وبخاصةٍ في زمان رومانسية القرن الثامن عشر([2]).

فكما ظهرت في أوروبا الذاتيات الثقافية الأوروبية وغير الأوروبية- أو الذاتيات الألمانية والفرنسية والبريطانية بالداخل الأوروبي، ظهرت الذاتية العربية والأُخرى الإسلامية، كما الذوات الوطنية العامة والخاصة والمحليات.

في هذا المسار الواعد، وإن أعاقته التمييزات والخصوصيات والمحليات، تعكّرت سلاسةُ مياه الانفتاح وانسياباتها بثلاث أطروحات تتعلق كلها بالأصالة والإبداع والاستقلال الحضاري. أما الأولى فانطرحت في البيئات الفرنسية في سبعينات وثمانينات القرن التاسع عشر وحمل لوءاها إرنَسْت رينان بشأن العقلية الآرية والأُخرى السامية، وإبداعية الأُولى، وجمود الثانية. وقد ردَّ وقتها عليه جمال الدين ومحمد عبده وآخرون ومن باريس بالذات. وبقيت لذلك آثار وبخاصةٍ عندما شاعت الأُطروحة الثانية وصلُب عودها؛ وهي القائلة بأنّ الازدهار الحضاري الإسلامي أتى من ارتباطه بالفلسفة والحضارة الكلاسيكية، وأنه تضاءل عندما نمت الاتجاهات المحافظة، وتعاظم السُخْط على ” علوم القدماء”. أما الأُطروحة الثالثة، فقد تجلّت في كتاب علي عبد الرازق: الإسلام وأُصول الحكم (1925)، والذي قال فيه بأنّ الإسلام لا يملك مشروعاً سياسياً، لأنّ دعوة النبي كانت دعوةً دينيةً بحتة.

كل الأطروحات السالفة الذكر لها علاقةٌ وثيقة بالإنسانويات الأوروبية وبالاستشراق. وإذا كانت الأُطروحتان الأُوليان قد استدعتا ردود أفعال من جانب المثقفين الذين شَدَوا شيئاً من المعارف الغربية والاستشراقية؛ فإنّ الأُطروحة الثالثة المتعلقة بالخلافة، إنما أثارت سخط العامة، وأثارت شكوكاً في الأنظمة السياسية الجديدة، باعتبار أنّ الاستعمارات الفرنسية والبريطانية والإيطالية والأسبانية هي التي تآمرت على دولة الإسلام والمسلمين. أما كتاب عبد الرازق نفسه فقد اعتبر ناقدوه أنه أخذه عن المستشرق مارغليوث. لكنْ هناك دليل أوضح على “رمزية” النزاع بشأن الخلافة. فأكبر الثَوَران على إلغاء مصطفى كمال للخلافة عام 1924، حصل في الهند ومصر. والهند الإسلامية ما خضعت أبداً لسلطان العثمانيين. أما مصر فما خضعت لهم عملياً منذ العام 1805! وعلى مدى ستين عاماً وأكثر ظلّت قصة الخلافة، وقصة تآمر المستشرقين الاستعماريين واليهود على الخلافة والسلطان عبد الحميد، حية. ثم لعبت دوراً مصيرياً في صعود القاعدة وداعش!

لكنْ في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين؛ فإنّ الانكسارات التي حصلت في المشروع النهضوي المرتبط بالاستشراق والنهضويات الأوروبية إنما أحدثتها شكوك وانتقادات المثقفين العرب والمسلمين الذين كانوا قد رفعوا رايات النهوض الثقافي الوطني والقومي على النهج الغربي الذي عرفوه من المستشرقين والنهضويين الآخرين. فقد شاعت أولاً طروحات الخصوصيات والذاتيات وأُمثولات البطولات الإسلامية والشرقية، في مثل العبقريات لعباس محمود العقاد، وإسلاميات طه حسين، ومسرحية (محمد) لتوفيق الحكيم. ثم مضت تلك التوجهات باتجاه أطروحة الأصالة والإبداع لمواجهة مقولة الانحطاط الإسلامي بعدما فارق المثقفون المسلمون القُدامى كلاسيكيات الحضارة الإغريقية. كانت الجامعة المصرية تحتضن عدة مستشرقين وباحثين في التاريخ العلمي والحضاري، وكان من بينهم كلٌّ من ماكس مايرهوف وباول كراوس. كان مايرهوف يدرس تاريخ الطب العربي والإسلامي، وينشر مخطوطاته، ويشرح علاقاته بالطب اليوناني القديم. بينما كان كراوس يدرس تطور الأفكار والعقائد الدينية والفلسفية، ويعيد الزندقة وما سمّاه التيارات التحررية إلى التأثيرات الإيرانية واليونانية والهيللينية والتي انتقلت إلى المسلمين عبر الفلاسفة والأطباء وعلماء الفلك والهندسة.

أما مصطفى عبد الرازق، شيخ الأزهر فيما بعد، وشقيق علي عبد الرازق- وكانا في شبابهما من تلامذة محمد عبده قبل أن يذهبا إلى فرنسا لمتابعة الدراسة- فإنه كان مدرّساً للفلسفة الإسلامية بالجامعة المصرية، وألقى محاضراتٍ جمعها فيما بعد عن الفارابي. لكنه أصدر في العام 1944 مجموعة محاضراتٍ أُخرى بعنوان: تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية؛ قلب فيها ترتيبات ونظام الإصالة والإبداع الذي وضع المستشرقون الغربيون في قلبه وعلى رأسه فلاسفة الإسلام فيما بين الكندي وابن رشد، وعبر الفارابي وابن سينا استناداً إلى علاقاتهم الوثيقة بالكوريكولوم الإغريقي في العلوم والفلسفة. قال مصطفى عبد الرازق إنّ الأكثر أصالةً وإبداعاً في تاريخ الفكر الإسلامي هم علماء أصول الفقه، ثم علماء الكلام، ثم المتصوفة، ثم فلاسفة الإسلام. وعمادُ ذلك مدى اعتمادهم على التفكير الذاتي، وعدم تبعيتهم للأنظمة الفكرية والفلسفية الموروثة عن الثقافة الكلاسيكية.  وبالفعل فإنّ ما عُرف فيما بعد بمدرسة مصطفى عبد الرازق، اتجه أعلامُها مثل علي سامي النشار ومحمود قاسم وأبو العلا عفيفي ومحمد مصطفى حلمي إلى قراءة تيارات الفكر الإسلامي القديم من هذا المنظور، أي التأصيل، ومجانبة الغريب والدخيل. وما ظلَّ أحدٌ منهم منفتحاً على أُطروحات التقدمية الاستشراقية لجهة التواصل في التاريخ الحضاري والثقافي والفلسفي، غير عبد الرحمن بدوي، الذي كان على أي حال كارهاً للمستشرقين الذين نقل عنهم كثيراً، واتهمهم كثيراً بجهل روح الحضارة ومقتضياته!

وقد ظلَّ هذا الاتجاه إلى القطيعة باسم الأصالة، تياراً بين تيارات أُخرى في الجامعات المصرية. إنما في الأربعينات من القرن العشرين، دخل على موضوع الأصالة المثقفون الإسلاميون الجدد، والآخرون الحزبيون. فمن لبنان أصدر الدكتور عمر فروخ خريج ألمانيا وتلميذ جوزف هَلْ، وزميله الطبيب الدكتور مصطفى الخالدي، كتابهما: التبشير والاستعمار، الذي اعتبرا فيه الاستشراق- شأنه في ذلك شأن التبشير- جزءًا من الاستعمار، بغضّ النظر عن أيٍّ من أُطروحاته([3]). وفي مصر حمل أساتذةٌ من دار العلوم والأزهر على الاستشراق، وعلى التيارات التغريبية  المتأثرة به، وقد اعتبرها محمد البهي (خريج ألمانيا ومدير الثقافة بالأزهر ورئيس تحرير مجلة الأزهر، ثم وزير الأوقاف وشؤون الأزهر) شعبتين: شعبة العلمانيين وشعبة اليساريين التي تريد تفسير التاريخ الإسلامي تفسيراً مادياً. وختم كتابه: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي(1957) في الطبعة الثانية الصادرة عام 1959 بقائمةٍ طويلةٍ بأسماء المستشرقين المتآمرين على الإسلام.

وإلى ذلك نهض- كما سبق القول- المثقفون الإسلاميون الجدد، والحزبيون منهم بمشروعٍ يتجاوز الأصالة والتبعية إلى قولٍ بالفصل القاطع  بين الحضارتين الإسلامية والغربية. بدأ عبد القادر عودة بالقانون الجنائي الإسلامي مقارَناً بالقانون الوضعي، ثم مضى إلى الاقتصاد الغربي والآخر الإسلامي، ثم إلى النظام السياسي الإسلامي والأنظمة الديمقراطية والفاشية الغربية. ومع سيد قطب والعدالة الاجتماعية، وقضايا السلام والحرب، وقضايا الحضارة؛ وصل صاحب الرؤية الإسلامية والتفسير السياسي للقرآن وعلى أثر المودودي، إلى الحاكمية، التي كان قد سبقه إليها كلٌّ من أبي الحسن الندوي وأبي الأعلى المودودي في المجال الهندي فالباكستاني. وفي الستينات والسبعينات صار الهجوم على الاستشراق، كلّ الاستشراق، عاماً وشاملاً. لكنّ هذا المجال أو هذا الخطاب الذي اعتبره إدوارد سعيد جزءًا من الخطاب الاستعماري عام 1977، كان قد جرى في الفكر الإسلامي الجديد تجاوُزُه باتجاه القطيعة مع الحضارة الغربية في شتى مناحيها ونظمها، وفي الكتابات العربية والإيرانية والباكستانية. وهكذا ما عاد هناك حديثٌ حتى عن الحضارة الإسلامية الأصيلة، بل عن النظام الإسلامي الكامل. ومع دخول السلفيات الجديدة على خط الثوران، مع تفاقم أزمات الدولة الوطنية، عاد موضوع الدولة الإسلامية والخلافة إلى التوهُّج؛ وبخاصةٍ بعد قيام نظام ولاية الفقيه في إيران. واقتصرهمُّ المعتدلين القائلين بترشيد الصحوة، على ضرورات تجنب العنف في إقامة الدولة الميمونة.

كلُّ هذا الحديث هو حديثٌ عن الشعبة العربية والإسلامية، والذي أنجزته الإحيائيات والأُصوليات في المشرق، ومن الأصالة إلى القطيعة، فإلى الطريق الثالث أو الآخر في إعادة بناء الحضارة، واستعادة الشرعية إلى الدولة والنظام السياسي. بيد أنّ القطيعة من الجانب الآخر الغربي والمتغرب ما اقتصرت على الماركسيين واليساريين العرب؛ بل هناك شعبة المراجعين الجدد التي أنجزت قطيعةً مُشابهةً سيطرت على الدراسات القرآنية والإسلامية العامة في الغرب في الثمانينات والتسعينات. ففي العام 1977 ما صدر كتاب إدوارد سعيد: الاستشراق فقط؛ بل صدر أيضاً كتابان آخران: كتاب وانسبورو:Qoranic Studies، وكتاب مايكل كوك وباتريشيا كرون: Hagarism، وانسبورو يعتبر أنّ القرآن كما نعرفه اليوم ما ظهر قبل القرن الثالث الهجري/ الثامن – التاسع الميلادي، مجموعاً من قِطَعٍ ونثائر تكونت بالتدريج في بيئاتٍ متشرذمة Secterian Milieu- أمّا الهاجرية  Hagarismأو الكتيّب الآخر؛ فيعتبر أنّ التاريخ الإسلامي الأول، وعلى مدى قرنٍ أو يزيد؛ تعرض المصادر التاريخيةُ العربية صورةً مقلوبةً عنه صنعتها الأرثوذكسية الإسلامية حسب حاجات الإمبراطورية في القرنين الثالث والرابع. فإذا أردنا أن نتعرف على أصول الإسلام، فينبغي أن نعود إلى الكتابات العبرانية والسريانية والبيزنطية المكتوبة في القرنين السابع والثامن للميلاد. وتوضّح كرون P.Crone في كتابها الآخر مع مارتن هايندز الصادر عام 1986 بعنوان: God’s Caliph  أو خلافة الله، ماذا استنتجت من المصادر غير العربية، وخُلاصةُ ما توصلت إليه أنّ القرآن والإسلام الأول كله والخلافة؛ كانت جميعاً عبارةً عن نثائر يهودية، بينما يريد بعض زملائها وتلامذتها القول بخليط من الدثائر والنثائر المسيحية واليهودية! ولا حاجة لعرض المزيد عن أطروحات المراجعين الجدد هؤلاء في التاريخ وعلم الكلام والفقه والحديث والتفسير. وإنما أختم هذه الفقرة عن لامعقوليات البحوث في المصادر والعلوم الإسلامية والتاريخ في الغرب على مدى عقدين بمقالٍ قرآْته في السبعينات على مشارف ظهور المراجعين في IJMES وهي مجلةٌ رصينةٌ في العادة. ففي العام 1974 فيما أذكر نشرت المجلة مقالةً عنوانها: الوجود التاريخي للمسيح أوضح وأصدق من الوجود التاريخي لمحمد!

III

من الانسداد إلى التأويليات

على مشارف الثمانينات من القرن الماضي، كانت كلُّ الآفاق قد انسدّت في مجال دراسات الإسلام. وقد كنتُ بين قِلّةٍ من الدارسين شعرتْ بعمقٍ بهذا الانسداد. ففي الجامعات التي كنتُ أعمل فيها، أو التي عملتُ فيها أستاذاً زائراً بالشرق والغرب، كانت الأجواءُ غير صحيةٍ أبداً. في كل الجامعات ومعاهد الدراسات الإسلامية، درّستُ على الخصوص ثلاثة أرصدةٍ أو موادّ: علم الكلام، والفقه والأُصول، وعلوم القرآن. ولأنّ مسألة المصادر صارت تلعبُ دوراً مهماً، فقد كنتُ أُضيفُ إلى برامجي أحياناً بالغرب: مصادر الدراسات الإسلامية. في المشارق، أي في بيروت وصنعاء والأردن والأزهر وجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، وأياً يكن موضوع الرصيد، ما كانت تشغل طلبة الدراسات العليا غير مسألةٍ واحدة: علاقة الدين بالدولة في الإسلام. وفي سالسبورغ بالنمسا وبامبرغ وتوبنغن وهامبورغ بألمانيا، وهارفرد وشيكاغو بالولايات المتحدة، كان الهمّ: متى أُلّف القرآن، وَمَنْ وضعه، وأَليس الأفضل الانصراف إلى الأنثروبولوجيا والسيوسيولوجيا واللسانيات، بدلاً من المتابعة التقليدية لنصوص المصادر المزوَّرة؟ حتى إذا كانت واقعةُ أُسامة بن لادن، ما عاد الهمّ غير علاقة الإسلام بالإرهاب، وكيف يمكن فهمُ ظاهرة العنف في أصول الإسلام والحاضر الإسلامي. ولذلك فقد انهمكْتُ على التوالي في الثمانينات والتسعينات بالردّ على دعاوى الدين والدولة الإسلامية، وعلى دعاوى لا تاريخية القرآن، ودعاوى صراع الحضارات. وبعد غزوة بن لادن للولايات المتحدة دخلْنا في أُطروحة الرئيس بوش أنّ المتطرفين اختطفوا الإسلام، وأنّ على المعتدلين استعادته! وكان من سوء الحظّ أوحُسْنه أنه خلال أكثر من ثلاثين عاماً كان مُتاحاً لي الإشراف على التوالي على ثلاث مجلاتٍ فكرية: الفكر العربي فالاجتهاد فالتسامُح/ التفاهم. ولذلك وفي مجلة الاجتهاد على وجه الخصوص، فيما بين العامين 1988 و2004 يجد القارئُ المتابع مراجعاتٍ طويلة لكل كتب باتريشيا كرون وبرنارد لويس ومارتن كريمر وأركون والجابري وآخرين كثيرين. أما الزملاء العرب من اليساريين والإسلاميين،  وقد اشتهرتُ بينهم بسبب المجلاّت التي رأسْتُ تحريرها؛ فقد أجمعوا على رجعيتي. وأما الزملاء الأجانب فقد أجمعوا على تقليديتي، وعدم قدرتي على فهم الأُطروحات المعاصرة في الدراسات القرآنية، والتاريخ الإسلامي. وما وجدْتُ شجرةً استظلُّ بها في دراسات اليساريين والإسلاميين العرب. أمّا في الغرب فظللتُ هرباً من المستشرقين الجدد أستظلُّ بمارشال هودجسون ومونتغومري وات وجوزف فان أس ومادلونغ وأخيراً بكتاب مايكل كوك عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر الإسلامي، والذي ترجمتُه إلى العربية، وما أزالُ أطمح لترجمة كتاب هودجسون. لقد تعبتُ بل تعبنا جميعاً من استكشافات أُصول القرآن والإسلام على مدى حوالى المائتي عام. وأكبر سلبيات الفيلولوجيا التاريخانية على الإطلاق الاعتقاد أنّ معرفة الأصل أوالـ Ur- Geschichte لأي دينٍ أو حضارة يجعل ذلك الدين أو تلك الحضارة مفهومين إلى حدٍ بعيدٍ أو كافٍ! وقد كانت أعمالي على أزمنة الثقافة الإسلامية الوسيطة وحيواتها في الدين والاجتماع والتفكير السياسي أو التفكير بالدولة تعتمد القراءة العقلانية النقدية للمفاهيم والمنظومات والمصطلحات/ المفاتيح. وهذا ما جذبني إلى أعمال حلاّق وموتسكي ونويفرت وشولر ويوهانسن. رغم أنّ البعض يشتغل على التاريخ والبعض الآخر يشتغل على المفاهيم. والتأريخ لتكون المنظومات، غير التأريخ للأفكار والمفاهيم.  بيد أنّ الأمرين أو التوجهين يتلاقيان في فهم المنظومة وآليات نشوئها وتقاليد استتبابها وتغيرها. لقد بدأ كلٌّ من حلاّق وموتسكي من نقد أُطروحة شاخت في أصول الفقه الإسلامي، بينما تتبعْتُ منذ البداية الأفكار والمفاهيم الرئيسية السائدة في الاجتماع باعتبارها هي المنتجة للمؤسسات في التاريخ. ويظهر ذلك بوضوح في كتبي الثلاثة: الأمة والجماعة والسلطة(1984)، ومفاهيم الجماعات في الإسلام(1985)، والجماعة والمجتمع والدولة(1997). أما كتبي في تيارات الفكر الإسلامي الحديث، مثل الإسلام المعاصر(1987)، وسياسيات الإسلام المعاصر(1997)، والصراع على الإسلام(2004)، وأزمنة التغيير: الدين والدولة والإسلام السياسي(2014)، والتراث العربي في الحاضر، النشر والقراءة والصراع (2014)، فإنها تعتمد منهج سوسيولوجيا الفكر، دونما تجاهُلٍ للمفاهيم أو المصطلحات المرجعية، سواء أكانت تاريخية ام مستجدة. انا أرى على سبيل المثال أنّ القرآن هو نصٌّ قائمٌ وموجودٌ في التاريخ، وهو يتضمن رؤيةً للعالم وأفكاراً وتوجيهات شأن الكتب الدينية الأُخرى. وقد احتضنته واشتغلت به وعليه ومعه الجماعةُ عبر التاريخ، وتجاورت وتحاورت رؤاه ومرجعياتُهُ مع مفاهيم وجودها وتكويناتها الفكرية والمرجعية، وهذه الحوارية أو هذا التواؤم شكّل منظومةً ما كانت متلائمة العناصر دائماً، لكنّ الجماعة مزجتْها ولاءمتها في حياتها التاريخية حتى صارت تقليداً أو تقاليد. وشأنُ الباحث أو الدارس أن يقرأ المنظومة في مرجعياتها من جهة، وفي عملها في الواقع التاريخي من جهةٍ ثانية. وكان ذلك عمل الفيلولوجيا، وبخاصةٍ بعد أن ازداد اعتمادها على التاريخ، أي عمل المفاهيم في حياة الجماعة في التاريخ. وبقيت هناك مشكلتان: هذا الهُيام بالأُصول، والطموح لتحديد أو تكييف روح ذاك النصّ أو تلك الحضارة. ومرةً أُخرى: لستُ أرى أنّ الأصل التاريخي للنصّ أو الـUr- Text  هو الذي يصنع الدين أو الحضارة. كما أنّ الفيلولوجيا ولو كانت تاريخية ليست قادرةً على تحديد أو اكتناه روح الحضارة استناداً إلى أساسيات أو فقه اللغة. فهي في إمكانياتها القصوى تفسيرية أو فاهمة كما يقول ماكس فيبر. ولذلك كان التاريخ الثقافي أو الديني هو أقصى ما يمكن للفيلوولجيا  التاريخانية عمله، وذلك من خلال أمرين: نشر النصوص نشرات علمية جادّة أي فاهمة، والأمر الآخَر: التحقيب إذا صحَّ التعبير. فإذا صارت الأنظمةُ المتكونة تقليداً تتكرر مفاهيمه ومرجعياته وعملياته في حياة الجماعة في التاريخ، أو ما سمّاه جوزف شاخت Living Tradition ، فعندها يكونُ على دارس الحضارة مثل غيبون أو توينبي أو نيدهام أو حتى ماسينيون أو لاووست أو جورج مقدسي أوهودجسون أو الجابري، المصير إلى النهج التأويلي. والعلماء المسلمون في العصور الوسطى أنفسهم، وعلى شدة اضطرابهم في تتبع المسارات التاريخية  لبعض المفاهيم، ظلُّوا يفرقون بين التفسير والتأويل.

الإسلاميون والمراجعون الجدد على حدٍ سواء، جَرّدوا النص من التاريخ، وليس أي تاريخ، تاريخ حياة الجماعة المستظلّة بالنص أو المحتضنة له. واليساريون العرب تبعاً لباشلار وفوكو هدفوا في عمليات إرادوية إلى القطع مع التقليد، باعتباره موروثاً متخلّفاً أو جامداً. والمراجعون الجدد عملوا خلال ثلاثين عاماً وأكثر على اختراع تاريخٍ للنص من خارجه، ومن خارج الجماعة، وتقليدها الحي. وإذا تحررتَ من المسار التاريخي لعلائق النص بالجماعة؛ فإنك تستطيع ان تفترضَ للنصَ القرآني أصلاً صينياً أو يابانياً أو ما شئت، وليس أصولاً يهوديةً ونصرانيةً فقط([4])!

لقد عانى الإسلام إذن، وعانت دراساتُهُ في العقود الأخيرة من مجموعةٍ من القطائع والاستقطاعات والإحالات التجزيئية والمشرذِمة. ويأتي ترحيبي بأعمال نويفرت وحلاّق وموتسكي على سبيل المثال، من واقع عمل أنجليكا نويفرت على بنية القرآن باعتباره نصاً قائماً بخلاف ما زعمه المراجعون الجدد. ثم تطورت دراساتها إلى بحوث تأويلية عميقة في عالم القرآن ومخياله، ودخلت في السنوات الماضية في التأويلية الكبرى المتعلقة بالـLate Antiquity . أما حلاّق وموتسكي فقد أعادا قراءة  ما سمّاه شاخت- كما سبق ذكره – بالتقليد الحي. فالتقليد الإسلامي العريق في التفسير والفقه وعلم الكلام والتصوف والفلسفة والتاريخ والأدب، والذي يتّسم بالغنى والتعدد من جهة، والانتظام والتواؤم في سياقٍ أو سياقات من جهةٍ أُخرى، ينبغي أن يُقرأ الآن مع تطور البحوث والمناهج في اللغات واللسانيات والعلوم الإنسانية والاجتماعية في سياق سردياتٍ كبرى تكشف عن حياته وحيوياته وعلائق منظوماته المشتغلة بعضها ببعض. وعلى سبيل المثال؛  فقد روَّعني عمل أستاذنا الكبير الراحل محمدعابد الجابري على الفكر الأخلاقي  الإسلامي، وتوصله إلى أنه فكر ساساني. فعمدتُ- باقتراحٍ من الأستاذ سيد ياسين عالم الاجتماعيات المصري الراحل- للقيام بتجربة بحثية تأويلية على تراتبية القيم بين القرآن وعلم الكلام، وبخاصةٍ ثلاث قيم، وهي العدلُ في القرآن وعند المعتزلة، والرحمة في القرآن وعند متكلمي الأشعرية، والتعارُف والمعروف في القرآن وعند المتصوفة والفقهاء وكُتّاب الأخلاقيات. وقد أوصلني المدخل التأويلي إلى نتائج مُذْهلة، ودائماً في نطاق حوارية النصّ والجماعة العالِمة والعامة في التاريخ. وأنا أتصور أنّ المنهج التأويلي في الحاضر والمستقبل يملكُ إمكانياتٍ كبرى في إعادة بناء الدراسات الإسلامية، للخروج من الانسدادات التي اصطنعتها صراعات الماضي والحاضر في الإسلام وعليه([5]). نحن بحاجةٍ في الإسلام والدراسات الإسلامية إلى سردية جديدة تقرأُ التقليد في حيوياته وانسداداته وتصدعاته بالمناهج الجديدة. ولدينا من زمن الفيلولوجيا التاريخانية، وزمن التاريخ الثقافي عُدَّةٌ لا بأسَ بها من البحوث الجزئية التي يمكن الإفادةُ منه كثيراً في السياق الجديد، والمنهج الجديد.

إنّ لدينا إذن ثلاث ظواهر تبعث على الأمل القوي في إعادة البناء في مجال الدراسات الإسلامية. أولى تلك الظواهر التطورات التي حصلت في العلوم الإنسانية والاجتماعية والتاريخ وقراءة النص الديني. لقد تصدعت سيطرة البنيويات والتفكيكيات في قراءات النص الديني والنص التاريخي. ووصل هذا التصدع إلى أعمال المراجعين الجدد وأهل الإسلاموفوبيا بعد أن داخَلَ دراسات الأديان الأُخرى. وهذه الجدائد التي نتحدث عنها ليست جميعها من التأويليات، لكنّ هذا النهج صار قوياً فيها.  لقد استنفدت التاريخانية إمكانياتها منذ عدة عقود، بدليل السطوة التي مارسها المراجعون الجدد يميناً ويساراًعليها؛ وبدليل الانصراف عنها إلى اللاتاريخ وإلى التلاعب الطفولي والعبثي بالفيلولوجيا تارةً باسم بحوث البنى، وطوراً باسم التفكيك إنكاراً لانتظام النص ولسياقاته. نعم نحن اليوم في خضمِّ تحوُّلٍ كبيرٍ في تأمل النص الديني والآخر التاريخي، ومفاهيمهما، وإمكانياتهما التأويلية وليس التفسيرية أو التطورية  أو العَقدية. هذه هي الظاهرة الأُولى التي نشهدها في مجال الدينيات والإنسانيات جميعاً ومنها القرآن والإسلام. وهذا المنهج الجديد الذي دخل على الإسلاميات بشقّيه المقارن والتأويلي، نشهد طلائعه في أعمال الباحثين الذين ذكرنا بعضهم، والبحوث الجديدة  التي ينتجونها، لإعادة قراءة النصّ وإعادة قراءة التاريخ.

أما الظاهرة الثانية فتتصل بالمادة التي نمتلكها من التراث الكلاسيكي في كل المجالات. وهي مادةٌ ضخمةٌ جداً أقبل التاريخاني على اختزالها في أحكامٍ اوانطباعاتٍ عامة، وأقبل المراجعون الجدد على إلغائها أو تفكيكها تمهيداً لذلك. هذه المادة عادت الآن للظهور، بل وما تزال تظهر جدائد فيها حتى بعد مائتي عامٍ من ازدهار ثقافة المخطوط. ولذلك فإنّ هذا الغِنى الشديد  والذي اعتُبر تحصيل حاصل من جانب التاريخانيين، واعتُبر مزوَّراً من جانب أهل الإنكار والإلغاء، صار ميزةً في ضوء المناهج الجديدة. ويكون على كلّ  الجادّين في مجال الدراسات الإسلامية الانعكاف عليه بالفعل، وعدم تركه في أيدي أهل القطيعة والنصوصية المغَلقة.

والظاهرة الثالثة انتشار المئات من الكهول والشبان العرب والمسلمين في معاهد وأقسام الدراسات الإسلامية في الغرب، وتسرُّب كثيرين منهم إلى الجامعات العربية والإسلامية، بعد إعدادٍ جيدٍ لجهة معرفة التراث في هذه الناحية أو تلك، ولجهة المناهج العلمية الجديدة التي صاروا يتقنونها ويبحثون ويكتبون بحسبها.

هل انتهت المشكلاتُ المتعلقةُ بالرؤية والمنهج؟ ما انتهت بالطبع رغم استنفاذ قواها. وذلك لأنّ المسائل الآن مزدحمةٌ في الحاضر. وحتى الصراع على قراءة الماضي إنما يتم في الحاضر وعليه. وقد كانت هذه الإشكالية موجودةً في كل المراحل، أي قراءة الماضي بعيون الحاضر. وعيون الحاضر اليوم جاحظةٌ أوعمياء، وفي كلتا الحالتين هي عاجزة عن القراءة السليمة. فيبقى أن نقول إنّ الظواهر الثلاث الحاضرة بقوة في الأكاديميا، تعرض إمكانياتٍ واعدة، ويكون علينا الإصرار والمتابعة من أجل استعادة القِوام والقِوامة.

 

[1]  Suzann L. Marchand, German Orientalism in the Age of Empire. Religion, Race, and Scholarship. Cambridge University Press, 2009.

[2]  قارن برضوان السيد: النشر التراثي العربي، الأصول والاتجاهات والدلالات الثقافية والنهضوية؛ في كتابي: التراث العربي في الحاضر، النشر والقراءة والصراع. هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، 2014، ص ص 73-98.

[3]  قارن عن ذلك مقالتي: ما وراء التبشير والاستعمار، ملاحظات حول النقد العربي للاستشراق؛ في كتابي:  سياسيات الإسلام المعاصر، بيروت: دار جداول، الطبعة الثانية، 2015، ص ص 105-128.

[4]  نشرتُ قراءاتٍ نقدية لدراسات المراجعين الجدد حول أصول القرآن. قارن: المستشرقون الألمان، النشوء والتأثير والمصائر. الطبعة الثانية. دار المدار الإسلامي، 2016، وبخاصة الصفحات 93-115.

 

[5]  أَلقيتُ في فبراير (شباط) (2017) بكلية الدراست الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة بقطر محاضرةً بعنوان: ما هي الدراسات الإسلامية: الماضي والحاضر والمستقبل. وقد نبهتُ فيها إلى أهمية المنهج التأويلي في إعادة بنائها.

Optimized by Optimole