التعدد والاختلاف في الأنظمة الليبرالية الغربية … كما يراهما تشارلز تايلر

Spread the love

taylor

بقلم: د. هيثم مزاحم — نشر الباحث سايد مطر كتاباً بعنوان «مسائل التعدد والاختلاف في الأنظمة الليبرالية الغربية: مدخل إلى دراسة تشارلز تايلر» عن «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات». وتايلر فيلسوف كندي تأثر فكره بمذاهب فلسفية شتى، وقد عيّنته الحكومة الكيبيكية مع عالم الاجتماع جيرار بوشار عام 2007 رئيسين للجنة الاستشارية الخاصة بممارسات التكيّف المتصلة بالاختلافات الثقافية. تُدرج فلسفة تشارلز تايلر الأخلاقية والسياسية بطابعها الجماعاتي في إطار التقليد الليبرالي الحديث، وذلك لأخذها الصريح بأهم مكتسبات الديموقراطيات الليبرالية الغربية، وهي المساواة في الحقوق والحريات المدنية والسياسية الأساسية.
كان لهيغل الأثر البالغ في فكر تايلر في عدد من مؤلفاته، إذ جارت فلسفة تايلر فلسفة هيغل في الكثير من جوانبها، خصوصاً في ما يتعلق باللغة، بالقول إن اللغة هي الوسيط الوحيد الذي لا يعبّر عن أفكارنا وعواطفنا فحسب، بل يساهم أيضاً في تكوين الأفكار وتظهيرها، غير أنه ما لبث أن تمايز عن هيغل واختلف معه. وسبب الخلاف هو ادعاء هيغل أن الوعي الذاتي (التفكّر) لا يعبّر عن معانيه في العمل الإنساني وحده، بل يتعدى ذلك وصولاً إلى تكشّف المعاني الذاتية تكشفاً نهائياً تاماً. وربما يفسّر هذا التباين بين الفيلسوفين، لجوء تايلر إلى مجاراة الفلسفة الهايدغرية والاقتباس منها في بعض من جوانبها المتصلة باللغة. فخلافاً لهيغل، يعتبر هايدغر، بحسب مفهومه الأنطولوجي الأساسي للوجود، أن اللغة تجتهد في وضع المعاني الوجودية في موطن التكشف الأصيل والمستمر للكينونة، لكن من غير أن تقفل إقفالاً نهائياً على باب هذا التكشف. وبيت القصيد في ذلك كله، وفق تايلر، هو أن العلوم الإنسانية لم تعد علوماً تأويلية.
واللغة، كما ينحو تايلر والفلاسفة، وسيط تعبيراني يستخدم أيضاً للتعبير عن مفاهيم العدالة. ولا تقتصر اللغة على التعبير عن «تصور الخير» الثقافي أو الخلفيات الثابتة ودلالاتها فحسب، بل تتعدى ذلك حتى ترتكز معايير العدالة على هذه التصورات وهذه الخلفيات الثابتة. وإذا نظرنا إلى تصورات الخير فسنجد أنها محكومة بالاختلافات والتنافسات حتى النزاعات في كثير من الأحيان. وعلى هذا يُطرح السؤال: كيف يمكن تصور العدالة الاجتماعية والسياسية وتأسيسها على مفاهيم الخير في حين أن هذه المفاهيم ذاتها تتضارب في ما بينها ويناقض بعضها بعضاً؟ والحال أن هذا التناقض بين تصور الخير (النسبي واللامعقول) وتصور العدالة (الكلّي) هو ما حدا تاريخياً بالديموقراطيات الليبرالية إلى أن تعتنق مبدأ الحياد السياسي إزاء تصورات الخير المتنافسة، وفرض المساواة بين الجميع بلا استثناء ومن دون تمييز.
أما مسعى تايلر الفلسفي، فهو نقدي لا يناهض الليبرالية الحديثة في حد ذاتها، إنما ينسلك فيها ويتفاعل معها فيستجلي نقاط ضعفها ومخاطرها، خصوصاً انحرافاتها الفلسفية المصطنعة. وهو يرى أن أصالة الفرد الأخلاقية لا تتحقق في معايير أخلاقية مجردة مفترضة أو مصطنعة أو في عقل أداتي نفعي، بل في التعبير عما يسمّى «الخلفيات الثابتة»، أي الموروثات الثقافية الثابتة التي رسّختها الرومانسية مثمنة دور اللغة والتقليد، وحتى الدين، في تكوين البنية الأنثروبولوجية، فهذه الموروثات تنشئ هوية الفرد التاريخية وتعتمل في تضاعيفها العملية والوجودية اعتمال التمايز والأصالة.
ويعتبر تايلر أن هذه الموروثات الثقافية هي قيمة أخلاقية بحد ذاتها، تساعد الفرد في فهم ذاته وتحقيقها من ناحية، وتمثّل مرتكزاً أساساً لفهم أصول الشرعية السياسية التي تبنى عليها التشريعات والقرارات العمومية من ناحية أخرى. من هنا أهمية الثقافة والبحث في ما تمثّله من حيث الأصالة والرصانة على المستوى الأنثروبولوجي والاجتماعي. فالثقافة، بحسب تايلر، ليست مسألة ثانوية تتعلق حصراً بما هو خاص، كما ساد الاعتقاد منذ الحداثة التي فصلت سياسياً وقانونياً بين السياسي (العام) والمدني (الخاص)، إنما هي مكوّنة للبنية الفكرية الأنثروبولوجية ومصدر جوهري يستند إليه تواصل الأفراد وتفاعلهم السياسي والمجتمعي. الثقافة هي منبع الفكر والعمل الإنساني التي بها يبلغ الفرد غاياته الطبيعية مبلغاً خاصاً فريداً، ومنها يستقي معاني حريته الديموقراطية فلا يعتصم بحرية مجردة مصطنعة فارغة من المعاني الثقافية والدلالات التاريخية الأصيلة، لأن نشاطه السياسي يصبح تعبيراً عن انتمائه التاريخي الحضاري.
يرى تايلر أن الديموقراطيات الليبرالية، أي الغربية الحديثة والمعاصرة، تتشابه في اعتناقها مبادئ أخلاقية ومعايير سياسية وقانونية مشتركة ثتبتها هذه المجتمعات في دساتيرها وطوّرتها مع مرور الزمن، إلا أن وجوه الاختلاف بين المجتمعات هذه تبقى في تمايزها الثقافي واختلافها اللغوي وفي اعتناقها تقاليد وقيماً وممارسات تختلف باختلاف تراثها وانتمائها التاريخي. ويعني هذا التمايز أن لكل مجتمع منها هوية خاصة، تجمع في مطاويها عنصر الشمولية (المساواة في الحقوق والحريات)، وعنصر الخصوصية أو الاختلاف (الثقافة والتاريخ).
ويصف تايلر هذه الديموقراطية الليبرالية الحديثة بـ «الديموقراطية الثقافية في الجمع»، حيث ما عدنا نتكلم عن الحداثة في المفرد، بل عن «حداثات متعددة». فتتشارك الديموقراطيات الغربية في اعتمادها سلة من المعايير السياسية والقانونية وتتمايز في هويتها الثقافية وانتمائها التاريخي، وهذا يعني أنه لا يمكن الفصل بين عنصر الشمولية وعنصر الخصوصية، وإلا حدث شرخ في الهوية كما حصل في الثنائية التي كرّستها الحداثة بين العقل والطبيعة أو بين المنطق والمضمون (الجوهر) وبين المادة والروح. ويعتبر تايلر أن الحداثة أخفقت في مراحلها الأولى في دمج مكتسباتها الجديدة، وفي جعل هذه المكتسبات تتصالح مع الموروثات الثقافية القديمة التي تمثلت في تصورات الخير الدينية والممارسات التقليدية. ويرى أن العسر واضح في انحسار الفضائل البطولية التي يسعى إليها المرء في الحياة، وأن الأفراد ما عادت لديهم غايات سامية تستحق الموت من أجلها.

الاعتراف بالتعددية الليبرالية السياسية
يبرز تايلر الأهمية القصوى للخلفيات الثابتة أو الموروثات الثقافية التي تعتمل في هوية الفرد التاريخية وتكوِّن بنيتها الأنثروبولوجية تكوينًا أصيلاً، وهو ما يؤكد ضرورة الاعتراف السياسي والقانوني بهذه الموروثات، بالنظر إلى أنّ لها أثرًا بالغ الأهمية في حياة الفرد وفي استنهاض المعية الإنسانية على المستوى العملي والوجودي.
ويكمن مسعى تايلر في البحث عن المنابع الأنثروبولوجية والأخلاقية للهوية الحديثة، وفي بلورتها واعتمادها قاعدة أساسية وضرورية ينهل منها الفكر السياسي وتستند إليها النقاشات العامة. وهو يعتبر أن أزمة الهوية الحديثة وعُسرها، والمسائل المتعلقة بإشكالية «الشرعية السياسية» التي أثارتها الحداثة، نشأت كلها نتيجة «الشرخ» الناشب في الفكر السياسي بين الحديث والقديم، وهو شرخ أفضى إلى إقصاء هذا الفكر عن الاستناد إلى تصورات الخير وتعابيرها الجوهرية، فامتد هذا الشرخ أيضاً إلى فصل المجتمع المدني عن الدولة، مروراً باعتماد التمييز بين الأخلاقي والسياسي، وصولاً إلى نشوء الدائرة الخاصة بالتوازي مع الدائرة العمومية.
ومن المعلوم أن المنظومة الليبرالية الكلاسيكية تشدد على ضرورة هذا الفصل بين الخاص والعام، باعتباره يدعم شرعية الحيادية السياسية للدولة إزاء التعقيدات اللاعقلانية التي تتميز بها «العقائد الشاملة» الدينية والفلسفية والأخلاقية. وتجلى هذا الفصل لاحقاً في فصل الواقعة الاجتماعية عن المعيار (Norme) في نطاق التواجه بين العلوم الإنسانية والنظرية المعيارية في العلوم السياسية.
يرى تايلر أن الشعور بالعسر في الغرب يتولد نتيجة انجراف المجتمعات الغربية المعاصرة إلى الأخذ بمخلفات الحداثة في فردانيتها الأداتية، على حساب روح الجماعة وقيمها التقليدية. فالعقل الأداتي هو نوع من العقلانية المنعتقة من روابط الغائية الطبيعية والثقافية، وهي روابط ما برحت ضرورية، من أجل تحقيق الذات والقدرات الإنسانية الكامنة. وقد نشأ نهج العقلانية الأداتية مع بروز المؤسسات الاقتصادية الصناعية الحديثة وأسواق التبادل التي نتجت منها.

من التعددية الثقافية إلى الاعتراف السياسي
يؤكد تايلر على ضرورة الاعتراف السياسي بالاختلافات الثقافية والعرقية، استنادًا إلى ما لهذه الاختلافات من أهمية بالغة على الصعيدين العملي والسياسي. ومن ثَمّ تجري محاولة التحقّق من توافق الاعتراف والليبرالية السياسية التي اعتادت تقليديًّا الحيادَ إزاء هذه المسائل الشائكة والنسبية والمعقَّدة. والاعتراف السياسي بالثقافة ضروري، فهو اعتراف يعرّف الثقافة كمنبع أصيل لتعيين المعايير الأخلاقية ويلهم التوجّهات السياسية الخليقة ببناء المدينة الإنسانية خير بناء. وأصبحت المجتمعات الغربية اليوم مجتمعات تتعدد فيها الثقافات والأفكار الفلسفية الأخلاقية والسياسية، ويسودها الاختلاف حتى التناقض والتنازع، فتحولت إلى مجتمعات «متعددة الثقافات» بفعل تنقل الأفراد الحر في ما بينها، وتنامي موجات الهجرة إليها. وقد حتّمت هذه التغيرات النظر في تداعياتها على هذه المجتمعات وتأثيرها البالغ في استقرارها الاجتماعي والسياسي.
لماذا يصرّ تايلر على ضرورة الاعتراف السياسي والقانوني بالاختلافات العرقية الثقافية والدينية، ألا تكفي المساواة الديموقراطية في الحريات وأمام القانون في الذود عن حق التمايز والاعتناق الحر لأنماط عيش فريدة يختارها الفرد (أو الجماعة) ويعرّف بها هويته الأخلاقية والوجودية؟ أم أنه يجب على هذه الدول أن تبدّل عقيدتها السياسية وتغّير نظرتها القانونية الكلاسيكية بموازاة هذه التغيرات حتى تواكبها؟
يقول الباحث سايد مطر إن قوام هذه الأسئلة هو الاستفسار عن دور ممكن لليبرالية السياسية إزاء مسألة الاعتراف. وهي الليبرالية التي ما برحت تقليدياً تعتنق «الحياد» إزاء المسائل العرقية والثقافية، بوصفها مسائل لا تعدو كونها خاصة ولا طاقة للدولة على النظر في شأنها. فقد كان التصور الليبرالي التقليدي يرى في الحياد السياسي ضرورة قصوى للنهوض بالاستقرار الاجتماعي، وإحدى الركائز النهائية التي تؤسس «الشرعية السياسية»، وذلك لسببين رئيسين هما: حماية الحريات المدنية من تدخل الدولة في مسائل كحرية الضمير والدين والاجتماع، ومنعها من أن تكون طرفاً ببت بطلانها أو أحقيتها. والثاني يُعزى إلى حماية الدولة نفسها من الجماعات العرقية والدينية، نائية بنفسها عن الحكم في تصورات الخير المختلفة التي ربما تعمد فئة إلى فرضها في الحيز العمومي على فئة أو جماعة أخرى.
أما تايلر، فيرفض مثل هذا الحياد الذي لا يعني إلا الابتعاد من الاعتراف بالمسائل التي تشغل بمقدار أكبر بالَ الإنسان وتحكم انهمامه الحياتي وتساؤلاته الوجودية. ويعتبر أن على الدولة أن تنظر إلى هذه المسائل الجوهرية، فلا تحصر وظيفتها في النظر في مسائل الاقتصاد والخدمات والتبادلات النفعية الصرفة فحسب، ما يضمن للأقليات مضماراً أوسع من الاعتراف يجيز لها التعبير عن تمايزاتها الثقافية والدينية في الحيز العمومي، فالادعاء بأن المعايير العمومية حيادية هو ادعاء زائف لأن هذه المعايير تنبثق في كثير من الأحيان من هوية الأكثرية التاريخية وانتمائها الثقافي. فالأعياد الرسمية وأيام العطل المعمول بها في المجتمعات الغربية، على سبيل المثال، توافق على وجه الحصر أعياد الديانة المسيحية.

المصدر: صحيفة الحياة

Optimized by Optimole