البرغي والآلة في السجون الإسرائيلية

Spread the love

بقلم الأسير كميل أبو حنيش* |
قبل سنوات بينما كنت أقف في غرفة الانتظار قبل إدخالي إلى السجن، سألت أحد السجانين: لماذا تأخر بقاؤنا في غرفة الانتظار؟ ومتى سندخل السجن؟ فأجابني بأنه لا يعرف، فأبديت دهشتي وتساءلت: ما هو عملك إن كنت لا تملك القدرة على الإجابة على سؤال بسيط يتعلق بمهنتك؟
فأجابني بلا اكتراث: ماذا أعمل؟ أنا مجرد برغي في آلة كبيرة.
لم أفهم حينها إن كان يقصد أنه برغي في آلة الدولة الكبيرة أم برغي في مصلحة السجون، وما أثار دهشتي أن هذه العبارة تكررت أكثر من مرة على ألسنة بعض السجانين في سجون مختلفة.
بقيت هذه العبارة في ذهني وهيمنت علي لفترة طويلة، وأخذت أتأمل واقع السجن (هندسة المكان، الإجراءات، الأسرى، السجانين والضباط…إلخ) وتخيلت هذه الآلة الضخمة “السجن” ونحن السجناء أشبه بالمادة الخام المراد إعادة انتاجها، فالعملية برّمتها – أي السجن بأدواته وبراغيه “السجانين”- او الأسرى المراد إعادة تصنيعهم هي عملية غير إنسانية وتنطوي على ثقافة عنصرية استعلائية تحتقر البشر، وتسعى إلى إفراغهم من محتواهم الإنساني.
إن تشبيه السجان لنفسه “بالبرغي في الآلة” ينطوي على توصيف دقيق لواقع الإنسان في الدولة العبرية، التي شهدت مؤسساتها في العقود الأخيرة عملية تحديث واسعة، وبيروقراطية شديدة وهادئة ودقيقة باتت تنتج بشرًا حياديين وباردين ومستلبي الإرادة، وخاضعين للإرشادات والتوجيهات الصارمة ويؤدون مهام ووظائف محددة من دون معرفة الغاية والهدف النهائي لهذه المهام.
لقد وصف عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر المجتمع الجديد بالقفص الحديدي في عصر الصناعة والتكنولوجيا حيث يسود التحجر الآلي، ويصبح الإنسان مسلوب الإرادة ويطغى عليه الانظباط الصارم للنظام السائد، فتسود أزمة المعنى في المجتمع الذي يقبل على عملية التحديث بطريقة هستيرية، ويصبح الفرد مهووسًا في تحقيق ذاته ولكن من دون أي طائل.
كما ابتكر فيبر مفهوم (rationalization) وهذا المفهوم يعني تزايد عملية الضبط المنهجي في كافة مجالات الحياة، وتساهم الإجراءات الحكومية في عملية الضبط الاجتماعي وتبنى على أساس تصورات علمية وقواعد عامة بحيث تجري عملية تنميط الحياة الإنسانية وفرض للنماذج الكميّة والبيروقراطية لمراقبة النشاط الإنساني والتحكم فيه، ويتم قياس أداء أي فرد بطريقة رياضية.
ففي هذا المجتمع – حسب فيبر – يجري التركيز على الإجراءات ويصبح البشر مجرد مادة وتتحول الوسائل إلى غايات، وفي قلب هذه البيروقراطية الشديدة التركيز تسود الحيادية التامة، ويؤدي كل فرد مهمة محددة له سلفًا ولا يتدخل بغيرها، بحيث تتكامل حلقات الأنشطة والمهام في سلسلة واحدة مع بعضها لتُنشئ النظام.
أما الأفراد في هذا المجتمع كما وصفهم هربرت ماركوز (بالإنسان ذي البعد الواحد) وهو الإنسان الذي لا يتقن سوى عمل واحد، أما اهتماماته فتكون منصبة على اتجاهات محددة من دون غيرها، والسمة الأساسية لهذا الإنسان هي البساطة وليس التركيب.
ترك لنا المفكر البولندي زيجمونت باومان سلسلة من المؤلفات التي تعالج المجتمع الحديث، وما يجمع بين هذه المؤلفات هو فكرة السيولة أو الرخوة (الحداثة السائلة، الحياة السائلة، الحب السائل، الزمن السائل، الثقافة السائلة، المراقبة السائلة، الخوف السائل). ففي هذا المجتمع يصبح كل شيء سائلًا يفتقد للصلابة، بعد أن تجري عملية إذابة وصهر البنى والمكوّنات القديمة، وتفكيك الروابط الإنسانية، وسيولة المعايير الأخلاقية، ويسود الخوف والقلق، وتتلاشى المشاعر الإنسانية. وفي هذا العثر باتت الدولة تتحكم بالمجتمع وتسعى إلى مراقبته وضبطه من خلال وسائل وأنظمة جديدة (الكاميرات – الأقمار الصناعية – طائرات بدون طيار – وسائل تجسس إلكتروني..إلخ)، وهي وسائل باتت تتحكم بكامل الحيز الإنساني وتنتهك خصوصيته وتجعله يستبطن الخوف والقلق والإنضباط التام.
أما ميشيل فوكو فقد رأى بـ”البانوبتيكون” (مراقبة الكل)، مرآة الحداثة ورأى في المراقبة مفتاحًا يتحكم بالروح ليغير السلوك والدوافع، ففي كتابه (المراقبة والمعاقبة وولادة السجن) يقول فوكو: “يتيح الجهاز الإنضباطي الكامل بنظرة واحدة رؤية كل شيء باستمرار نقطة مركزية تشكل بآنٍ واحد مصدر ضوء يُضيء كل الأشياء، ومكان تلاقٍ لكل ما يجب أن يعرف: عين كاملة لا يفوتها شيء ومركز نحوه وتتجه كل الأنظار”. وبهذه الرؤية الشاملة تصبح “الرقابة دائمة في مفاعيلها حتى لو كانت منتظمة عملها”.
ففكرة “البانوبتيكون” أو المشتمل أو البرج تسعى “للإيحاء إلى المعتقلين بحالة واعية ودائمة من الرؤية تؤمن وظيفية السلطة الأتوماتيكية”.
ويضيف فوكو في الكتاب: “وضع بنتهام المبدأ القائل بأن السلطة يجب أن تكون منظورة وغير ملموسة، منظورة: أي أن تكون ظل البرج المركزي العالي أمام عيني الموقوف باستمرار ومنه يتم التحديد فيه.
غير ملموسة: أي يجب ألّا يعرف الموقوف أبدًا إذا كان تحت النظر الآن، لكنه يجب أن يكون على يقين أنه قد يصبح تحت النظر دائماً”.
وفي الحالة الإسرائيلية يكاد يتطابق ما تم ذكره سابقًا على نحوٍ أكثر تركيزًا وكثافة عن غيرها من حالات الدول والكيانات الأخرى، لقد حولت الإجراءات والقواعد الصارمة وعملية التحديث المتسارعة والشاملة للمجتمع إلى قفص حديدي يؤدي فيه الأفراد وظائف ومهام محددة وشديدة التركيز، مما يحولهم إلى أفراد “الإنسان ذي البعد الواحد”. ولأنها تعيش ظروف الدولة التي لم تنشأ وتتطور بصورة طبيعية، فإن الأمن يشكّل حجر الزاوية التي تقوم عليه الدولة، ويصبح الخوف مسألة طبيعية يحتاج إلى إدارة مركزة وهذا الواقع يستدعي مستوى عاليًا من الضبط الاجتماعي والأمني وتتحول الدولة إلى برج أو مشتمل “بانو بتيكون” يراقب كل فرد في الدولة، الأمر الذي ينحم عنه حالة من الضبط والانضباط العالية.
وفي إطار عملية الضبط الممنهجة الصارمة، تقوم إسرائيل بعملية مزدوجة بهدف ضبط مجتمعين مختلفين ومتعاديين:
الأول: المجتمع الصهيوني، بحيث يجري إتخاذ إجراءات وقواعد لضبط المكوّنات الاجتماعية غير المتجانسة للمهاجرين المستوطنين، وتعمل على هندستهم ومراقبة أدائهم بصورة دائمة.
الثاني: خاص بالشعب الفلسطيني واستخدام وسائل أكثر عنفًا وتطرفًا وتركيزًا أثناء عملية السيطرة والضبط.
وفي حالة السجون الإسرائيلية تنقسم الإجراءات إلى قسمين:
تلك الخاصة بالأسرى الفلسطينيين الذين يطلق عليهم “الأمنيين” فيما الأخرى مخصصة للسجناء الجنائيين، وفي الحالة الأولى أي الفلسطينيون يجري التعامل معهم بإجراءات أكثر شدة وتركيزًا بوصفهم فئة معادية تسعى السلطات الاحتلالية لتحطيمهم وإفراغهم من محتواهم الوطني والنضالي والإنساني مقارنة مع نظرائهم الجنائيين الذين يجري التعامل معهم كمواطنين لهم حقوق مدنية وسياسية وإنسانية وتخصيص الموارد اللازمة لإعادة تأهيلهم.
إن الهندسة الصارمة والدقيقة للسجون المخصصة للأسرى الفلسطينيين والإجراءات اليومية مصممة للسيطرة على الوعي وصولًا إلى تدميره، فالدقة في تصميم السجون (الأسوار، الأبراج، الكاميرات، الألوان، الأسلاك، الممرات، الأبواب، الكلاب البوليسية…إلخ) تضفي نوعًا من الهالة والسيطرة التامة وتترك بصمتها الواضحة على الحواس وتنعكس بصورة عنيفة وقاسية على الوعي. أما الإجراءات في الداخل(المراقبة، العدد، التفتيشات، العقوبات، الحرمان، تكريس الخوف الدائم، حالة اللااستقرار…إلخ) تهدف إلى شل إرادة الأسير وإشعاره بالعجز، واستدخال الهزيمة إلى أعماقه وصولًا إلى تفكيكه وتدميره.
وتعتبر الكاميرات أهم أدوات المراقبة في السجون، لقد انتشرت الكاميرات في السجون في السنوات الأخيرة وتكاد تغطي كل زاوية في السجن، وشملت أيضًا غرف الانتظار والزنازين وحتى سيارات البوسطة التي تقل الأسرى من سجن إلى آخر، ولا يُستبعد أن تكون الكاميرات السرية في حجرات الأسرى، وبهذا يكون الأسير مراقبًا على مدار الساعة. فوجود الكاميرات بهذا الشكل المكثف تبعث على الشعور بعدم الارتياح وانتهاك الخصوصية، والكاميرا في غرف الزنازين أو العزل تشعر الأسير بأنه مراقب على مدار الساعة، وتعطيك إحساسًا بأنها لا تراقب حركات جسدك فحسب، وإنما أيضًا بوسعها قراءة أفكارك وكل ما يجول في ذهنك، وهو ما يولّد حالة من القلق والتوتر الدائم وتخلق أرضية للانضباط الخارجي.
أما من زاوية السجان فهو أيضًا لا يختلف عن السجين، فالكاميرا تراقب أية حركة من حركاته، وتشكل أداة صارمة للانضباط بالقواعد والتعليمات، فهذا السجّان (الذي يرى بنفسه مجرد برغي في آلة) يشعر أنه لا يملك القدرة على الفعل والمبادرة وأنه مجرد أداة تُنفّذ الأوامر، فهو منضبط للقواعد والتعليمات المركزة في تعامله مع السجين، وأيضًا في علاقته مع السجانين الآخرين، ويُهيّمن عليه إحساس أن ثمة من يراقبه على الدوام مما يجعل منه مسلوب الإرادة.
أما الفارق بين السجون الإسرائيلية في السابق وبينها اليوم بعد إدخال وسائل وأساليب “ما بعد حداثية” في عملية إدارتها، فقد كانت وظيفة السجن في السابق احتجاز الأسير لسنوات طويلة من دون السعي لاستلاب وعيه وتدميره من الداخل. أما اليوم فباتت وظيفة السجن السعي الحثيث للهيمنة على الأسير من الداخل وهزيمة وعيه، وقهر إرادته المقاومة. أما السجان فقد كان يمتلك هامشًا من الحرية والإرادة في علاقته مع السجين، فهو يحتك به، ويحادثه، يعذبه، يشتمه، ويمتلك القدرة على التعبير عن مشاعر الكراهية أو التضامن أو الغضب. وكان السجّان معبأً بأيدولوجيا ومواقف قد تلتقي أو لا تلتقي مع مواقف الدولة، غير أنه في التجربة الجديدة إنسان حيادي وبارد ولا مبالي ومُفرغ من أي محتوى ولا يملك القدرة على التعبير عن مشاعره، ونكاد نلحظ صورة هذا السجان النمطية في جميع السجون.
فمطلوب من السجن “الآلة” أن يعيد انتاج سجناء مهزومي الإرادة والوعي ومتساوقين تمامًا مع كل ما تمليه عليهم إدارة السجن، وبهذا فإن السجان “البرغي” يصبح مجرد أداة تؤدي مهمة محددة، ويتعين عليه أن يتقيد بشروط مهمته بدقة من دون أي اجتهادات أو مبادرات.
إن التناقض القائم بين السجين والسجان لا يمنع الادعاء بأن كليهما خاضع لشروط دقيقة وصارمة وإن كانت بأهداف متعاكسة، فكلاهما مراقب ومسلوب الإرادة ويبطن مشاعر الأبم والغضب والاحتجاج.
إن غالبية من يعملون في “مؤسسة مصلحة السجون الإسرائيلية” هم من أصول شرقية أو إثيوبيون أو دروز أو شركس وهي الفئات الأكثر تهميشًا في الدولة العبرية، من ناحية اقتصادية واجتماعية وثقافية ومستواهم التعليمي والأكاديمي متدنٍ، وبالتالي فهم ضحايا للهيمنة الاستعمارية الإشكنازية الصهيونية السائدة، وهم مرغمون على مزاولة هذه المهنة بسبب التهميش والاغتراب والاستلاب ويخضعون لدورات مكثفة، تجعل منهم مع الوقت مجرد آلات لا تفكر ولا تبتكر؛ إذ يوجد من يفكر ويبتكر ويخطط نيابة عنهم ويتحكم بكامل العملية عن بعد.
وإذا كان السجن يهدف إلى تفكيك الأسير وفك ارتباطه بقضيته، واستدخال مفاهيم جديدة إلى وعيه تشجعه على الانهماك فقط بذاته، والاستغراق في الاستهلاك وصولًا إلى تدميره من الداخل، فإن السجان كذلك يمر بعملية تفكيك من نوع آخر، فهو بالأصل مقتلع الجذور مع عائلته من موطنه الأصلي وتجري عملية تفكيكه عن ثقافته الأصلية، وإعادة دمجه في مجتمع يؤدي كل فرد فيه وظيفة محددة، ويظل يعاني من الاغتراب والتهميش، ويُرغم على مزاولة أعمال هامشية كالسجن ويجري تحويله إلى أداة خاضعة للإجراءات والقواعد التي تصبح مع الوقت أشبه بطقوس العبادة، من دون أن يتدخل أو يدرك الهدف النهائي، أو الغاية من الدور الذي يتعين عليه تأديته.
إن السجّانين، الضباط، المدراء،.. إلخ، وكل العاملين في مصلحة السجون يخضعون لنظام هرمي تراتبي صارم، وتجري عملية التخطيط من أعلى إلى أدنى، ويخضع الجميع لسياسات حكومية عليا تخطط لكل شيء، وبهذا المعنى تصبح المؤسسة بكاملها مجرد برغي في آلة الدولة، أو آلة في مصنع الدولة، وهو ما يعني قدرة الدولة على التحكم الكامل بالسجون الذين يصبح العاملين فيها مجرد أدوات مستلبة الإرادة، وتنفّذ كل ما تمليه عليهم الماكينة الأكبر في الدولة.
إن الاختلاف بين السجين والسجان في هذه العملية يكمن في كون الأسير يعتنق قضيته، تحميه من الانزلاق، وتحافظ على هامش واسع من الحرية والإرادة، وبالتالي فهو يحمي إنسانيته من التلاشي والانصهار ولديه وسائل مقاومة، ويملك القدرة على الاحتجاج. أما السجان فليست لديه قضية ولا يشارك في صياغة الأهداف والتوجهات، وليس مطلوبًا منه أن يفهم أو يدرك الغاية من أداء وظيفته المحددة، فقط مطلوبٌ منه أن يتقيد بالقواعد والتعليمات بحذافيرها.
إذن هذا ما قصده السجان “أنا مجرد برغي في آلة” أنه مجرّد من كل شيء حتى من إرادته ووعيه ومشاعره، ويبقى قاصرًا ومحدود التفكير وأحادي البعد في أداء مهامه.

*كاتب وروائي، أسير فلسطيني في سجن ريمون الصهيوني.